تحليل الولايات المتّحدة الأميركيّة
نبيل الخوري

هنري كيسنجر

صانع معادلة اللاحرب واللاسلم

9 كانون الأول 2023

مات هنري كيسنجر عن عمر 100 عام، تاركاً وراءه تجربة سجالية تُدَرَّس في الدبلوماسية والعلاقات الدولية. وتقييم تجربته في مقالة يفرض مسبقاً التواضع. فلا تكفي أطروحة دكتوراه لدراستها بجوانبها كافة. لكن لا يمكن لغيابه أن يمر مرور الكرام، من دون إعادة طرح بعض الإشكاليات التي كان كيسنجر عنصراً منها، لا سيما الإشكاليات الشرق-أوسطية.

من المعروف أن سمعة كيسنجر في الشرق الأوسط مشينة. أعداؤه يشيطنون سياساته. لكن أشد المعجبين بأفكاره وطرق عمله وكيفية «دوزنته» لأدق التفاصيل في خدمة استراتيجيته، لا يستسيغون تلك السياسات أيضاً. هكذا، تبدو صورته إذاً مهمشة في الخطابات والسرديات العربية. والحديث يدور هنا عن سرديات معروفة، معترف بها، وقائع مثبتة، يتناولها كيسنجر في مذكراته ومؤلفاته، لا عن سرديات يرددها «مُفَبْرِكو» الأفكار الخيالية، أبواق نظريات المؤامرة، كتلك التي تزعم بأن كيسنجر وضع خطة لترحيل المسيحيين من لبنان واستبدالهم بالفلسطينيين، في سبعينيات القرن الماضي. 


المصالح الأميركية والإسرائيلية

والحال أن سياسات كيسنجر في الشرق الأوسط ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنظرته العامة إلى السياسة الدولية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945 وبداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. وكيسنجر من موقعه ككاتب وأكاديمي، أو كمساعد للرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي (1969-1975) أو كوزير للخارجية (1973-1977)، كان ينتمي إلى «مدرسة الحرب الباردة» في السياسة الخارجية الأميركية، التي تنظر إلى العلاقات الدولية من منظور الاستقطاب العالمي بين محورين متناقضين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، المعسكر الرأسمالي بقيادة واشنطن والمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي. 

وفي أدبيات هذه المدرسة، يمثّل الاتحاد السوفياتي «منافساً استراتيجياً» للولايات المتحدة ينبغي الحفاظ على توازن القوى معه ومنعه من بسط نفوذه عبر العالم، لا سيما في ما يسمى بدول «العالم الثالث»، في مرحلة ما بعد الاستعمار. ويجب على واشنطن إذاً أن تكافح لحماية نفوذها وتعزيزه في «العالم الثالث». لكن كيسنجر تميّز في تبنيه مقاربة عقلانية لإدارة التنافس الاستراتيجي مع الاتحاد السوفياتي، فأراد تجنب مخاطر اندلاع حرب نووية معه بواسطة تفاهمات من أجل الحد من الترسانة النووية لدى القوتين العظميَيْن، لكن من دون إظهار أي ليونة مع السوفيات في الصراع على النفوذ العالمي، كما تدل التجربة في الشرق الأوسط.

في هذه المنطقة من العالم، أراد كيسنجر تحقيق هدفين أساسيين، أياً تكن الوسائل المستخدمة لتحقيق الغاية. لقد تمحور أداؤه حول كيفية حماية المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية وضمان أمن ووجود إسرائيل في الآن نفسه. والمصالح الأميركية البحتة كانت تقتضي تحقيق هدفين: إضعاف أو بالأحرى تصفية نفوذ الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط إذا أمكن؛ وتأمين إمدادات النفط إلى الغرب بأكبر كمية وأقل كلفة ممكنتين. هذه هي المعادلة التي تختصر هندسة كيسنجر لدبلوماسية واشنطن الشرق أوسطية، خصوصاً في سياقات ما بعد حربَيْ يونيو 1967 وأكتوبر 1973 بين العرب وإسرائيل.

لم يكن كيسنجر يقارب مشكلة الشرق الأوسط إذاً سوى من منظور المصلحتين الأميركية والإسرائيلية. وكان يهمّش أي مقاربة ترتكز على ضرورة إيجاد حل عادل لتلك المشكلة، من خلال معالجة جذورها استناداً إلى القانون الدولي الذي يفرض على إسرائيل انسحاباً كاملاً وبلا شروط من الأراضي التي احتلتها في العام 1967. من هنا كان كيسنجر معارضاً لأي مشروع سلام يفرض على إسرائيل تنازلات استراتيجية. فساهم في إجهاض محاولات سلفه في وزارة الخارجية، وليام روجرز، أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، للدفع باتجاه «تسوية شاملة» للصراع العربي الإسرائيلي. وحين خلف روجرز، اتبع ما يسمى بـ«سياسة الخطوة-خطوة»، التي تعني التعامل مع كل بلد عربي «على حدة»، واستدراجه إلى مفاوضات ثنائية تنتج حلولاً جزئية لا حلولاً نهائية للصراع.


لا سلامٌ شاملٌ ولا حربٌ شاملة

لم تكن تنحصر دوافع كيسنجر في حماية أمن إسرائيل فحسب، بل كانت تتعلق أيضاً بضرورة المواجهة مع الاتحاد السوفياتي. وإذا كان دعاة السلام الشامل في واشنطن، مثل روجزر، يعتقدون أن التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي هي مفتاح إضعاف النفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط، إلا أن كيسنجر كان يعتقد بأن السلام الشامل برعاية الأمم المتحدة، كان سيمنح موسكو دوراً وتأثيراً من خلال وجودها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، وبأن الحرب العربية الإسرائيلية ستتيح للسوفيات الحفاظ على دورهم وتأثيرهم من خلال مد يد العون لحلفائهم العرب، تسليحاً وتدريباً. 

هذا ما جعله يتكيف مع معادلة توصف بمعادلة «اللاحرب واللاسلم». بمعنى أنْ تبقى المنطقة بمنأى عن حرب شاملة، من شأنها تعزيز مكانة موسكو في المنطقة، ناهيك بأنها قد تؤدي إلى خطر الصدام المباشر الأميركي-السوفياتي، وهو أمر كان كيسنجر يتمسك بضرورة تجنبه. وأنْ يقتصر السلام في الشرق الأوسط على حلول منفردة، أو على تسويات وتفاهمات محدودة، تريح إسرائيل وتكون هي الرابح الأول منها، من جهة، وتحرم موسكو، المنافس القوي لواشنطن، من قناة تدخل مشروعة في عملية السلام، من جهة ثانية.

بمواجهة موسكو إذاً، اتبع كيسنجر استراتيجية تهدف لزيادة نقاط القوة والفرص وتقليص نقاط الضعف والتهديدات. فكانت أولوياته:

  • الحفاظ على اقتدار إسرائيل وتفوقها العسكري في المنطقة.
  • كسب المزيد من الأصدقاء العرب، في طليعتهم مصر أنور السادات، وجرها إلى سلام منفرد مع إسرائيل، أي سحب مصر بما تمثله من أهمية وحجم في العالم العربي، من الصراع مع إسرائيل.
  • تجنب محاولات التمرد في صفوف الحلفاء، مثل السعودية وملكها فيصل، الذي اغتيل في 25 آذار 1975، والذي كان قد استخدم «سلاح النفط» ضد أميركا وحلفاء إسرائيل في سياق حرب أكتوبر 1973، للضغط عليهم وحملهم على وقف دعمهم للأخيرة بمواجهة مصر وسوريا. تجربة الحصار النفطي تحولت إلى «هاجس» كيسنجر لاحقاً، لما تسببه من ارتفاع حاد في الأسعار وبالتالي زعزعة اقتصاديات الدول الغربية.
  • كسر منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها ظاهرة «راديكالية» قادرة على تشكيل رافعة لحركة إقليمية مربكة لواشنطن ومهددة لأمن إسرائيل. وتوجيه ضربة قاضية لهذه المنظمة كان شرطاً لتحقيق هدفين: أولاً، تعبيد الطريق أمام مصر للتوقيع على اتفاقية السلام. وهو أمر صعب في ظل وجود حركة تحررية «عالية السقف» ضد إسرائيل. ثانياً، قطع الطريق على مشروع بناء دولة فلسطينية مستقلة لم يكن يرى فيها كيسنجر سوى تهديد وجودي وجيو-سياسي خطير على «حدود» إسرائيل.
  • المقايضة مع من لا تستطيع واشنطن استمالته، لاسيما سوريا حافظ الأسد. فكانت رعاية كيسنجر لاتفاق «الخطوط الحمراء» بين إسرائيل وسوريا، الذي شرّع دخول القوات السورية إلى لبنان لضرب وإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية، مقابل ضمانات بعدم انزلاق الوضع إلى حرب إسرائيلية-سورية مباشرة. وقد كان كيسنجر مسروراً جداً برؤية نظام عربي، يزايد على الآخرين بشعارات القومية العربية، ويضطلع في الوقت نفسه بمهمة ضبط المقاومة الفلسطينية، لصالح سياسة كيسنجر في المحصلة.
  • الحفاظ على معقل مسيحي «حر» و«قوي» في لبنان، غير خاضع للهيمنة السورية، وقادر على مقاومتها حين يلزم الأمر. وهو ما حصل لاحقاً، في أعقاب اتفاقية «كامب-ديفيد» بين مصر وإسرائيل، حين انفجر الصراع بين القوى المسيحية اللبنانية والجيش السوري، وحين تحوّل لبنان إلى ورقة راحت تتناتشها دول مثل إسرائيل وسوريا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ولاحقاً إيران.

على الرغم من إظهار الاتحاد السوفييتي وحلفائه قدرة على الصمود بوجه الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، إلا أن كيسنجر سحب من تحت بساط موسكو القدرة على المبادرة وإعادة خلط الأوراق والمعادلات، منذ اللحظة التي نجح فيها بإبعاد مصر عن السوفيات بعد حرب أكتوبر. حينها، ساهم التلويح الأميركي باستخدام السلاح النووي ضد أي محاولة سوفياتية لمساعدة مصر وسوريا على الانتصار على إسرائيل، بتراجع الاتحاد السوفياتي. فكان هذا التراجع بمثابة بوابة دخل منها كيسنجر لإفهام مصر إنهاء الاعتماد على السوفيات، ولجعلها تدرك هي وسوريا بأنهما لا يمكنهما كسب الحرب بالاتكال على هؤلاء، وبأن لا سلام ممكناً مع إسرائيل، يعيد لهما أراضيهما، إلا برعاية أميركية. وهذا ما قاد إلى اتفاقات فضّ الاشتباك في العام 1974 بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا، قبل أن يقود القاهرة إلى السلام المنفرد مع إسرائيل. 


أثار كيسنجر

صحيح أن مرحلة ما بعد كيسنجر اتسمت لاحقاً بغزو سوفياتي لأفغانستان وتحوّل إيران إلى جمهورية إسلامية، في العام 1979، مما دفع واشنطن إلى وضع استراتيجية هجومية في الشرق الأوسط ضد السوفيات ولاحقاً ضد إيران... وصحيح أنه بعد حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي في العام 1991، بادرت واشنطن إلى إطلاق مؤتمر مدريد للسلام الشامل والعادل في الشرق الأوسط، في العام نفسه، وفق مبدأ «الأرض مقابل السلام»، وهو ما بدا وكأنه خروج عن السياسة الكيسنجرية… إلا أن رعاية واشنطن لاحقاً لاتفاقات السلام المنفرد بين كل من إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية (1993) والأردن (1994)، شكلت امتداداً لرؤية كيسنجر. وبالتأكيد، يعتبر تبني واشنطن لمبدأ حل الدولتين، أي قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى جانب دولة إسرائيل، مناقضاَ لنظرة كيسنجر الإقصائية حيال الفلسطينيين ودولتهم. لكن في نهاية المطاف، لم تضغط واشنطن بما فيه الكفاية على إسرائيل من أجل تسهيل قيام الدولة الفلسطينية القابلة للحياة. وأكثر من ذلك، سلكت سياسة تهدف إلى جر الدول العربية، كالإمارات العربية المتحدة والبحرين والمملكة المغربية والسودان والمملكة العربية السعودية إلى توقيع اتفاقات تطبيع مع إسرائيل، في تطور كاد ينسف القضية الفلسطينية وينهيها. وهذا بحد ذاته استكمالاً للسياسة التي وضع أسسَها كيسنجر، والتي لا تعنيها مسألة الحقوق والانسحاب من الأراضي المحتلة وعودة اللاجئين، بقدر ما يعنيها أمن إسرائيل.

بهذا المنحى، يمكن تحميل كيسنجر قسطاً كبيراً من مسؤولية استمرار الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني الإسرائيلي، وانعكاسات هذا الصراع على لبنان وجميع شعوب المنطقة. لكن مسألة «التأييد الأعمى» الأميركي لسياسات دولة الاحتلال الإسرائيلي والتقاعس الأميركي عن ممارسة الضغط اللازم من أجل دفع إسرائيل إلى تقديم تنازلات من شأنها تسهيل الحل العادل والشامل، هي مسألة تتأثر بالطبع، بخصوصية أفراد مثل كيسنجر وغيره، لكنها تتجاوز هؤلاء. فهمُها يتطلّب تفكيك الديناميات المؤثرة في عملية صنع السياسة الخارجية الأميركية. وهي مهمة أكثر تعقيداً من مجرد البحث في أداء وأقوال وألاعيب وزير خارجية، مهما كان بارعاً وماهراً وماكراً.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
ناشطون إثيوبيّون: محمد بن زايد شريك في الإبادة
إصابة عناصر في اليونيفيل باستهداف سيّارة في صيدا
الكنيست الإسرائيلي يقرّ ترحيل عائلات منفّذي العمليّات لمدّة 20 عاماً
إسرائيل تدمّر مبنى المنشية الأثري في بعلبك
جماهير «باريس سان جيرمان»: الحريّة لفلسطين
مطار بيروت يعمل بشكل طبيعي