في 21 نيسان، قُتِلَ تسعة أشخاص في بعقلين، من قِبَل زوج إحدى الضحايا، ثمّ جرت لملمة الجريمة تحت عنوان «جريمة شرف».
في 28 حزيران، انتشرت فيديوهات لشبابٍ في سحمر يتحرّشون بطفلٍ ويعتدون عليه جنسيّاً. ثمّ «نامت» القضية بعد تدخّل أحزاب المنطقة.
في 18 أيلول، أُحرِقَت الطفلة زينب الحسيني (14 عاماً) في الضاحية الجنوبية، حتّى الموت، والأرجح أنّها تعرّضت للاعتداء قبل ذلك، من قبل ثلاثة أشخاص بالغين. وتتّجه الأمور اليوم، من جديد، إلى «لفلفة» الموضوع.
ليست هذه الأحداث إلا بعضاً ممّا نُشر. وما نُشر، بدوره، ليس إلا بعضاً ممّا حدث فعليّاً. ففي لبنان، التعدّيات اللفظيّة/ ثمّ الجسديّة/ ثمّ الجنسيّة/ ثمّ الاغتصاب/ ثمّ القتل، تتسلسل وفق نمطٍ مُريب ومتسارع؛ لا سيّما في أوساط الفئات العمرية الشابة وما دون، ولا سيّما تجاه الإناث منهم.
قبل كلّ شيء، لا: الحق مش ع زينب، ولا على باقي الضحايا. فهم عديدون ومتعدّدون لدرجة تنفي أن يكون سبب الحادثة متعلّقاً بالضحيّة، أكان بمظهرها أو تصرّفاتها أو غيره. ولا، المسألة ليست عابرة. والأكيد أنها ليست أزمة «أفراد غير منضبطين» فحسب، بل أيضاً أزمة منظومة تتهالك.
فالانهيار الحالي ليس محصوراً بمستواه السياسي، أو الاقتصادي، بل بالمستوى الاجتماعي أيضاً- تحديداً، منظومة القيَم الأخلاقية السائدة في بنيتنا الاجتماعية، والتي تولّد، بطبيعتها، أفراداً يحملون قابليةً على ارتكاب جرائم كهذه. وتُغذّى هذه القبلية، عندما تعوّم هذه المنظومة إيديولوجيّاتٍ لا تسود إلّا عبر الكبت الجنسي والذكورية، وعبر التلطّي بفائض القوّة وشريعة الغاب لاستباحة ما يطيب للمجرم أن يستبيح، وعندما تروّج لصورةٍ نمطيةٍ عن المرأة (أو الطفل) على أنها «شيء»، ويُفترض لهذا الشيء أن يكون مستضعفاً وخاضعاً لسلطة الغير.
ويطبّع العامّة مع هذه التجاوزات عندما تغيب المحاسبة، وعندما تُلَفلف قوى «الأمر الواقع» القضايا، وعندما تتدخّل «الفعاليات»، وعندما يُصار عمداً إلى التضليل الإعلامي ونشر أكاذيب من شأنها التحريض على الضحية، فينشغل الرأي العام بجلدها، وقتلها مرّةً أخرى، عوضاً عن البحث في الأسباب الفعلية للجريمة.
أمّا الاضطرابات السلوكية التي تفشّت في جريمة الطفلة زينب، فهي لا تنفصل عن:
- الواقع السياسي والإيديولوجي للمجرمين. فهم ليسوا أفراداً، هم نموذج. هذا ليس عملاً فردياً، هذه نتيجة المنطق الجماعي الذي يهدف إلى «هيكلة الإنسان جنسياً» بشكلٍ مكبوتٍ وغَير سويّ أسوَةً بفكرٍ غَيبيٍّ مُجَرَّد. <.li>
- الواقع الاقتصادي- الاجتماعي لهؤلاء الأفراد نفسهم. هم مجرمون، طبعاً؛ لكنّ المنظومة التي همّشتهم، عن سابق تصوّر وتصميم، مجرمة كذلك.
أمّا الأوقح، فهو ما بعد الجريمة، في تطوّر إبداعات التبرير. فقد بات منطق لوم الضحيّة مُسلَّماً به مع كلّ حادثة من هذا النوع. وقد يجد المتابع، لا سيّما إن كان من بيئة المجرم نفسها، أنّ هذا هو المنطق القويم- لا لشيءٍ، سوى لأنه تأدلَجَ على أن يرى الأمور من هذه الزاوية، تلك التي ستجعله يعتقد وهماً أنّ ما حصل هو حساب الضحيّة كونها هي المخطئة (حسب ظنّه).
وهذا ما يخفي عوامل عدّة، موجودة فعلاً، ساهمت في حدوث الجريمة: الكبت، والأخلاقَويّة الجنسية، ونفي الحياة الجنسية عند المراهقين، وتمجيد الذكورية، والعائلة السلطويّة كجهازٍ للتربية، وإشكالية المسكن...
يمكننا أن نضيف أنّ جميع الضحايا، بمَوتهم أو عذابهم، دفعوا ضريبة سكوت السواد الأعظم من المجتمع. السكوت عن مناهضة المتحرّشين والمغتصبين علانيّةً، والتطبيع مع المنظومة الّتي تولّد مغتصبين، وتتجاهل كل القضايا المتعلّقة بالأحوال الشخصية عموماً، والمسائل الجنسية خصوصاً، نزولاً عند رغبة «البيئة»، أو خلف ستار «العَيب».