وصلتُ إلى نيجيريا ومعي راتب 14 شهراً، وعندما أردتُ أن أنفق هذه الأموال تبيّن أنّها مزوّرة. اعتقلتني الشرطة النيجيريّة لحيازتي دولارات مزوّرة. أرجوكم أيّها اللبنانيّون، ساعدوني في مسألة هذه الأموال التي قبضتُها من السيّدة باميلا والسيّد فرنسوا.
نُشِرَت القصّة في الثامن من الشهر الجاري، وتمّت متابعتها من قبل عدد من الجمعيات. تأمّلتُ في وجه تلك المرأة، وتأمّلتُ في حقارة بعضٍ ممّن لا تليق بهم الحياة، من دون أن أجد كلماتٍ لوصف القهر في عيونها، والغضب الذي انتابني.
لم أعرف اسمها بعد. امرأة مجهولة الاسم، نيجيريّة الجنسية، عملَت في منزلِ عائلةٍ لبنانيّة طيلة 14 شهراً من دون أن تحصل على راتبها إلّا يومَ مغادرتها لبنان. وضَعَت لها العائلة ما قيمته أقلّ من أشهُر عملها الفعلية في ظرفٍ مغلق، بحجّة أنّ ذلك أكثر أماناً. عادت المرأة سالمةً غانمةً إلى بلادها، مطمئنّة البال أن مالها في الظرف. خلف البحار، في نيجيريا، تفاجأت عندما قصدت محل الصَّيرفة، إذ تبيّن أنّ هذه الدولارات ليست بدولارات، بل مجرّد ورق.
عائلة لبنانية حقيرة، وامرأة مجهولة الاسم. أتكفي لها الوردة؟
الثلاثاء الفائت، نظّمت عاملات أجنبيات وعدد من المنظّمات الحكومية وقفةً أمام قصر العدل في بعبدا، للضغط على القضاء في ملف ميزيرت. والملف هذا، هو أوّل قضية جنائية لمخاصمة العبودية والإتجار بعاملات المنازل المهاجرات في لبنان. أمّا ميزيرت، فهي امرأة أثيوبية، استقدمها أحد «مكاتب الخدم» في لبنان لتعمل في المنازل.
لكنّ ميزيرت لم ترَ عملاً، ولا حتّى استغلالاً خلال العمل، ما رأته يُسمّى عبودية. فقد احتُجزَت في شقّة الكفيل لأكثر من ثمانية أعوام، بينها 7 أعوام من دون أجر، عملت خلالها بشكلٍ يوميّ لِما يُقارب الـ15 ساعة يوميّاً، من دون أي يوم إجازة. كما لم يُسمَح لها بالخروج من المنزل، إطلاقاً، إلّا من أجل تنظيف مكان عمل الكفيل.
عائلة لبنانية حقيرة، مجدّداً، وميزيرت تخوض معركتها في القضاء اللبناني، فهل تُرافع عنها الوردة؟
فوستينا تاي أعرف اسمها، من دون أن أعرفها. لكنّ فوستينا اليوم في عالمٍ آخر. في شباط 2020، عُثرَ على جثّتها في موقف للسيارات تحت منزل صاحب العمل في الطابق الرابع في الضاحية الجنوبية لبيروت. فوستينا التي أتت من غانا، قيل إنّ ربّ العمل ضربها حتّى الموت لأنّها أكلت قبل الموعد المحدّد للعشاء. ربّ العمل الذي اتّخذ مكان الربّ، أحتقرهُ. في الواقع، أحتقرهما كلَيهما، طالما أنّ فوستينا قد ماتت.
أحاول أن أتخيّل كيف استقبل أهلها جثّتها، كيف شرحوا لهم سبب الموت؟
ربّ عمل حقير، وفوستينا، وصندوق خشب وصل إلى شاطئ غانا، فهل عليه وردة؟
بالمقابل، ساجيتا لم تمت. الحمدلله. لا بل الخبر السارّ- استثنائيّاً، هو أنّ ساجيتا لاما «تحرَّرَت». نعم تحرّرت، من عبوديةٍ بالمعنى الحرفي للكلمة، وليس فقط من عبوديّة نظام الكفالة.
بعدما أتت من النيبال، أمضت ساجيتا مئة وعشرة أشهر في منزل مصفّف الشعر ريتشارد خوري وزوجته رنا جرمانوس، من دون راتب. خلال تلك المدّة، كانت ساجيتا مُحتَجزة من دون أن ترى الشمس خارج المنزل ولو لمرّة. بعد أيّامٍ من إطلاق حملة «الحرية لساجيتا»، اقتحمت قوى الأمن منزل خوري، ونُقلت ساجيتا إلى ملجأ آمن، علماً أنّها لم تحصل على كافة حقوقها من العائلة، بعد. حينها، كشفت منظّمة «ذيس إز ليبانون» أنّها تُتابع ملفّين مشابهَين.
مصفّف شعر حقير، وساجيتا الحرّة، فهل قطفت وردة عند دخولها أوّل حديقة؟
منذ مدّة، انتشر خبر العثور على جثّة عاملة مهاجرة في منزل كفيلها. تضاربت الأخبار حول ظروف الموت، غير أنّ الرواية الأكثر شيوعاً تحدّثت عن مشنقة، دون ذكر هويّة الشانق، أكانت العاملة نفسها، أم كانت جريمة قتل؟
توثّق إحصاءات مبنية على ما كشفته تقارير الأمن الداخلي في لبنان وقوع 1,366 حالة انتحار في لبنان بين عامَيْ 2008 و2018، بينها نسبة 13.4٪ من العمّال والعاملات المهاجرين الإثيوبيّين (إلى جانب 10.9٪ من السوريّين و2٪ من الفلسطينيّين).
طبعاً، هذه هي الحالات الموثّقة فقط. لا بل، هذه هي المسجّلة رسمياً كـ«انتحار»، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أنّ تلك العاملات انتحرنَ. احتمالات القتل العمد واسعة.
وهكذا، تبقى آلاف العاملات المهاجرات تحت التعذيب، والمئات تحت العبودية، والعشرات وُجدن أمواتاً، ونظام الكفالة واقف على قدمَيه كالوحش، وحقارة بعض اللبنانيّين تجاه هؤلاء باتت مشكلة بنيوية، لا مجرّد حوادث فرديّة.
فإلى كل المذكورات في المقال، وردة، علّها تعوّض شيئاً ممّا واجهنَه في هذه البلاد الحقيرة.