الذاكرة والمخيّلة ولون الدم
61
دقيقة

← ساهمت الصديقة لمى المولى، مشكورةً، بإتمام هذه المادّة عبر مشاركة ما يلزم من مراجع نظرية وبصرية، وأفكار.

 ←  ارتأى فريق التحرير تمويه عددٍ من الصوَر. يمكن الضغط عليها لمشاهدتها بلا تمويه.


ما يحدث في غزّة أكثر من إبادة جماعية،
وأقلّ من أهوال يوم القيامة
— محمد زيديه

 

الذكريات في قلبها شظية
— محمود عوسج

 

الإبادة / الإبادة الفائضة

منذ مدّة، أرى الأشياء باللون الأحمر.

لا— منذ مدّة، لا أرى الأشياء إلّا باللون الأحمر. كمن وضع عدساتٍ لاصقة، حمراء، على عينَيه. عدسات تلوّن، لكنّها تتفاعل أيضاً مع الحقل المرئي وتُضيف عليه: مفاتيح الحاسوب التي أضغط عليها الآن، أراها ملطّخةً بالدم؛ كوب الماء الشفّاف بجانبي، يكتسب لوناً؛ المبنى الظاهر من النافذة، يفقد طابقاً؛ سيمبا الذي يأكل حبوبه، أراه ينهش لحماً؛ العدّاء في الحَيّ، أراه يهرب.

وحدها الغيمة تبقى غيمة. 

Source: Hassan Fneich, 9 February 2024

أنا هنا، في بيروت، على الشاشة. أحدّد موقعي؛ لستُ في غزّة، ولا يطالني القصف. عَنَيتُ ذلك عندما بدأت كتابة النَّص. اليوم عند النشر، يبدو أنّ القصف أوشك أن يطالنا. أُدرك فروقات الموقعَين. كما أحاول التمييز بين مستويَين: المُعاش (بالمعنى المباشر للكلمة) وصورته (أو المُعاش بالوساطة)، أي جزء الإبادة الذي يصل إلينا عبر الصوَر والأخبار، أي الجزء الذي يفيض عن التجربة المُعاشة للإبادة. لنصطلح على تسمية ذلك «الإبادة الفائضة».

الكتابة إذاً عن هذا الشقّ. فلستُ مخوّلاً ولا أتجرّأ أن أكتب، من كرسيَّ الهادئ، عن الشقّ الأوّل.

«الإبادة الفائضة» إذاً، أو الإبادة بالوساطة، لها بدورها وجود وحيثيّات تصل إلى خلق تجربةٍ مُعاشة أخرى (ثانوية، نسبةً للتجربة الأساس)، كما لها عقلٌ يتلقّاها. لها أيضاً عقلٌ يُهندسها. إسرائيل، إذ ترتكب إبادةً في غزّة، تفكّر بأساليب توسيع هذه الإبادة إلى ما هو أبعد من الجغرافيا، أبعد من القطاع المُحاصَر: أو، تعميم الإبادة بالزمان والمكان: أو، فتح حدود الفظيع.

 

العنف الفائض

جزءٌ وفيرٌ من العنف المُمارَس على قطاع غزّة هو عنف استعراضي. عنف لا حاجة «عملانية» له. عنف فائض عن حدّه. عنف يحقّق نتائج كان يمكن تحقيقها بأساليبَ أبسط. في مقالٍ نُشر في صحيفة هآرتس بتاريخ 7 آذار 2024، يقول ضابطٌ سابق في الجيش الإسرائيلي «إنّنا نهاجم أهدافاً عديدة من دون السؤال عمّا إذا كانت تستحقّ بالفعل مهاجمتها، والمدفعية تُستخدم في أمكنة غير إلزامية حقّاً [...] بالمبدأ، من الممكن تحقيق نتائج مماثلة بـ10٪ فقط من الدمار الذي أحدثناه». لكن غزّة «مختبر» بالنسبة للعقل الاستيطاني وللسوق الحربي.

وما يجب اختباره، ليس محصوراً بالمعنى الملموس للكلمة (مثل تجربة أسلحة جديدة لضمان نجاحها بهدف بيعها لاحقاً)، بل أيضاً بالمعنى المجرّد. ثمّة ما يجب تجربته، على مستوى العنف، للبحث عن «الحدّ المقبول» في العالم لعنفٍ يُمارَس على شعبٍ بأكمله. الحدّ المقبول: الحدّ الذي لن يستدعي معارضةً تكفي لكبح هذا العنف. الحدّ المسموح استمرار كل ما هو عنده وما دونه.

عرضت إسرائيل نفسها لإتمام هذه المهمّة. نجاحها يُتيح لدول العالم رفعَ منسوب العنف بممارساتها، بلا حرجٍ من ردّة فعلٍ دولية. فالاحتلال الإسرائيلي يُمارس اليوم أعلى درجةٍ من العنف على هذا الكوكب. بذلك، يُرسي حدوداً جديدة، ومعياراً جديداً للمقارنات. اعتراضٌ ما على ممارسةٍ عنفية ما، مهما بلغت شناعتها، يمكن مواجهته بإظهار سخافة هذا العنف نسبةً لما ارتكبته إسرائيل.

«على الأقلّ لم نقصف مستشفى». «على الأقلّ لم نسرق أعضاء القتلى». «على الأقلّ قتلنا شخصاً واحداً، لم نمحُ عائلته من السجلّات». ما تَغَيّر خارج قطاع غزّة، بعد هذه الإبادة، هو هذه الـ«على الأقلّ».

بتعبيرٍ رياضيّاتي، وسّعت إسرائيل الـlimiting case / حدود الشيء القصوى. فائدة هذه الحدود أنّها تُستخدم لاحتساب المعدّل المتوسّط. توسيع هذه الحدود، يعني رفع المعدّل المتوسّط من الشيء، أي القدر «المقبول».

بهذا المعنى، تسدي إسرائيل اليوم خدمةً لدول العالم، لأنظمته القمعية. بالنتيجة، نصل إلى ما يصيغه الكاتب ياسين الحاج صالح كالتالي: [...] ما يضفي مزيداً من الوجاهة على فكرة أن النظم الشرق أوسطية، ونظم العالم ككل، تصنع ممكنات لبعضها، وصولاً إلى صنع مستحيلات، أو ما كان يبدو كذلك قبل قليل. فإذا أمكن هنا قتل الناس بعشرات الألوف ومئاتها بالتعذيب، أو بالسلاح الكيماوي أو بالبراميل، وبالفوسفور الأبيض والقنابل الفراغية، فلماذا لا يمكن هناك؟

«العنف الفائض» إذاً، العنف الاستعراضي، العنف العظيم إلى حدّ تأدية غرضٍ خارج النطاق الملموس لممارسته؛ هذا العنف، يحيلنا إلى مفهوم «الفظيع» (كما يرد بأعمال الحاج صالح)، وهو المفهوم الذي سيعود إليه هذا المقال مِراراً. فالفظيع- أكثر من مفهوم العنف الذي يحيل إلى ممارسة- مفهومٌ يحيل إلى علاقات سياسية؛ كما يحيلنا إلى علاقاتٍ بصرية: يصير الكلام على ممارسة «الفظيع» لا نسبةً لدرجة وعلاقات العنف المُمارَس فقط، بل أيضاً نسبةً لطريقة إخراج هذا العنف بصرياً.


تلخيص

ما يحدث يتخطّى العنف، إلى حدٍّ يشكّل إبادةً فائضة تخدم بدورها أنظمة الاستبداد؛ وهذا كان القسم السهل من الحديث، والثانوي. إنّما للعنف الفائض تبِعات أوسع وأخطر من تبعاته على «الحدّ المقبول» وعلاقات الدول بين بعضها: أقصد هنا تبِعاته علينا نحن.

والـ«نحن» هنا تقصد:
بالمقام الأوّل، مَن يعيش الإبادة؛
بالمقام الثاني، مَن يتابعها / يتماهى معها / يعيشها بالوساطة— ضمناً أولئك الذين يتجاهلونها، أو يطبّعون معها أو يعتقدون أنّهم غير معنيّين. لكن لا، جميعكم معنيّ بالإبادة؛ أو على الأقل وبالتأكيد: الإبادة مَعنيّة بكم.

وبتفصيلٍ إضافي، فإنّ الإبادة تؤثّر:

  1. على حيوات الغزّاويّين أنفسهم،
  2. على ذاكرة الغزّاويّين ومخيّلتهم ووضعهم النفسي والجسدي خلال العدوان، وبعده،
  3. على المتفرّجين المتماهين مع ما يُشاهدونه،
  4. على أولئك الذين يتجاهلون ما يشاهدونه،
    (ويبقى مقام آخر من خارج هذا التسلسل: مَن يُشاهد الإبادة ويدعمها ويُساهم باستمرارها، وهو في هذه الحالة أحد عناصر الإبادة).
Source: Amro Ali


 الشرّ الفائض

أو: فتح حدود الشَرّ


يعيد العدوان الإسرائيلي على غزّة تعريف مفهوم «الشرّ». يعيد الرَّونَق لهذا المفهوم، بعدما كان الحديث عن «الأشرار» يُحيل مخيّلاتنا إلى عالم الكرتون. إنّها إبادة، صحيح، والإبادة «شرّيرة»، بالطبع— لكن هذه الإبادة بالتحديد أظهرت أفعالاً «شرّيرة» بشكلٍ خاص، وهي بمعظمها أفعال كان من السهل تفاديها حتّى لو ارتُكبَت إبادةٌ.

عبر تكثيف هذه الأفعال وتكرارها، لا ترتكب إسرائيل شرّاً فحسب، بل تفتح حدود الشرّ. ترتكب شرّاً لم يكن بالحسبان، ولا بالضرورة. شرٌ صادم، «يفوق الخيال». شرٌ غير مقبول (إن اعتبرنا أنّ بعض الشرور مقبولة).

خبر

بتاريخ 17 تشرين الأوّل قصف الاحتلال الإسرائيلي المستشفى الأهلي المعمداني، فاستشهد 471 فلسطينياً. هذا هو الخبر: قصف الاحتلال المستشفى. كان يمكن تعطيل المستشفى بسبلٍ أخرى، لكن المجزرة المُرتَكبة وطريقة «إخراجها»، تتطلّب وتدلّ على نوعٍ خاصّ من الشرّ. كانت تلك «صدمة» فعلية. أذكر كيف شاركنا الخبر بصيغة الـ«قصفوا مستشفى!!!!»، مع علامات التعجّب. التعجّب، كأنّنا لم نتوقّع للحظة أنّهم سوف يقصفون مستشفىً. حتّى أنّ صدمة المجزرة حرّكت شارعاً راكداً في لبنان، ولو لليلة، واستدعت تظاهرات فورية في بلدانٍ أخرى.

مقابلة

- تواجدتَ بقطاع غزّة دكتور غسّان في غالبية الحروب فعلياً. هل هناك خطوط حمر، كنت تعتقد أنّه لن يتم اجتيازها، وتمّ اجتيازها في هذه الحرب تحديداً؟
- كانت المستشفى الأهلي. [رغم] علاقاته الخارجية. ولكن كان في تعمّد بالمجاهرة بتخطّي الحدود الحمر.  من مقابلة «غسان أبو ستّة… طبيب الحروب الشاهد على أحداث غزة - بودكاست البلاد»، مع منى العمري، على منصّة أثير، 12 كانون الأول 2023. لاحقاً، ارتبطت عبارة «الخط الأحمر» بموقف أميركا الرافض (بالظاهر) عملية إسرائيلية موسّعة في آخر بقعة نزوح. ومع ذلك، تخطّت إسرائيل هذا الخطّ واجتاحت رفح حتّى احتلّت محور فيلادلفيا كاملاً، إلى البحر، والسيسي يتفرّج.

توسيع

لتناول «فتح حدود الشرّ» بأمثلة أخرى، غير مكثّفة، يمكن التوقّف عند الأيام التالية (والمتتالية): 

بتاريخ 4 تشرين الثاني 2023، لم يكن قد مضى على الإبادة ولو حتّى شهر. يُنشَر هذا النَص في الشهر التاسع من الإبادة، واليوم يمكن تحديث القائمة بأمثلة أفظع، لكن أبقي على الأمثلة المذكورة تحديداً لأنّ مثل تلك الشرور لم تحتَج أكثر من شهرٍ كي تظهر.  قصف الاحتلال الإسرائيلي مراكب الصيّادين على شاطئ رفح في غزّة، مانعاً إيّاهم من صَيد السمك في ظلّ حصارهم. بعد يومَين، 6 تشرين الثاني، كرّر قصف المنطقة نفسها بالشكل نفسه. في اليوم التالي، 7 تشرين الثاني، قصف الاحتلال شاحنات مساعدات دخلت من معبر رفح، تحمل عبوات ماء فقط. كان يمكن ألّا يسمح الاحتلال للشاحنة أن تدخل من الأساس، وكان له أن يسمح بذلك وتركها تصل إلى مقصدها— لكن لا، ضابطٌ إسرائيلي، على مكتبه، قد اختار أن يسمح لهذه الشاحنة بالتحديد أن تدخل، على أن يُصدر بعد دقائق أمر قصفها، كي يجعل الغزّاويين (والعالم) يشاهدون شاحنة ماءٍ مقصوفة وهم عطاشى. في اليوم نفسه، 7 تشرين الثاني، قصف الاحتلال خزّانات الوقود التابعة لمستشفى القدس. بعد يومَين، قصف الاحتلال باحة النازحين التابعة لمستشفى الشفاء بنوعٍ خاص من القذائف. يومان آخران، في 15 تشرين الثاني، «توقف العمل في مطحنة القمح الوحيدة العاملة في قطاع غزة بعد قصفها من المدفعية الإسرائيلية».

في هذه الساعات المعدودة إذاً، من 4 إلى 7 تشرين الثاني، ارتكب الاحتلال الإسرائيلي مئات الجرائم، ألوفها، لكن المذكور منها هنا له طابع «خاص»، *شرّير*، يختلف مثلاً عن قصف مبنى سكني (رغم الإجرام والشرّ الكامنَيْن في هذا الفعل). عند قراءة هذا التسلسل، يشعر المرء بنوعٍ من «القهر»، ربّما؟ شعورٌ بأنّك أمام «شرٍّ» بالفعل، شرّ لم ترَه من قبل، لم يكن بإمكانك استباقه، أو تخَيّل أنّه سوف يأتي.

كان ذلك في الشهر الأوّل من الإبادة. وبعد أشهر، مثلاً، سوف يسرق جنود الاحتلال مفاتيح سيارات الإسعاف من مستشفى الأمل في خان يونس (10 شباط 2024). لن يدمّروا السيارات ولن يقتلوا السائق، بل سوف يسرقون المفتاح فحسب، ويتركون السيّارات مركونة أمام المستشفى، والدم يسيل في الشوارع القريبة.
هذا فعلٌ *شرّير* بحقّ.

تعقيب

الشرّ بالفعل يلاقيه شرٌّ بالقَول.
سمعنا تصريحات الإسرائيليّين اليومية، مسؤولين وعامّة، ولاحظنا بسهولة طابعها العنفيّ/ الإجرامي/ الحَقود/ الغاضب/ الخائف/ المُهدِّد… وقد وصل الأمر إلى استخدام عدد من هذه التصريحات كدليل على نوايا مبيّتة للإبادة الجماعية، في دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. هذا كلّه واضح، لكن عداه، ثمّة نوع محدّد من التصريحات التي تحوي نوعاً محدَّداً من الشرّ.

نحن آتون. نحن آتون لغزّة. نحن آتون للبنان. سوف نأتي إلى إيران. سوف نأتي إلى كلّ مكان. عليكم أن تأخذوا بالحسبان: هل يمكن أن تتخيّلوا كم واحداً سوف نقتل؟ كم واحداً منكم سوف نذبح، لقاءَ كل واحد من الـ1,300 الذين قُتلوا والذين سُرق منهم؟ لن تشهدوا مثل هذه المقتلة في كل التاريخ العربي. أُعلمكم بما سيأتي— إن كنتم لا تعلمون. أؤكّد لكم— إن كنتم لا تُدركون. إنّ ذلك سيأتي. سترون أرقاماً لم تتخيّلوا من قبل أنّه من الممكن بلوغها [...] القدر المطلوب منكم حتى نجعلكم جميعاً، ومَن يدعمكم أيضاً، يذهب لملاقاة ربّه. هذا أكيد [...] سوف ندمّركم. ن-د-م-ر-ك-م. ندمّركم. تداولوا هذا الفيديو مع كل أصدقائكم، لكي يعلموا ماذا سنفعل بكم.

هذا اقتباس من مداخلة الإعلامي الإسرائيلي شاي غولدمان على القناة 14 الإسرائيلية بتاريخ 14 تشرين الثاني 2023 (الفترة المُطابقة للأفعال المذكورة للتَوّ). في برنامجٍ آخر، تطلب امرأة إسرائيلية من السياسيّين أن يضغطوا على الـ«بووم» (النووي) لإنهاء غزّة (27 كانون الأوّل 2023). في مداخلةٍ بالكنيست الإسرائيلي، وتعليقاً على إثارة مسألة عدد الأطفال الفلسطينيّين بين ضحايا العدوان، احتدّت النائبة ميراف بن آري ورأت أنّه «لا يوجد تساوٍ [بين أطفالنا] وأطفال غزّة. الأطفال في غزّة جنوا على أنفسهم» (10 تشرين الأوّل 2023).

هذه عيّنة (تضمّ إعلامياً ونائبة ومستوطنة/ والدة) من بين فَيض التعليقات الـ*شرّيرة*، التي أرى أنّها تختلف عن «التصريحات الإبادية»، ولو تقاطعت معها.

فتح حدود الشرّ بالفعل إذاً، وما يُلاقيه من شرٍّ مَحكيّ.

مقاربة أخرى

تُفهَم مسألة «فتح حدود الشرّ» وفق أبعادٍ إضافية: مثلاً، تعمّد إدخال الإبادة إلى عوالم أخرى: مثلاً، عالم الأطفال. توجد سمة غريبة ومعتوهة لتصرّفات جنود الاحتلال داخل غزّة، وهي إصرارهم على العبث بمقتنيات أطفال غزّة، والسخرية منهم، وتوجيه رسائل تهديد لهم. يقومون بنوع من التعفيش داخل «عالَم الأطفال».

قصص قصيرة للأطفال

جندي يقتحم صفّاً ويحطّم شهادات التلامذة المعلّقة فوق اللوح، ويكتب عليه تهديداً بالعبرية؛ جنود يلهون على درّاجة هوائية فوق أنقاض مبنى دمّروه للتو؛ جنديان ينامان داخل سرير طفلة، غطاؤه زهري اللون؛ فلسطينيّون في الضفّة الغربية يُخطَفون على وقع أغنية للأطفال؛ وعقلٌ إباديّ ارتأى الاستعانة بأطفال إسرائيليّين لأداء أغنية إبادية تحتفي بطائراتٍ تقصف، دمارٌ دمار، انظروا إلى الجيش الإسرائيلي يتخطّى الحدود. بعد عامٍ، لن يبقى شيء هنا.

الخيط واضح، ثمّة تخريب متعمّد لهذا العالم الذي هو بالتحديد على نقيض الإبادة.

Source: YunisTirawi
Source: Tamerqdh
Source: Tamerqdh

مقاربة أخرى

قد يجلب فتح حدود الشرّ أنواعاً «جديدة» من الجرائم، وبالتالي فئات جديدة من ضحايا الحروب.

W.C.N.S.F: Wounded Child No Surviving Family

هذا مُصطلح صيغَ داخل مستشفيات غزّة في العدوان الحالي، ويختصر عبارة «طفل مُصاب نجا من دون عائلته». المصطلح لم يكن رائجاً ضمن حدود الحروب التي نعرفها، ولا كان ليأتي لو لم تفتح إسرائيل حدود الشرّ.

تلميح

لأنّ الكلام عن الشرّ وعن إسرائيل، لا يمكن تفادي الوقوف عند حنّة آرنت. الأمثلة المذكورة للتوّ تدحض إلى حدٍّ كبير مفهوم «تفاهة الشرّ». هؤلاء ليسوا تافهين، يدركون جيّداً ما يفعلونه، بل إنّ تصرّفاتهم هي جوهر العقل الإسرائيلي، من دون أن يكونوا مجرّد برغي في آلة القتل هذه.

أقصد، بالضدّ من النموذج النازي الذي تعرضه آرنت (بناءً على تبرير آيخمان)، أستصعب ردّ الشرّ الإسرائيلي إلى «آلةٍ بيروقراطية» وأفراد يأتمرون بها. بجزءٍ كبير من الحالة الراهنة، الأفراد هم الآلة، بل تجاوزوها. فهم يخطّطون شرّاً يسكنهم إلى حدٍّ ما عادوا يحتاجون بعده إلى أيّ تخطيطٍ مسبق. الإبادة سوف تستمرّ حتّى لو قرّرت الآلة البيروقراطية وقفها. جزءٌ كبير من الجرائم المرتكبة في غزّة، لم يحتج أمراً من القيادة— عدا عن جرائم المستوطنين (خارج الجيش) في الضفّة الغربية.

يمكن القول إنّ إسرائيل نقيضة الشرّ التافه. وقد صارت اليوم، عند هذا الحدّ، تعريفاً للشرّ، بل مصنعاً له على المستوى العالمي.

 

الفظيع (الفائض؟)

لا. الفظيع فقط. فلا وجود لفظيعٍ إلّا بهيئة الفائض.

تلخيص

الإبادة الفائضة، بأشكالٍ كثيرة، لكن تحديداً عبر تصدير صوَر الإبادة؛ والعنف الفائض، العنف الاستعراضي وتأثير «الاستعراض» على من يعيشه، ثم من يشاهده؛ ثم إعادة تعريف «الشرّ»، وفتح حدود الشرّ، وصولاً إلى تصنيعه.

تلخيص التلخيص

كلمة واحدة: الفظيع.

والفظيع صفةٌ لممارساتٍ وعمليّات عنيفة تطال الأفراد والجماعات والبيئات الحيّة، فتُدمّرها وتُخرجها من أشكالها المعلومة إخراجاً عنيفاً. الفظيع كذلك صفةٌ لِما يطال الأفراد والجماعات والبيئات الحَيّة من خرابٍ بفعل الإيذاء الشديد المُتعمَّد. وهو يقترن في كلّ حالٍ بالألم، بدرجات من الألم تتجاوز الحدَّ المألوف ولا تُطاق.  ياسين الحاج صالح، مسالك حول الفظيع. موقع الجمهورية، 9 تشرين الأول 2015.

وإنّ هذا «الجانب المظلم من الحياة» يحتاج دوماً إلى تغذيةٍ وتطوير، وتصنيع؛ بمرحلةٍ ثانية، يحتاج إلى تعميم وترويج وإعداد للاستهلاك، واستهلاك؛ إلى أن يُعاد إنتاجه وتبدأ الدورة من جديد، بشكلٍ أوسع.

تشبيه

الفظيع سلعة. يُنتَج في مصنع، ينتجه صنّاع أو «وكالات تصنيع»، ويحتاج بعد التصنيع إلى تصدير، وإلى استهلاك. ويمكن، في لحظةٍ ما، أن تقيم ورشات تدريبٍ في تصنيع الفظيع، وأن تعمّم هذه الصناعة بهدف ضمان تداول السلعة التي أنتجتها للتَو، بشكلٍ أسرع وأوسع من الآن فصاعداً. يصل التشبيه إلى حدّ الكلام عن «منافسةٍ»، وسوقٍ ودعايةٍ لإنتاج واستهلاك الفظيع. وبطبيعة الحال، لإتمام ذلك كلّه، تحتاج إلى «عمّال».

في الأيام العادية، يفتح الجيش الإسرائيلي باب استقبال مجنّدين من مزدوجي-الجنسية، ضمن برنامجٍ اسمه ماهال. ومع انطلاق العدوان على غزّة، استدعى الجيش الإسرائيلي احتياطه من كلّ مكان (هذا عدا المرتزقة والمقاتلين غير النظاميين). في سفاراته حول العالم نشر النَص التالي:

بموجب قانون جهاز الأمن الإسرائيلي 
يتعيّن على جميع المواطنين الإسرائيليين في إسرائيل والخارج التجنُّد في الجيش،
حتّى لو كانوا يحملون جنسية مزدوجة ويقيمون بشكل دائم في الخارج.

«حتّى لو كانوا يقيمون بشكل دائم في الخارج».

تقرير

بتاريخ 29 كانون الأوّل 2023، أعدّت قناة الجزيرة تقريراً عن فرنسيّين سافروا إلى إسرائيل من أجل القتال في صفوف جيش الاحتلال. وسائل الإعلام الفرنسية رافقتهم، في رحلتهم إلى تل أبيب. وبدت تغطيتها، مشوبةً بتمجيد اختيارات هؤلاء المتطوّعين.

ثم يستشير التقرير بعض الآراء المُتابِعة، يهمّنا منها ما قالته سيّدة فرنسية تنشط في مجموعةٍ داعمة لفلسطين: نبّهنا منذ مدّة إلى خطورة الاتّفاقية بين فرنسا وإسرائيل، التي تسمح للفرنسيّين بالخدمة في جيش احتلال أجنبي. نحن البلد الوحيد في العالم الذي يسمح بهذا الأمر. تذهب إلى هناك، تقول إنّك يهودي تريد الخدمة في الجيش الإسرائيلي، وبعد ذلك، تعود إلى فرنسا ولا تتعرّض للمساءلة.

ثم يعرض محلّلٌ قانوني-سياسي رأيه: الحكومة الفرنسية لا تريد الخوض في هذا الموضوع، فهي تبدو من خلال سياساتها وكأنّها تُزكّي سياسة الجيش الإسرائيلي والجنود الفرنسيين الذين يقاتلون هناك دون تقدير انعكاسات ذلك. مثلاً أن يكون لدينا بعد انتهاء الحرب جنودٌ فرنسيون في الأحياء السكنية شاركوا في المجازر بغزّة.

ثم يختم المراسل تقريره: كيف لهم أن يعودوا إلى فرنسا، وكأنّ شيئاً لم يحدث؟

عدد هؤلاء؟ 4,185.
حسناً، قد لا تكون فرنسا مهتمّة بالمجتمع الفلسطيني، وهي بالتأكيد لا تهتم للبنية النفسية لهذا المجتمع ولدورات العنف فيه؛ لكن، ألا تهتمّ الدولة الفرنسية بالبنية النفسية للمجتمع الفرنسي ودورات عنفه؟ هل يدرك الموافقون على هذا القرار، هَول دورات العنف الجديدة التي ستدخل على المجتمع الفرنسي؟ أثَر 4,000 شخصٍ قاتلوا في غزّة وشاركوا بالإبادة، على العلاقات الاجتماعية في فرنسا؟

تساؤل

نفكّر عادةً بالضحية، فلنفكّر لحظة بالجلّاد: منفّذو الإبادة اليوم، كيف سيكون سلوكهم بعد أسابيع، يومَ تسريحهم من الخدمة وعودتهم إلى مستوطناتهم؟ أو بلادهم؟ مثلاً فرنسا. كيف سيتصرّفون هناك؟ كيف نتعامل مع رجلٍ يقف صباحاً بالطابور أمامنا ليشتري الباغيت والزبدة، وكيانه مخرّبٌ إلى أقصى حدّ؟ حدّ ارتكاب إبادة. ما أثر هؤلاء، بوعيهم أو بدونه، على نسيجهم الاجتماعي؟ وإلى أي حدّ سيغذّون بيئاتهم بالعنف؟ كيف أجلس بجانبه في المترو؟ كيف تحتكّ ركبتي بركبته بالخطأ، فأعتذر منه، ويبتسم لي؟

هؤلاء خرجوا للتوّ من المركز الإسرائيلي لصناعة الفظيع، في ذروة نشاطه.

أخبار

عدنا من باريس. في الجانب الإسرائيلي، أطلق مجنّدٌ النارَ على رفاقه إثر صحوه من كابوس، بعد عودته من المعارك في قطاع غزّة / مجنّدٌ آخر عاد من القتال في غزّة وقتل صديقاً له بالرصاص في مدينة تل أبيب. القاتل والقتيل يبلغان من العمر 25 عاماً / مجنّدٌ في عدوان الـ2014، انهار مؤخّراً أمام الكنيست. يقول أصبحتُ عنيفاً جداً، عنيفاً جدّاً. يقول كدتُ أقتل زوجتي عدّة مرّات بيدي. يقول أنا لا أستطيع النوم. يقول أخرِجوني من هذه المزبلة. يقول أشمّ رائحة الجثث / وفي بعض الوحدات العسكرية، يزيد عدد المحاربين الذين أفلتوا من الخدمة بعد مصاعب نفسية، عن عدد المصابين في المعارك، أو يساويه / وقد خضع 3 آلاف جندي للعلاج في قسم الطب النفسي التابع لجيش الاحتلال. ولفتت هيئة البث الإسرائيلية الجمعة 2 شباط 2024 إلى أنّ أكثر من ألف جنديّ من القوّات النظامية والاحتياط، تلقّوا علاجات مكثّفة لاضطراباتٍ نفسية، و82% منهم عادوا للقتال في غزّة / وعند تجهيز هذا النص للنشر، في 8 حزيران، ورد خبرٌ يقول إنّ الجندي اليران مزراحي انتحر، بعد خروجه من معارك غزّة، وبعدما استُدعي للعودة من جديد إلى هناك.

وفي رأسي ترنّ خطبةٌ قديمة لأبو عبيدة، الناطق الإعلامي باسم كتائب القسّام، حيث وضع أمام الجندي الصهيوني عند دخوله قطاع غزّة 4 خيارات، آخرها: أن يعود بمرضٍ نفسيٍّ إلى الأبد.

تعليق

العلّة الأولى، أنّ أولئك المجنّدين يصبحون بأنفسهم نقاطاً لتصنيع الفظيع. سوف ينشرونه في دوائرهم الاجتماعية. سوف يتصالحون مع أشكالٍ من العنف «غير مقبولة مجتمعياً». سوف يؤذون آخرين، بل قد يؤذون أنفسهم. أصبحوا فساداً. كائنات فطرية تخرّب الحياة. معاتيه.

لكنّ العلّة الثانية، أنّ إسرائيل ترتكب جريمة تاريخية، لناحية العلاقات المجتمعية حول العالم:

  • أوّلاً، لا يكتفي الاحتلال بارتكاب الإبادة في غزّة، بل ينشر أجزاءَ إبادة حول العالم بواسطة الأفراد. يصبح الفرد «فرداً-حاملاً-للإبادة»، وناقلاً لها؛
  • ثانياً، وكَون شرط الاستدعاء الذي تحدّده إسرائيل هو «أن تكون يهودياً»، فإنّ ما يحدث، عملياً، هو أنّ إسرائيل تتعامل مع كتلةٍ تحدّدها بمعيارٍ ديني، وتقلبها إلى آلةٍ لصناعة الفظيع. تغامر إسرائيل بموقع الجالية اليهودية حول العالم، وتوشك أن توقعها بعزلةٍ (ثانيةٍ) بسبب ربطها بأبشع إبادة في القرن الجديد، ووسمها بـ«الكتلة التي جاءت من حول العالم لإتمام الإبادة». هو عارٌ تاريخي، معادٍ للسامية، معادٍ لليهودية، ويتقاطع يهود كثر على رفضه، لكنّ إسرائيل تصرّ عليه.

خبر

بتاريخ 8 آذار 2024، أعلنت وزيرة العلاقات الدولية في جنوب أفريقيا، ناليدي باندور، أنّها أصدرت تعميماً يتيح اعتقال حاملي الجنسيات المزدوجة (الإسرائيلية والجنوب أفريقية) المجنّدين مع الجيش الإسرائيلي حالياً، فور عودتهم إلى البلاد.

هذه الخطوة هي الحدّ الأدنى من مسؤولية كلّ الدول تجاه الإبادة. أن تهتمّ كل دولة بمواطنيها، على الأقلّ، وتضبط ذهابهم وإيابهم للمشاركة في ما يحصل بغزّة، كي تمنع قدر الإمكان استيراد الفظيع الإسرائيلي من خلال الأفراد-الحاملين-للإبادة.

هذا الخبر يستكمل التشبيه المذكور بدايةً، ما بين الفظيع والسلعة: في حين تشجّع الدولُ الرأسمالية السوقَ الحرّة وتَحرُّك رأس المال بدون ضوابط أو حدود، تختار دولٌ أخرى أن تضع قيوداً على هذه الحركة، كي لا تفلت الأمور من عقالها، كي لا تقع في «فوضى الإنتاج». تنطبق المقاربة نفسها على الفظيع: في حين تساهلت دول كثيرة مع مشاركة رعاياها بالإبادة وصيرورتهم نقاطاً لإنتاج الفظيع، وضعت جنوب أفريقيا ضوابط لكبح تحرّك هذا الفظيع، ولحصر الفوضى قدر الإمكان.

خلاصة

تجعل إسرائيل من نفسها بؤرةً لصناعة الفظيع، وتحرص على تصديره بشكلٍ ملموس:

  1. تصديره للفلسطينيين من خلال عدوانها عليهم.
  2. تصديره إلى خارج غزّة عبر الأفراد. 
  3. التصدير بالمعنى الحرفي، أسلحة الحرب مثلاً. وهذا موضوع آخر.
  4. التصدير غير الملموس للفظيع: إسرائيل ترتكب إبادة، وترتكب أيضاً، كما ذكرنا، «إبادةً فائضة». وهي تفيض، مثلاً، عبر تصدير صورٍ للإبادة.

 

لحظة، قبل صورة الإبادة

مَشاهد

جميع من كان داخل هذه الدبابة تم خطفهم، قبل قليل، من قبل عناصر كتائب القسّام، كما شاهدنا بالعين المجرّدة. شاهدنا بالعين المجرّدة.

هذه العبارة تُحيلنا مباشرةً إلى صورة، فيديو. عرفتموه؟ بالنسبة لي، إنّها العبارة الأولى التي سمعتها صباح السابع من أكتوبر، كما هو الفيديو الأوّل الذي نشرته في ذاك الصباح المشمس، يومَ سبت.

لك روووح، هدَّموه. الله يرحم الجدار. الله يرحم الجدار.

هذه عبارة ثانية، تُحيلنا مباشرةً إلى صورة ثانية. أنتَ القارئ، تخَيّلت الآن هذه الصورة، فلا داعي لأن أُدرجها هنا.

هادي أراضينا يا جماعة، أراضينا المحتلّة يا جماعة.

هذه عبارة ثالثة. تعرفون الفيديو. الرجل الذي يدمع عند تخطّي الجدار؟ نعرف الفيديو. يعود لصباح السابع من أكتوبر أيضاً.

قبل الحديث عن صور الإبادة، يجب الوقوف عند صور الطوفان، ومَوضعة هذه الصوَر في شريطٍ عمره 75 عاماً. أو، كيف مزَّقت صوَرُ يومٍ واحد، ألبومات صوَر غزت العالم لـ75 عاماً.

والصورة لا تُمحى، صحيح. إنّما، في عالم اليوم، يمكن «إغراق» الصورة.
إغراقها، بطبيعة الحال، بصوَرٍ أخرى. بصوَرٍ أكثر.

بالنسبة للعقل الإسرائيلي، بعضُ منافع تلفزة الإبادة، هو إخفاء صورة 7 أكتوبر. هذه إحدى الزوايا الممكنة لمقاربة «العنف الاستعراضي». كان في تعمّد للمجاهرة بتخطّي الخطوط الحمر. يعني أنا برأيي الأطفال الخدّج اللي تمّ قتلهم بطريقة استعراضية: قطع الأوكسيجين عنهم/ إبقاؤهم بمستشفى الشفا/ منع إخراجهم من الشفا/ ثمّ قتلهم في [مستشفى] النَّصر/ ترك جثامينهم في [مستشفى] النَّصر بعد قتلهم بهاد الطريقة الاستعراضية، هي جزء أساسي من الترويع.  من مقابلة غسان أبو ستّة على بودكاست البلاد، مع منى العمري، على منصّة أثير، 12 كانون الأول 2023.

هذا ما حاولت إسرائيل محوه. إغراق الصورة الأولى بآلاف الصوَر اللاحقة. أمّا نحن، فنحتفظ بالصورتَين

خلقت إسرائيل موتاً كثيراً، وخلقت معه ما يكفي من صور الموت، وغذّتها بلا انقطاع. أمّا صوَر السابع من أكتوبر، فقد «عاشت» على الـlive feed ليومٍ واحد فقط. كان يجب القضاء عليها بسرعة، من خلال تغذية الـfeed بعناصر أخرى. ذلك أنّه لو كان لهذه الصوَر أن تعيش يوماً إضافياً، لكانت علقت بمخيّلات المشاهدين أضعاف المرّات.

هذا ما حاولت إسرائيل محوه. إغراق الصورة الأولى بآلاف الصوَر اللاحقة. أمّا نحن، فنحتفظ بالصورتَين: صورة الطوفان، وصورة الإبادة. واحدةٌ لا تلغي الأخرى، بل تؤكّدان بعضهما بضعاً. تماماً كما يؤكّد واقع الإبادة ضرورة الطوفان.

Source: AP

 

طيب، صورة الإبادة

أ) صورة الإبادة، من جهتهم

واقع 7 أكتوبر، وتالياً صورته، كشفا هشاشة إسرائيل. كجيش، كفكرة، كدعاية. كشفته، ووثّقته. العالم رأى الهشاشةَ تنكشف. هذا الجانب الخاص، صار عامّاً. الجانب «الحميمي»، صار فضيحة. والمَخفيّ صار علناً. نتيجة هذه المفارقة، يظهر شكلٌ من السرد هدفه التعويض عن الجرح النرجسي الهائل الذي جاء بعد العرض العلني لهشاشةٍ حسّية. Judith Butler, Precarious life The Powers of Mourning and Justice (2020), Verso books, p.7: “A narrative form emerges to compensate for the enormous narcissistic wound opened up by the public display of our physical vulnerability”. بتعبير جوديث باتلر. والتعليق الأساسي جاء بسياق انتقاد القوّة المفرِطة للردّ الأميركي تجاه العراق وأفغانستان، بعد هجمات الحادي عشر من أيلول.

بجانب من جوانبه، ارتكاب الفظيع وتعميم صورته هو تعويضٌ عن انكشاف الهشاشة، ومحاولة لردم الهوّة التي ظهرت جرّاء هذا الانكشاف. بعدما انكشفت هشاشتها، أمعنت إسرائيل في توغّلها بالجسد الفلسطيني، من أجل عرض هشاشته.

أعود مجدّداً إلى العنف الفائض، العنف الاستعراضي، وإلى الفظيع.
إلى الصاروخ الذي يتشظّى فيقطع الأجساد كالمقصلة.
إلى المشلول المُقعَد الذي نكّلوا به.
إلى الدبابة التي مشت على خيمة النازحين، فالنازحين.
إلى الجيب العسكري الذي جعل دولابه على جثمان شهيدٍ بالضفّة.
إلى الطفل الذي زرعوا قنبلةً في أحشائه ورموه إلى أهله. 
إلى العظام التي طُحنَت في المقابر المنبوشة.
إلى حرق الجثث في مجمّع الشفاء الطبّي أو دهسها.

Source: MosabAbuToha

هذا ليس قتلاً عادياً، هذا توغّلٌ بالجسد. باللحم. بالعظم. بالدم. هذا سعيٌ إسرائيلي لبلوغ الهشاشة القصوى للجسد الفلسطيني، ثم عرضها أمام العالم. ولا يبدو أنّ الاحتلال يُمانع انتشارَ صوَرٍ كهذه، بل العكس، غالباً ما يوثّق تلك الجرائم وينشرها. يريدها أن تنتشر. لم تمنع القتلَ صوَرُ أيّة مقتلة، بل عكس المتوقَّع، سهّلت صورة المقتلة الأولى وقوع المقتلة الثانية، وسهّلت صورة المقتلة الثانية المقتلة الثالثة، وهكذا…

النقد السهل هنا هو القول إنّ الاحتلال لا يوثّق «جرائم»، بل يوثّق ما يزعم أنّه «عملية دَقيقة» أو دفاعٌ عن النفس. حسناً، لكنّ المهمّ أنّ الحالتَين تنطويان على مقتلة، ومرتكبها لا يصوّرها وحسب، بل يقدّمها وكأنّها الـ«عادي». بلا أي حرج. بلا أي تردّد. بل بالمجاهرة.

مثلاً:
من علامات الترويج «العادي» لهذا الفعل «العادي»، وضع المقتلة بسياق أفعالٍ «عادية» أخرى. جزء أساسي من فيديوهات الحرب الإسرائيلية، هي في الحقيقة فيديوهات غير *حربية*، لا علاقة لها بفعل القتل المباشر، بل تحيط به، وتدرجه بين سلسلة من الأفعال العادية الأخرى.

على التيك-توك تمرّ المقتلة كرقصةٍ على وقع أغنية تيكنو. كحفلة مشاوٍ، واللحم يقطر دماً على الجمر. تفشيخ. المقتلة كبرهان رجولة على تطبيقات المواعدة. نشوة. أنوثة أحياناً. على التيك-التوك المقتلة عادية، بل سريعة، شرطها الوحيد أن تحدث في أقل من دقيقة.

أكثر بعد. ثمّة إصرارٌ واعٍ على إدراج المقتلة ضمن سلسلة العاديات. شاهدنا الكثير من المبادرات «المدنية/ الأهلية» التي أحاطت بالجيش الإسرائيلي. المقتلة كأنّك تغسل ملابسك. المقتلة كأنّك تعدّ خبزاً خالياً من الغلوتين. المقتلة كأنّ نجمةَ البوب المفضّلة تحيي سهرتك.

خلاصة

الإفراط بتصوير المقتلة، معطوفاً على تصوير الأفعال «العادية» من حولها، يخلق انطباعاً بـ«طبيعية» ما نشاهده، باعتباره مجرّد نشاط عادي في يومٍ مشمس.

تصويب

قيلَ إنّ هذه هي أوّل إبادة متلفزة. لكنّ الأصحّ أنّها أوّل إبادة على التيك-توك. الفارق البسيط أنّ سلطة التلفاز ما زالت تملك بعض الرقابة والضوابط على العته. أمّا على التيك-توك، فالعته منفلت من الضوابط. هناك الإبادة أقرب. تنبع من عند المرتكب بلا وسيط لتهذيبها.

الجديد

البعد الإضافي لهذه الفيديوهات، هو أنّ الجندي يصبح هو المصوّر. لا أقصد التصوير «العسكري الرسمي» الذي يُصَوَّر عبر منظار الطائرات أو كاميرا الخوذة، والذي تنشره الهيئات الرسمية لاحقاً؛ بل أقصد ما يصوّره الجندي بهاتفه الخاص، وينشره عبر حسابه الخاص، ويتداوله بين أصدقائه (والأصحّ متابعيه)، من خارج السياق المؤسّساتي. 
هذه أوّل إبادة يكون فيها الجنود مصوِّرين (والأصحّ «منتجي محتوى»).


ب) صورة الإبادة، من جهتنا

مفاجأة

إلى هنا، تناولتُ صورة الإبادة بالعقل الإسرائيلي، منتج المحتوى. لكن هذه هي اللحظة الأولى فقط.
الصورة ملعونة. يتبدّل معناها بمجرّد تبدّل ناشرها أو سياق نشرها. من السهل أن تُقلَب صورةُ المفخرةِ صورةَ إدانةٍ. ليس تفصيلاً أن تكون جنوب أفريقيا قد استندت في دعواها، مثلاً، إلى فيديوهات من تيك توك الجنود الإسرائيليين. هذه الفيديوهات التي جمعت آلاف الإعجابات بين متابعي الجنود، يشاهدهها العالم اليوم عبر شاشة لاهاي.

[ومع ذلك]، يستمرّ المجتمع الدولي بخذلان الشعب الفلسطيني [...] رغم فظاعة الإبادة بحقّه، والتي تُنقل بالبثّ الحَيّ من غزّة إلى هواتفنا المحمولة وأجهزة الكمبيوتر وشاشات التلفزيون. هذه أوّل إبادة في التاريخ حيث ينقل الضحايا هلاكهم الخاص، بالوقت الحقيقي، بيأسٍ، وحتّى الآن بأملٍ ضائع، تجاه تحرّك العالم.  من مداخلة المحامية الأيرلندية بلين ني غرالاي، من فريق الدفاع الجنوب أفريقي، أمام محكمة العدل الدولية، 11 كانون الثاني 2024

تتعزّز اللحظة الثانية إذاً، عندما تأخذ الضحية على عاتقها مهمّة نشر الصورة. صورة هشاشتها بالتحديد. ينقلب معنى الصورة إذ يطلب الفلسطيني نشرها. هنا لحظةٌ ثالثة: إن تنقل الضحية صورتها بنفسها، فهذا يلقي مسؤوليةً على عاتق المتفرّج، نحن. وُجدَت هذه الصور. ألا «تطلب» أن تُرى؟ أليست دعوة للمشاهدة؟  ياسين الحاج صالح، الفظيع وتمثيله؛ تحديق في وجه الفظيع (2021)، مؤسّسة دار الجديد، ص. 147

ثمّة من يعيش واقع الفظيع، الحدّ الأدنى إذاً أن نحدّق بصورة الفظيع.

واجب التحديق بالجثّة. واليوم، واجب التحديق بما بقيَ من الجثّة. 
واجب التحديق بالفجوة. واليوم، واجب التحديق بالخيمة. 
واجب التحديق بالمشفى، بأرض المشفى، ببقعة الدم على أرض المشفى. 
واجب التحديق بالشابّة التي فقدت عينها. نصف وجهها فارغ. 
واجب التحديق بطفلٍ أزرق البشرة، يحمل رغيف خبز. 
واجب التحديق بالقطّة أثناء نهشها جثّةً. واجب التحديق بالجثّة، مجدّداً.
واجب التحديق بساق الشابة عهد بسيسو المتشظّي. واجب التحديق بوجه عمّها الطبيب: سوف يبتر قدمها من دون بنج. هو أيضاً حدّق بساق الشابّة عهد بسيسو المتشظّي. هي أيضاً حدّقت به. هذا فخذها الذي انفجَر. أفلا تحدّق أنت؟


سؤال

أن نُحدّق؛ لكن كيف نحدّق؟

جواب (يمكن)

لم نصل بعد إلى وظائف الصورة بنفسها. الكلام هنا عن العلاقة الأولى بين الصورة ومَن يتفرّج عليها. المشكلة أنّ فَيض هذه الصوَر يؤثّر:

  1. على موضوع الصورة، مثلاً الجسد الفلسطيني: تُسهّل هذه الصوَر حبس الجسد الفلسطيني بقالب الهشاشة، تطبّع معه، تجعلنا لا «ننصدم» عند مشاهدته ممزّقاً. تجعل مشهد القتل «عادياً». وبالتالي تؤثّر على:
  2. المُشاهِد. نحن. نُطبّع مع هذه الصوَر. نعتاد المشهد. حتّى أنّنا نتكلّم عنه سهواً بصفته «مشهداً». «صورة الفظيع تُصيبنا بالخدر»، بتعبير سوزان سونتاغ.

أُحاجج أنّ ذلك صحيحٌ فقط عندما «نتلقّى» الصورة. عندما نتفاعل معها بشكلٍ كامن passif. عندما نراها أو ننظر إليها أو نتفرّج عليها، من دون أن *نحدّق بها*. عندما لا نفعل ذلك بشكلٍ واعٍ، activement. وتغيير ذلك بحاجة إلى تمرين، بالمعنى الدقيق للكلمة. أن نمرّن أنفسنا على كيفية النظر إلى هذه الصوَر: «الصورة فعل، لَيست شيئاً». Jean-Paul Sartre, L’imaginaire (1986), Gallimard: L'image est un acte et non une chose.

تمرين

أن نشاهد كل تفجير على أنّه تفجير جديد. إن كان المشترك بين هذه المشاهد هو شكلها، فالفارق ما بينها هو مضمونها: المبنى الذي قُصف بالمرّة الأولى ليس المبنى نفسه الذي قُصف بالمرّة الثانية. المقتولون بالمرّة الأولى ليسوا أنفسهم المقتولين بالمرة الثانية. الشهيد هذا ليس الشهيد ذاك. أنْ نتحدّى «النَمذجة». أن أمرّن مخيّلتي على تجاوز التنميط. أن أُقرّر إغراق مخيّلتي بالصوَر كلّما سمعت كلمة «شهيد»، «طفل»… أن أفكّر أنّ كل موت مختلف، وألّا «صورة» للموت. الموت يأتي دائماً بالجمع هنا، وربّما بهيئة اللامنتهي.

أن أفكّر أنّ كل موت مختلف، وألّا «صورة» للموت. الموت يأتي دائماً بالجمع هنا، وربّما بهيئة اللامنتهي.

والأهمّ، أنّنا لو أشحنا بصرنا عمّا يحدث، فهذا لا يلغي واقع حدوثه.
إشاحة النظر عن صورة الإبادة لا تعني أنّ الإبادة لا تحصل، إنّما العكس (قد) يصحّ: أن نحدّق بهذه الصوَر، أن ننشرها، أن ندعها تدخل كياننا، أن نسمح لها بتغييرنا وببناء مشاعر داخلنا، أن تُشعل ناراً، وأن نحوّل النار هذه إلى أفعال، وأَن يساهم هذا الفعل بتغيير الواقع… أي، ألّا تقف علاقتنا مع الصورة على «الفرجة».

التفكير بالصورة يأتي وفق هذا المنطق، انطلاقاً من مضمونها لا من شكلها. تلفزة الإبادة جعلتنا نقلب القراءة. التيك-توك فرضَ واقعاً أكثر تعقيداً. جعلتنا الشاشة نطبّع مع مشاهد القصف كأنّها مُطلَقٌ، هكذا، «مشاهد قصف»، ليس أنّها مشهد لفعلِ قصفٍ محدّدٍ يليه مَشهدٌ لفعلِ قصفٍ آخر، محدّد، مختلف.

مَن صُدم عند مشاهدة الجثّة الأولى، فقَدَ صدمتَه عند الجثّة العاشرة. لكن علينا أن نقلب القراءة: هل كانت الصدمة لأنّ صورة الجثّة فظيعة، أم لأن الجثّة بذاتها فظيعة؟

رغم استشهاد 30 ألفاً، ما زلت أُطالب نفسي بأنّ تنصدم عند رؤية ولو يدٍ تُخدَش. هذه صورة تنقل فعلاً، وليست شيئاً. وجب علينا التحديق بها؛ وإلّا: كيف لنا أن نُنَمّي ذاكرةً تخصّ ما أصابنا من فظاعة إن كنّا نتفادى، ما وِسعنا التفادي، النظر في وجه الفظاعة؟  ياسين الحاج صالح، الفظيع وتمثيله؛ تحديق في وجه الفظيع (2021)، مؤسّسة دار الجديد، ص. 145

بيد أن هذه المشاهد لا تنمّي ذاكرةً فحسب، بل تخرّب الذاكرة الموجودة أصلاً.
تنمّي ذاكرةً مخرّبة. تخرّب ذاكرةً في طور النمو.

 

تخريب الذاكرة

الافتراض

سوف تنسحب تبِعات العدوان الحالي على سنينٍ مقبلة. إسرائيل تفتح حدود الفظيع في الزمان أيضاً: لا تشنّ حربها على الحياة في غزّة اليوم، فقط، بل أيضاً على حياةٍ سوف تأتي؛ وأيضاً، على حياةٍ انقضت (ماذا عن نبش القبور؟).

  1. في ما يأتي، سوف تبقى ذاكرة الفلسطينيين مدموغةً، طالما عاشوا، بوقائع عنفية هي وقائع العدوان الحالي (وما سبقه).
  2. في ما مضى، إنّ ذاكرتهم الموجودة أصلاً، قد امّحت. للدقّة، السند الحسّي لذاكرتهم التي نمّوها في قطاع غزّة، امّحى. دُمّر. محاه الاحتلال بنهج «الإبادة المكانية».
Photo 7_a2

مقاربة أخرى

على الضفّة الأخرى، «تخريب الذاكرة» الذي تمارسه إسرائيل يتعدّى غزّة، ويطال ذاكرتنا نحن أيضاً، «المتفرّجين»، بصفتنا موضوعاً للإبادة الفائضة. ليس تخريباًِ ينطلق من الصفر. ذلك أنّ ذاكرتنا ليست على هذا القدر من النقاء، خاصّةً كأطفال الوطن العربي خخ. فقد عشنا ما عشناه ورأينا ما رأيناه من حروب. لكنّ ما يحدث اليوم «يتجاوز الحدّ بقليل»، بتعبير جو بايدن.

بلغت الإبادة درجةً من الفظاعة، خلقت أوضاعاً لم تكن بالحسبان ولا شهدنا على مثلها من قبل. أوضاع «جديدة»، تستلزم بالتالي أساليب جديدة للتعامل معها. تستلزم تغييراً للوظيفة «العادية» للأشياء، للأغراض اليومية التي نراها في مطلق أي يوم عادي، فترمز لمطلق أي شيء عادي، ونبني ذاكرتنا تجاه هذا الغرض العادي بناءً على هذه الوظيفة العادية.

أتكلّم إذاً عن تخريب هذه الذاكرة العادية، ربطاً بتخريب هذه الوظيفة العادية.

تساؤلات

مثلاً، في مطلق أي نهار عادي، مشمس وحارّ في أيلول، وفيما نمشي، في غزّة أو خارجها، ولحظةَ نرى، مثلاً، شاحنة بوظة. ما الصورة الأولى التي سوف تتبادر إلى ذهننا؟


 

 

[   وقتٌ للتفكير   ]

 

 


Source: AlHurra
Source: AlJazeera

تخريب الذاكرة بالمعنى التالي: ماذا سأتذكّر من اليوم فصاعداً عندما أرى هذه الشاحنة؟

Source: AlJazeera
Source: aborjelaa

والسؤال التالي: هل توجَّب حقّاً أن أتذكّر الجثث كلّما رأيت شاحنة البوظة؟
بهذا المعنى أيضاً، إسرائيل تفتح حدود الفظيع: الفائض من إبادتها يدخل ميدان الذاكرة والترميز، خاصّةً في ما يتعلّق بمعانٍ مُضافة على الأشياء، بعيدة كل البعد عن معناها الأوّل: انظر البعد مثلاً، بين الجثّة والبوظة.

أو مثلاً، ماذا أتذكّر، في غزّة أو خارجها، لمّا أرى شرشف التخت؟

Source: EyeonPalestine
Source: nooh.xp (right), Hadi Sabarna (left)
Source: Mohammed qndeel 1 (right), AlJazeera (left)
Source: nooh.xp (right), hani abu rezeq (left)

هل توجَّب حقّاً أن تتذكّر الجثث كلّما رأيتَ شرشف تخت؟ خاصّةً وأنّك تراه كلّ ليلة؟

Source: Motaz_aziza
Source: Bayan AbuSultan

هاك سؤال آخر:
ماذا، سوف تتذكّر، لمّا ترى مجرّد كيس نايلون؟

ماذا، سوف تتذكّر، لمّا توضّب خضارك بالكيس؟

طيب ماذا سوف أتذكّر، لمّا أرى طحيناً؟

Source: Anas Al-Sharif

لمّا تطلب منّي والدتي أن أناولها علبة الطحين كي تعدّ قالب حلوى؟

Source: yasser qudih (right), nooh.xp (left)

ولمّا تفتح والدتي العلبة وتأخذ منها مقدار كوبٍ من الطحين وتبعثر قليلاً منه حول الوعاء ثم تنفضه جانباً؟

Source: nooh.xp (right), AlJazeera (left)

هل سوف ننظر إلى الأمور العادية ذاتها من دون الإحالة إلى معانٍ أخرى؟ بالتحديد: من دون إحالتها إلى معانٍ فظيعة، هي أبعد ما تكون عن المعنى العادي للشيء؟

ليس المطلوب أن نفعل. فالذاكرة لا تُدرك تخريبها، هي تسجّل وحسب. نحن مَن يحكم، بمرحلةٍ لاحقة، ما إذا كان هذا التسجيل «مخرَّباً» أم لا. في الحالتَين، وجب تسجيل ما نراه. غيرنا عاش هذه الذكرى، فلا بأس إن «تذكّرناها».

والذاكرة لها، عدا عن وجودها القائم بذاته، بعدٌ آخر: أنّها تمدّ المخيّلة بموادٍّ أوّلية. تخريب الذاكرة، يستتبع بهذا القدر أو ذاك، تخريباً للمخيّلة— وللدقّة: توسيعاً لحدود عملها. وفي سياقٍ إبادي: توسيع حدود المخيّلة إلى درجةٍ نعتقد أنّها، للوهلة الأولى، تفوق الخيال.

 

ما (لا) يفوق الخيال

[...] أمّا عن الخوف، فإنّ خوفنا الآن يتمحور حول اختراع طرق جديدة للأطفال في التعبير عن خوفهم غير الصراخ، لأنّ الصراخ هنا معناه أنّك حي، وهذه مصادفة خطيرة لا يريدها الطرف الآخر. والخوف الآخر هو في سدّ احتياجاتنا والأطفال من الأكل والشرب، وهذا يلتف حوله الكثير من الأسئلة التي متعمّداً لن أقوم بطرحها كي يتثنّى لك عزيزي القارئ أن تتخيل، وآه كم أشتاق للخيال [...]

— أحمد مرتجى، 14 آذار 2024

مدخل

عمل الذاكرة محصور بالماضي. بما حدث بالفعل، بما نملك السند البصري (أو السمعي) لحدوثه. المخيّلة أكثر مرَحاً. لا تُحصَر بزمن. ولها أن تتحرّر من هذا السند. أن تخلق جديداً من العدم، تقريباً. هذه الـ«تقريباً»، هي ما يبقى محكوماً بالعناصر التي نراها من حولنا، يومياً.

السؤال

ماذا يحدث عندما تكون هذه العناصر، ما يفيض من الإبادة؟

بالمنطق نفسه الذي يتسلسل فيه هذا المقال، يمكن الكلام عن تخريب المخيّلة. بالمنطق نفسه، العالم جميعه معنيّ بذلك. طالما أنّه شاهد الفظيع لجزءٍ من الثانية، فهذا يعني أنّ مخيّلته قد تورّطت— بإرادتها أو بدونها. لا يُعفى منّا أحد. مَن ليس مهتمّاً بوقف الحرب من أجل الفلسطينيّين أنفسهم، (كس امّه، لكن) فليوقفها صَوناً لنفسه ولمخيّلته على الأقلّ.

نقد

قد أكون ساذجاً في ما قلتُ للتوّ.
مَن لَم يتحرّك بعد لوقف المقتلة، تُراه سيتحرّك حفاظاً على مخيّلته؟ على ذاكرته؟ السؤال مشروع. أقف عنده مطوّلاً، ولكن بلى: قد يهتمّ مرءٌ لمخيّلته أكثر ممّا يهتمّ لكيان الآخر ووجوده. كما أعتقد، أعتقد، أنّ العيش مع مخيّلة مخرَّبة هو أكثر اللعنات بؤساً. مزعجٌ لون الدم. لا يُزعج أكثر من الدم نفسه، لكنّه مع ذلك، مزعج.

(نفس) تساؤلات (الذاكرة)

ماذا سوف تتخَيّل، المرّة المقبلة التي ترى فيها شاحنة بوظة؟

Source: AlJazeera

ماذا سوف تتخَيّل، في غزّة أو خارجها، لمّا ترى غطاء التخت؟ ولمّا ترى مجرّد كيس نايلون؟

ماذا سوف تتخَيّل لمّا ترى خيمة؟ لمّا ترى غيمة؟ لمّا ترى طيارة ورق؟      [   يمكنك أن تتوقّف عن القراءة، وتستريح. تتخَيّل   ]

ماذا سوف تتخَيّل لما تسمَع صوت طيارة الورق؟ لمّا تسمع رنّة «الخبر العاجل»— وقبل أن تقرأ الخبر العاجل؟ ولحظةَ تقرأ الخبر العاجل؟ أنا أكيد أنّه بإمكانك اليوم تخَيّل مشاهد «أوسع» بكثير من تلك التي كنت سوف تتخيلها في السادس من أكتوبر.

قل لي، بصراحة، لو قرأت في السادس من أكتوبر خبراً يقول أنّ «طبيباً بتر قدم ابنته في المنزل من دون مخدّر»، هل كان بإمكانك آنذاك أن تتخَيّل المشهد؟

تتصَوَّروا؟ أنا بعملّها بتر لرجلها في الدار... بنتي، بقطع لها رجلها من دون بنج. احنا محاصرين النا 15 يوم. بنتي، بقطع لها رجلها من دون بنج… ع طاولة المطبخ العملية. من دون بنج. بقطع رجل بنت عمرها 16 سنة من دون بنج.

خبر

جرّافة إسرائيلية تعمّدت دهس أسيرٍ فلسطيني، والمرصد الأورومتوسّطي لحقوق الإنسان نشر الصورة، سحب المرصد الصورة بعد نشرها بقليل (أعتقد بسبب التعليقات الاستهجانية)، ليعيد نشرها ثانيةً، بعد دقائق، إنّما مع تغبيش الجثّة. بتاريخ 1 آذار.

هذه الصوَر التي تكشف ما لم يكن بإمكاننا تخيّله من فظيع، هذه الصوَر التي «تخرّب مخيّلتنا»، هل يمكن لنا أن نحاجج حقّاً أنّه كان من الأفضل ألّا تُنشَر؟


إسرائيل فتحت حدود الفظيع؛ بالتوازي فتحت حدود المخيّلة. قد تتخَيّل اليوم أشياءَ اعتقدَتَ بالسابق أنّها «تفوق الخيال»، بل كنتَ تجهل أنّ باستطاعتك تخَيّلها يوماً. تماماً كما أعجز اليوم عن تخَيّل ما سوف يحدث، بعد أسابيع، لو استمرّت الإبادة.
كنّا نعتقد أنّنا «رأينا كلّ شيء». يا لسخفنا.

مدوّنة

حسام معروف، 1 تشرين الثاني، 7:36 مساءً، غزّة: 
يا إلهي، أهذا هو الحزن؟ وأنا الذي لسنوات طويلة، كنت أعتقد أنّي أعرفه!

خاطِرة

رغم هوله، ما يحدث في غزّة لا «يفوق الخيال». 
هذا ليس انتقاصاً من الفظاعة، ولا ادّعاءً بمعرفة خبايا الإبادة. ثمّة أشياء لا نعرفها؟ أكيد. لكنّ ما يحدث لا يفوق الخيال، بل يدفع الخيال إلى أقصى حدوده. يفتح هذه الحدود. يرغمنا على مواجهة الإبادة من داخل جمجمتنا، وليس بالعَين فقط.
لنشبّه الأمر بالتحديق بالفظيع عبر شاشةٍ بصرية موجودة *داخل* دماغنا، لا عبر شاشة الهاتف التي هي أمامنا.

إنّه تحدٍّ. بل واجب. واجب التحديق بالفظيع، ثم واجب تخيّل ما هو أفظع بعد.
الهروب السهل هو رمي هذا الفظيع في خانة «ما فوق الخيال». هكذا نوفّر على أنفسنا مشقّة تخَيّل ما حدث بالفعل، ومشقّة البحث عن كلمات توفي شعور الضحية حقّه، ومشقّة صوغِ لغةٍ كافية لتشكيل هذا الشعور، ثم مشقّة الشعور بهذا الشعور. ومشقّة التصرّف على هذا الأساس. فعلاً، إنّها مشقّة.

أستعيد هنا مقاربة المفكّر جورج ديدي-هوبرمان، حول 4 صوَر انتُزعَت سرّاً من محارق أوشفيتز، وأسّس حولها كتابه «صوَر، رغم كل شيء»، حيث حاجج أنّنا: 

كي نعرف، يجب أن نتخَيّل. يجب أن نحاول تخَيّل ما كان عليه جحيم أوشفيتز، صيفَ 1944. دعونا لا نلجأ لـ«ما يفوق الخيال». دعونا لا نختبئ خلف القول بأنّنا لا نقدر على تخَيّل كل هذا وبشتّى الطرق (لأنّ هذا صحيح). صحيح، لا نقدر على فعله حتّى النهاية. لكن يجب علينا أن نفعل ذلك: هذا المُتخيَل الثقيل. [... هذه الصوَر التي] تُخاطب «ما يفوق الخيال»، وتمزّقه بأقسى الأشكال الممكنة. [...] يكفي أن نرمي نظرنا لمرّةٍ واحدة على هذه الصوَر [...] لنفهم ألّا مجال لتناولها بعبارات مُطلقة مثل: «ما لا يُقال»، «ما يفوق الخيال»؛ عبارات مُطلَقة، هي في الغالب ذات نيّة حسَنة، هي في الظاهر فلسفية، لكنّها بالحقيقة كسولة.  Georges Didi-Huberman, Images Malgré Tout (2003), Les éditions de minuit, p. 11, 29, 38.

خلاصة

يلجأ الضحايا بلا شكّ لتعبيرٍ مثل «لا يمكنكم تخَيّل ذلك». لكن دعونا لا نخلط: لسنا في موقعهم. هم، الضحايا، يستصعبون تصديق العالم خارج غزّة، يستصعبون تصديق أنّ ما عاشوه قابلٌ للوصف، ويستصعبون تصديق أنّنا قادرون على إعادة تكوين نفس الشعور بالوساطة. ما يجري في غزّة هو صعب وصعب جدّاً، كبير وكبير جدّاً، وربّما خارج الحسابات، خارج احتمال البشر، خارج تخيّلات البشر ربّما. لم يكن أحد يتوقّع انّه سيشهد مثل هذه الأيام في قطاع غزّة.  من مقابلة «مع وائل الدحدوح.. كواليس وتفاصيل لم تُروَ من قبل - بودكاست أسئلة الحدث»، مع محمود مراد، على منصّة أثير، 19 شباط 2024

لكنّ قولهم لنا أنّ «ذلك يفوق الخيال»، لا يعني بتاتاً أن نتعامل نحن معه وكأنّه «يفوق الخيال»، ونستكين، بل العكس تماماً: إنّها دعوة لتخَيّل ما حدث، ما يحدث، وما سوف يحدث. وما يحدث، قابل للخيال بلا شكّ، ذلك أنّه من أجل حدوثه، كان على أحدهم أن يتخَيّله: هكذا، تخَيلَت إسرائيل الإبادة، وهندستها، ونفّذتها: جعلَت خيالَها واقعاً.

إذاً لا يوجد ما «يفوق الخيال»: يوجد «ما لم نتخيّله بعد»

إذاً لا يوجد ما «يفوق الخيال»: يوجد «ما لم نتخيّله بعد». لا يوجد ما «يعصى على الوصف»، يوجد «ما لم نصفه بعد». علينا التحديق بالإبادة. وعلينا، فوق ذلك، تخَيّلها. أن نحرّك مخيّلتنا بشكلٍ فاعل، actif. هذا أقل الواجب.

صعب أن نتخَيّل ما يحدث في غزّة؟ أكيد. لكنّ الأصعب هو ألّا نتخَيله.
والأصعب بعد؟ ألّا ينتهي.


مقاربة أخرى (2)

(أو، لماذا علينا توظيف المخيّلة عند الكلام عن الفظيع، وعند التحديق به؟)

العلاقة بين الواقع والخيال تسري بالاتّجاهين. الحقائق، تغذّي المخيّلة؛ والمخيّلة، توضح (بعض) الحقائق.
بل إنَّ بعض الحقائق نفهمها بالخيال، لا بالمعلومات. أن أقرأ مثلاً أنَّ عدد الشهداء في اليوم 189 للعدوان تجاوز الـ33,600، هي معلومة (أحاجج أنّها) تجرّد الحقيقة أكثر ممّا توضحها. لكن أن أتخيل هذه الميتات الكثيرة؛ أن أفكّك، بواسطة مخيّلتي، هذا الرقم المجرّد؛ أن أتوقّف عن فعل ما أفعله وأمضي قسطاً من الوقت كي أتخيل كيف مات هؤلاء… هذه التمارين التي تقوم بها المخيّلة، هي ما يجعلني أفهم تلك الحقيقة.
أو مثلاً أن أقرأ أنّ «الطفلة هند ماتت محاصرة بالسيّارة»، فهذا خبر يجرّد الواقع أكثر ممّا يوضحه. لكن أن أتخيل ساعات هند الأخيرة، وأن أسمع التسجيل الهاتفي الأخير، وأن أتخيل شعورها في تلك اللحظة، بل أكثر بعد، أن أتخيل الجندي الإسرائيلي الذي رأى السيارة المحاصرة وقرّر أن يطلق النار عمداً عليها، وأن أتخيل الرصاص إذ اخترق السيارة، وأن أتخيل أكثر وأكثر بعد… أن أعيد تركيب الصورة، لا الخبر، فهذا ما يجعلني أفهم حقيقةَ أنّ «الطفلة هند ماتت محاصرة بالسيّارة».

مثلاً

النكبة، 1948.
يمكن فهم توسيع حدود الخيال على النحو التالي: الإبادة الراهنة تجعلنا نفهم فظيعَ الإبادات السابقة (للأسف). صار فهم النكبة «أسهل» اليوم. صار من الممكن تخَيّلها على نحوٍ أوسع بصرياً، وخَبَرياً.

عند إثارتي لهذه النقطة أمام صديقة فلسطينية، أخبَرتني أنّها بدورها: 
مكنتش بصدّق قصص كثير من سيدي. بعد 7 الشهر تأكّدت. من عندي كنت وأنا أزغر أسأل سيدي بنَفَس العتبان: انّه ليش سلّمتوا البلد يا سيدي؟ ليش رفعتوا الراية البيضا وما حاربتوش؟ إلّا قلّة قليلة… فكان الجواب انّه المعركة لوصلت عنّا صارت محسومة وبعد دراسة للوضع قرّروا أعيان القرية انه التسليم أسلم من أي قرار ثاني. والأهم: «لأنّه العرب باعونا يا سيدي». كنت أشوفها حجج، بس اليوم فهمتها.

وبالمعنى ذاته، من الجهة المقابلة بالزمن، الإبادة الراهنة تجعلنا نتخيّل إبادةً قد تأتي. والفكرة رهيبة.
فإنْ ارتكب الاحتلال ما ارتكبه من فظاعات اليوم، بالسلاح المتوفّر له اليوم في العام 2024، تخَيّلوا الإبادة التي يُمكن ارتكابها بواسطة الجيل المقبل من الأسلحة، بعد «تصحيح» ثغرات الإبادة الراهنة. المخيّلة ضرورية في هذه الحالة، لا لفهم الواقع بشكلٍ أوسع وحسب، بل أيضاً لاستباق مقتلةٍ قد تأتي.

ألا يدفعنا هذا التمرين التخيّلي إلى بذل ما بوسعنا بذله كي نضمن ألّا تكون إبادة بعد هذه الإبادة؟
ألا يعطي الخيال هنا سبباً كافياً لمناهضة الاحتلال وتفكيكه؟ هذا قبل أن نبحث بالواقع؟


مقاربة أخرى (3)

علاقة الواقع بالخيال المذكورة للتوّ، يحدث أن تسري أحياناً بالمقلوب: يمكن للمرء أن ينقض بعض الحقائق، تحديداً لعجزه عن تخَيّلها. هنا الخطورة: أن تقف أمام خبر وتنفيه، فقط لأنّك لم تستطع تخَيّل فظاعة الخبر، وإمكانية تحقّق فظاعة كهذه.

يُراهن الاحتلال على أنّ بعض جرائمه «تفوق الخيال»، ولذا، لا تُصَدَّق، ولو برهنّاها، (أحياناً: ولو صوّرناها).

مثلاً

ماذا عن الطفل الذي فخّخوه ورموه على أهله؟

لم يأتِ لنا من هذه الجريمة إلّا شهادةً مكتوبة نُسبتَ لناجٍ من الجريمة، لا نعرفه. هل نصدّقها؟ بالمعيار «الصحفي»، لا، إذ لا توجد صلة مع المصدر الأوّل، ولا مصدران للتأكّد المزدوج، ولا حتّى علم بدرجة موثوقية ناقل الخبر، الخ… يراهن الاحتلال على أنّنا لن نصدّق، تحديداً لأنّه يصعب تخَيّل تفخيخ طفلٍ حيّ، ورميه على أهله، ليُقتلوا سَوياً بهذه الطريقة. صحيح؟ هل تخيّلتم الطفل الذي فخّخوه ورموه على أهله، وانفجر بهم؟ هل تخيّلتم؟ ولهذا السبب بالتحديد: نُصدّق.

أو مثلاً

يروي الشاب براء شاهين، من غزّة، شهادته (14 شباط 2023) عن محاولة انتحار طفلٍ بعد استشهاد عائلته:

اليوم صحيت طالع من الخيمة رايح اشحن الجوال لقيت طفل صغير بعمر 6 سنوات نايم تحت [كميون] شحن بالشارع صحّيتو وحكتلو ليش نايم هان يا عمو قلي انا اهلي كلهم استشهدو برفح وجيت تحت الشحن عشان ميشوفنيش واندهس واروح عند أهلي. والطفل كان أزرق كتير.. اخدت الطفل على النقطة الطبية بحيث يقدرو يوصلو لقرايبو او يساعدوه من شوي بسال الدكتور الي بالنقطة الطبية (نقطة النشامى بجانب البركسات - رفح) والدكتور بلغني انو مات الطفل من السقعة💔

شهادة فظيعة.
ولأنّ تخَيّل مأساة هذا الطفل «صعب»، ولأنّ هذه القصّة في سياقٍ عادي «تفوق الخيال»، يختم شاهين شهادته بعبارة: اقسم بالله بحكي جد.
اللافت اضطرار الشاهد إلى القَسَم بعد الإدلاء بشهادته، حتّى قبل أن يسمع أي تعليقٍ حولها، لعلمه سلفاً بأنّها صعبة التخَيّل، وتالياً صعبة التصديق. 

أو مثلاً

بعضُ التحايل في تمييع مجزرة المعمداني، يكمن في التركيز الإسرائيلي على أنّ مصدر الانفجار هو صاروخ لحركة حماس، سقط على المستشفى من *باب الخطأ*. «أخطأ هدفه». ولم يكن تشديد تلك الحملة الإعلامية على أنّ مصدر الصاروخ هو حماس أو الجهاد، بقدر ما كان على أنّ الصاروخ سقط بالخطأ، ويرد في تعليق الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، دانيال هاغاري، على الضربة (18 تشرين الأول 2023): «صاروخ للجهاد الإسلامي، أخطأ هدفه، فقرّروا إطلاق حملة إعلامية عالمية لإخفاء ما حصل بالفعل [...] لقد أدركوا، بشكلٍ لا يقبل الشكّ، أنّه كان صاروخاً للجهاد الإسلامي، وأخطأ هدفه، فألحق أضراراً بالمستشفى [...] أقسام من دافع الصاروخ لا تزال موجودة، نظراً لرحلته القصيرة لأنّ إطلاقه أخفق [...] اعتمدنا تدقيقاً مزدوجاً للتأكّد من أدلّتنا التي نشاركها، والتي تؤكّد أن انفجار المستشفى الأهلي المعمداني في غزّة، سببه صاروخ للجهاد الإسلامي، وقد أخطأ هدفه [...] هناك فيديوهان مستقلّان يظهران فشل إطلاق الصاروخ [...] »، ويواصل هاغاري مؤتمره على هذا المنوال لدقائق عدّة.  إذ لا يمكن للعقل البشري أن يتخَيّل أن تكون مثل هذه الجريمة قد أُنجزَت بالصحّ. (كان ذلك في ثاني أسابيع الإبادة، قبل «تجاوز الخطوط الحمر»، قبل التباهي بمحو المستشفيات، قبل مَنهَجة تفكيك النظام الصحّي، وقبل مجزرة مستشفى الشفاء).

بشكلٍ مختصر، يمكن الاقتباس عن حنّة آرنت في تحليلها للمحرقة، واعتبارها أنّ النازيّين «كانوا مقتنعين تماماً بأنّ أحد أفضل السبل لنجاح مؤسّستهم [المحرقة]، كمن في واقع أنّ الشخص المتواجد خارجها لن يتمكّن من تصديقها».  Georges Didi-Huberman, Images Malgré Tout (2003), les éditions de minuit, p. 30


مقاربة أخرى (4)

ما يحدث لا «يفوق الخيال»، بل العكس تماماً: إنّه مَهولٌ لدرجةٍ تردم ثغرات في مخَيّلتنا: درجةٌ تعطي شكلاً واضحاً لأفكارٍ ضبابية ما كان باستطاعتنا تخَيّلها.

مثلاً، «فكرة» الإبادة نفسها. كنتُ أدرك معنى الفكرة، لكن لم أتخَيّل يوماً شكلها. بل الحقيقة أنّ صورة الإبادة التي كانت في مخيّلتي الطريّة، «ألطف» بكثير ممّا يحدث اليوم. كنت أعلم أنّ الإبادة فظيعة، لكنّي لم أتخيّل يوماً أنّها فظيعة إلى هذا الحدّ.

أو مثلاً: كلّ هذا الحديث عن المخيّلة، ونحن في العالم العربي، لكنّنا لم نتطرّق بعد إلى «المخيّلة الدينية». وكيف أنّ ما يحدث، يعطي شكلاً واضحاً لفكرةٍ مُجرّدة وعملاقة في بلادنا: «يوم القيامة».

مع مشاركتي فيديوهاتٍ من غزّة، وجدتني أرفق بعضاً منها، تلقائياً، بعبارة: «هيك شكله يوم القيامة». على ما أذكر، كانت المرّة الأولى عند مشاهدة تبِعات قصفٍ مكثّف على جباليا (3 كانون الأوّل 2023). بالفيديو، يركض الناس بين الغبار، وجوههم مكفهرّة، أكتافهم مقوّصة، وخلف الضباب السميك ينكشف نورٌ مخنوق.

بعد دقائق وجدت صورةً من الفيديو نفسه، على تويتر، وقد أرفقها أحدهم بالتعليق نفسه:

أكاد أجزم أنّ هذا المشهد تحديداً أحال مخيّلة عددٍ لا بأس به من الأشخاص إلى يوم القيامة، وليس فقط صاحب التغريدة وأنا. ثم كثُرَت، بعد هذا التاريخ، المشاهد التي كنتُ كلّما أراها أفكّر فوراً بأنّ «هيك شكله يوم القيامة»:

هذه لقطة من مجزرة مستشفى كمال عدوان (16 كانون الأوّل 2023): الاحتلال دفن مُصابين وهم أحياء. ماتوا تحت التراب وكانت بعض الجثث آخذةً بالتحلّل عند اكتشاف المجزرة. كان الصحافي أنس الشريف أوّل الواصلين إلى المكان: والله يا جماعة نفسنا احنا ما نورجيكمش ايش بيصير، بس مجبرين؛ وكأنّنا لن نصدّق، لو أخبرنا من دون أن يورجينا.

هنا، ثلاث قطط تنهش جيفة حصانٍ قُتل بالقصف. كما أنّ بعض المشاهد لا تُحيل «بصرياً» إلى يوم القيامة، بل تُحيل إليه بما تضمّنه من خبر، مثلاً: ذاك الطفل الذي يخاطب قطّته، ويطلب منها، بعد استشهاده هو، ألّا تأكله: أمانة ما تاكلينا واحنا ميتين، أمانة.

أجد صعوبةً في تصديق أنّ هذه أشكالٌ معقولة للواقع. كأنّها من خيالٍ ما. كأنّها الجحيم. عذاب النار. ساعة البعث. الساعة. النهاية. الآخرة. يوم القيامة. هذه الأفكار الرهيبة التي تربَّينا عليها. هذه الأفكار التأديبية التي ما لها شكل، إنّما لها وقع رهيب على ذواتنا. هذه المخيّلة الدينية العقابية في بلادنا. ربّما يُقابلها في بلاد الغرب جحيم دانتي؟

كل هذه الأفكار تحاول وصف «ما يفوق الخيال»، لناحية ما هو مُخيف بالتحديد. ولا شكّ أنّها فعّالة، لكنّ علّتها تبقى في كونها أفكاراً خيالية، مجرّدة، غير معقولة، «بيولوجياً» غير معقولة. أحاول أن أتذكّر. حدّثنا شيخٌ مرّة أنّ هناك، «في النار»، يسلخ الله جلدنا عن لحمنا، ثم يعيد إنباته لا لشيءٍ إلّا ليسلخه من جديد: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ}. (النساء:56) هذه صورة فظيعة بلا شكّ. ألمٌ رَهيب. ومع ذلك، تهون الصورة عند إدراكنا أنّها مجرّد «صورة»، تشبيه، مجاز، غير قابلة للتحقّق (أقلّه على هذه الأرض).

هذا العذاب «الصوَري»، حاولنا تخيّله، وربّما نجحنا إلى حدٍّ ما، لكن ليس إلى الحدّ الذي بلغناه عندما رأينا الصورةَ واقعاً.

Source: محمد عدنان الهمص
Source: Yousef Alhelou
Source: TRTworld
Source: Sulaiman Ahmed
Source: Belal Khaled, 7 February 2024

بعد عودته من قطاع غزّة، يروي الطبيب نيك ماينرد قصّة طفلةٍ لن أنساها، كانت لديها حروق بليغة لدرجةِ رؤية عظام وجهها. كنّا نعلم أنّها لا تملك أي فرصة للنجاة، لكن لم يكن بحوزتنا أي مورفين لحقنها به. إذاً ليس أنّها كانت ستموت بلا مفرّ، بل أنّها كانت ستموت وسط عذابٍ مبرحٍ أيضاً. وما جعل الأمر أسوأ هو أنّه لم يكن لديها أي مكانٍ تقصده لتموت فيه، وتُرِكَت تموت على أرض قسم الطوارئ.

هذا الواقع، يعطي شكلاً لعذاباتٍ سمعنا عنها، من دون النجاح في تخَيّلها إلى هذا الحدّ. إسرائيل فتحت هذه الحدود. «جهنّم وانقلبت عالناس»، يقول ناجٍ من قصف رفح. ثم «يوم القيامة»، يقول طبيبٌ محاصَر في مستشفى ناصر. كل هذا اللجوء للمجاز الخارج على الواقع، لوصف الواقع بالتحديد. فهل يبقى المجاز إذاً «خارجاً على الواقع»؟ أعود لديدي-هوبرمان: «بهذا المعنى، جحيم دانتي، جوهرة الخيال الغربي، ينتمي كذلك إلى واقع أوشفيتز: بل أنّه حُفر على الجدران [بإشارةٍ إلى جملٍ من جحيم دانتي حفرها أحد اليهود داخل أوشفيتز]، كما ترسّخ في أذهان كثر [بإشارةٍ إلى تعليقٍ لأحد النازيّين القيّمين على المحرقة، حيث يشبّهها بجحيم دانتي].

Source: IslamBader

بعد اليوم، لا داعي لتخيّل رحلاتٍ إلى العالم السفلي. إسرائيل جاءت بالعالم السفلي إلينا.
وما تفعله إسرائيل لا يفوق الخيال، بل يضيف عليه وضوحاً.

 

الفائض، في الحلم

إلى الآن، حكينا عن الواقع. حكينا عن الصورة. حكينا عن الذاكرة. حكينا عن الخيال.
إذاً، ماذا عمّا هو في الوقت نفسه واقعٌ وصورة وذاكرة وخيال؟

سياق

طيلة الأشهر الأخيرة شاهدتُ صوَر وفيديوهات وأخبار الإبادة، يومياً. لفترةٍ أولى، كان الأمر «عادياً». أقصد، تمكّنت (وليس في الأمر مفخرة) من مشاهدة الفيديوهات بِلا «انزعاجٍ» يُذكر. بلا ممانعة. بلا إشاحة بصري مهما بلغت فظاعة المشهد.

شيّدتُ ما يشبه جداراً عازلاً بين ذاتي وبين المشاهد كي أتمكّن، بحكم وظيفتي، من متابعة الموضوع بشكلٍ يومي. انقضت أسابيع واعتقدتُ أنّ المخطّط قد نجح. أنّني استطعتُ «متابعة» المجزرة بلا تبِعاتٍ تُذكر. كنت (وما زلت) أقنع نفسي أنّني أؤجّل استيعابي لما يحدث، وأنّني سوف أجالس نفسي كي أفهمه فقط عندما ينتهي. أنا الآن أتابع، لكنّ حقيقةً، لم أفهم بعد هَول الموضوع بكليّته. حتّى أنّ هذا النَص بالذات، ليس سوى محاولة ذاتية كي أرتّب أمامي الأفكار التي في داخلي، لعلّي أفهم. وسرعان ما أدركتُ أنّني كلّما تجاوزت المشاهد بلا تفاعلٍ يذكر، كلّما استدخلتها في نفسي أكثر.

ألفت أخيراً إلى أنّني بالعادة أحلم كثيراً، وأتذكّر معظم أحلامي، وأسجّل بعضها. وقد استغربت لمرور الأيّام الأولى من الحرب بلا أحلامٍ تُذكر. انقضى تشرين الأوّل، ومع بداية تشرين الثاني… 

حلم (1)

أذكر أنّني حلمتُ التالي:

كنت في قريةٍ تبدو عليها ملامح قرى الجنوب. سمعتُ قصفاً ونظرتُ نحو السماء، ورأيت قذائف الفوسفور تنهمر. ثوانٍ ودخلتُ الغيمة البيضاء. ركضتُ بدون وجهة محدّدة، مضطرّاً أن أستنشق الدخان الأبيض. بدأ نَفَسي يضيق. كدتُ أختنق. واستَيقظت.

إن صدقَت ذاكرتي، فإنّ هذا الحلم راودني ليلة اليوم الذي شاهدتُ فيه فيديو لاستهداف مدرسة للنازحين بالفسفور. كان ذلك بتاريخ 2 تشرين الثاني 2023، وقد نشر الصحافي أحمد حجازية صباحاً فيديو من داخل المدرسة، لحظة انهمار القذائف، وهو يصرخ: الاحتلال الإسرائيلي استهدف مدارس النازحين بالفسفور. هيّو.

حلم (2)

في حديثٍ لاحق، مع صديقي حمزة، أخبرني أنّ حلماً راوده في أواخر كانون الأوّل:

كنت طالع عالضيعة ع طريق ضهر البيدر. بلّشت اسمع الناس عم تصرخ «عم يضربوا بالبقاع عم يضربوا بالبقاع». فنزلنا كلنا من الفان يا معلّم وبلّشت الناس تمشي ع الطريق باتّجاه بيروت. أنا ضلّيت واقف محلّي وعم برجع صوب الحيط لميلة ضهر البيدر. فبلّشت قلّن «هيدا فسفوري هيدا فسفوري». بعدين بلّشت حسّ متل جمرة اجت ع إيدي، وفقت. هي من شي شهر.

حلم (3)

بتاريخ 9 كانون الثاني، الساعة 1:51 ليلاً، سجّلتُ التالي:

حلمت كذا شقفة زغيرة، بس هو حلم كتير طويل.
في شقفة كان في جدل ع تعريف كلمة «إبادة»، أكيد…
في شقفة بلبنان حزب الله بيكون عم يقصف، اوف… ناسي
في شقفة بيكون في غارات نحن هربانين منها، وبيجي ليلة بيكون في طيران كتير وانا بكون شي محل صوب البقاع. بيقولوا «اليوم بدّن يعملوا غارة عالمدنيين»، ومنصير كلنا نفكّر. 
وحلمت بوسام طويل ع فكرة. قيادي في حزب الله، اغتالته إسرائيل بتاريخ 8 كانون الثاني 2023. كنت أنا بصَفّ السيارات الي انقصفت، لمّا قصفوا سيّارته.
حلمت نصرالله بيكون عم يقول كلمة ولابس بيريه زرقة كحلية مدري ليه. مش بيريه، هيك نوع من الطواقي، بس مش عسكرية.
بعدين حلمت صار في تريند عن… اه ع فكرة بتعريف كلمة «الإبادة» بيكون في تبع الجزيرة. وليد العمري اسمه؟
المهم حلمت بيكون في تريند بيجيبوا معزاية وبيصيروا يمَشّوها عالحدود بالبقاع. بس طلعت هَي الحدود مع إسرائيل. وبيصيروا يصوروها عم تجرّب تقطع الشريط وما بتقدر، وبيصير في نكتة عليها قال.
وحلمت بيصير في خبر انه بلد بجنوب أفريقيا غيّر اسمه من شي هيك بريطاني لشي مَحلّي.

شذرات غزيرة، مقتضبة، متقطّعة. الشذرة المتعلّقة بوسام الطويل، مثلاً، كنت قد شاهدت فيديو يشبهها خلال النهار. شذرة التخوّف من قصف المدنيّين، واضحة. تبديل اسم البلد الجنوب أفريقي، لأنّي كنت في ذاك اليوم أعدّ مادّة عن تحرّر جنوب افريقيا من الفصل العنصري ربطاً بدعواها أمام محكمة العدل. وشذرة المعزاية بالبقاع؟ بعرفش صراحةً هاهاها.

حلم (4)

(هذا المفضّل عندي، والأكثر وضوحاً/ تكاملاً). بتاريخ 18 كانون الثاني، الساعة 4:27 فجراً، سجّلت التالي:

حلمت حلم من الحرب كتير طويل. كتير مفصّل. كتير حقيقي. بالجنوب، بالضيعة عنّا بالبيت، بيكونوا عم يقصفونا وبيصير حزب الله يردّ، ومنصير نحضر متل الجولات ونعيشها. يعني منكون بالضيعة ومنصير نشوف شوي من بعيد، وفي طيّارة، بعدين منشوفها وين بتقصف، منسمع صوتها، بتنزل عنّا بالبيت. بيكون عنّا بيت متل بيتنا بس أكبر بكتير. في تحته اشيا وفيه هيك متل سوبرماركت، يعني ما بيكون بيت عملياً بيكون متل حَيّ زغير. بيصيروا يقصفوه… بنفس الوقت انا بكون عم كمّل كتابة المقال هذا المقال نفسه. وبكتب جملة بتقول: «بالعادة بتكون الحرب على القاضي (؟)، بس هيدي الحرب مختلفة. الحرب على الفلسطيني بوصفه فلسطيني فقط». كنت عم قولها بسياق لاشرح ليش مش مهمّ أي فصيل عم يتمّ محاربته، هي حرب عالكلّ بالمُطلَق. بعدين منروح نشيّع حدا. والفكرة انّه الضربات بيكونوا كتييير قراب يعني منشوف المُسيَّرة ومنشوف… وفي طريقة غريبة ليؤمروهم يعملوا الضربات. قبل التشييع منكون بمحل متل سوبرماركت بيجي واحد بيسألني عن خيّي انه شو رأيه بالسياسة، انّه عم يتابع؟ ولّا ما عم يتابع؟ وينه؟ فمتل انه هو بيسأل عن خيي لياخد عنّه معلومات للإسرائيليي بحسّ أنا، فبفعط عليه بعمل معه مشكل بالحلم… مممم… بعدين منكون متل بالتشييع في بورة كبيرة. في حدا واقف عم يحكي. ونحن متل واقفين كأن في شواهد قبور. كل حدا مننا واقف عند حدا منن. وفي محل بيكون لازم يكون في 30، بس هنّي بيخلصوا عالـ29، وبربط هيدا الشي بحلم تاني، كمان عن الحرب. بهيدا الحلم (التاني) بيكون خصّه كيف إسرائيل بتضرب قبور محدّدة لتخفيهن للأشخاص. فبتطلّع بلاقي انّه بيخلصوا القبور عالـ29. أنا بكون واقف عالـ28. وبضحك. انّه انا بعرف انّه في قبر لازم يكون رقمه 30 بس منّه موجود. بعدين بشوف شي لمَع من برج بعيد عننا. وبلاقي هيك قذيفة جايي صوبنا. وبتجي هيك دغري بالشخص الي بيكون عم يحكي وبيطييير. ومنبلّش نحن نركض. بيكون معي x حدّي، وبتبلّش هي تركض بسرعة، وببلّش انا، وببرم راسي كل شوي لشوف مطرح ما طلعت منّه هي اللمعة الي بتطلع من القذيفة بعدين. بلاقي طلعت لمعة تانية وجايي كمان صوبي. بس بتجي قدّامنا شوي. فبرجع بقلّها x تطلع عالشمال، ممم…. يا الله برجع ببرم. بشوفها لمعت! وعم جرّب كمّل ابرم. بحس في شي هيك… بخشلي ضهري. وبفيق. يلعن الله.

اه وفي محل بالنص بتكون العيلة كمان وبتكون مرت خالو، وخالتو وماما عم يتمشّوا ع كعب النزلة بالضيعة. بعدين بتكون مرت خالو عم تقطع الطريق وبيعَيطوا عليها انه اركضي اركضي شو عم تعملي هلأ بيشوفوكي. كسسسس ام اسرائيل.

حلم (5)

بعد ثلاث ليالٍ (21 الشهر) سجّلت الحلم التالي، الساعة 2:42 فجراً:

حلمت كنا ببيت كتير بيشبه بيتنا بالضيعة بس هو بغزّة. وهو كان متل البناية الي بيقعدوا فيها الصحافيين. فالحلم عبارة عن انّه منفيق الصبح وكيف منروح نغطّي. وfastforward [نعم، هذه المؤثّرات البصرية موجودة بالأحلام]، منرجع ع البيت وكيف منرجع عليه. وكان رواق، بعدين بتصير تقسى الحرب خلال الحلم.
منوصل ع محل بيكون تحاصَر هيدا البيت. وبلّشت خااااف أنا ونايم. واتشقلب. فيق واغفى ويكمّل الحلم. صرنا نسمع صوت الدرونز عم يقَوّصوا ع المبنى. وصار يركّز الحلم كيف عم نفل بالسرّ. وكيف ما عم نرجع إلّا بالليل ع العتمة، ونجرّب نفوت بلا ما تكشفنا الكاميرات يعني. وكيف فَوّتنا معنا سلاح لجوّا تنحمي حالنا اذا اقتحمونا. وكيف صرنا نضب السلاح بشكل ما يخلّيهن انه لما يفوتوا يقولوا انه «ليكوا الصحافيين كان معن سلاح»، وبعدين تحاصرنا، وصار يتقوّص ع المبنى، وفقت لما خلَص انزنقنا عالآخر كنّا عم نموت.

الليلة ذاتها، الساعة 5:10 صباحاً، أسجّل التالي:

تحديث: طوّلت الحرب أكتر ما متوقّع. فرط كل شي، فرط الجيش فرط الدرك. وصار كل حزب كامش منطقة. وطبعاً في إسرائيليي بشوارع محدّدة. أنا ما كنت عارف حالي بأي حزب. اااه… وهيك بقيت ضايع، وعلقت بمنطقة ما كان عندي فيها وصول ع غراض كتير. وكنّا صرنا ببيروت مش بالضيعة. وما كان عنّا كتير خبرة بالحرب فصرنا نقوّص كيف ما كان. يمكن كنّا عم نصيب مدنيّين. انا ما قوّصت لهلأ، بالحلم، بس كنت لابس جعبة. ما كان معي سلاح كنت بس لابس جعبة.

هذه الإشارة إلى «أنا ما قوّصت لهلأ، بالحلم»، الكلام على الحلم أثناء اليقظة وكأنّني ما زلت فيه، وكأنّني بعد انتهائي من التسجيل سأعود إلى الحلم فأدخله من جديد لاستكماله (وشكلي كنت رح ارجع صيب مدنيّين).

حلم (6)

ثمّ أخبرني حمزة نفسه عن حلمٍ راوده نفس الأسبوع (أواخر كانون الثاني):

حلمت كنّا ببيت جدّي فوق المزرعة (الهنغار)، وبلّشوا يقولوا في طيران بالجو في طيران بالجو. وبتجي عيني ع المزرعة. بعدين حسّيت في شي فخت المزرعة. صرت قلّن «هيدا نووي هيدا نووي يلعن الله!». بعدين قلت لأهلي: وين الكمّامات الي جبتلكن ياها وقت الثورة؟ هلأ لازم تحطّوهن. وبعدين بلّشت تجي الغيمة شوي شوي، وهون بلّشت فيق.

حلم (7)

وقد أخبرتني منار، بدورها، حلماً عن الحرب، «صادف» أن راودها بعد متابعتها مؤتمر لأبو دينين، أو دامبو، أو المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري:

حلمت انه كنّا بالبيت عندي ببيروت، أنا واختي وأخي، وما كانوا أهلي بالمنام. وكانوا هنّي عندي بالشقة وكانوا قاعدين بغرفة القعدة، وأنا كنت عم بتفرّج من شبّاك أوضتي على قنّاص عم يقتّل عالم. قنّاص إسرائيلي. أنا كنت عرفانة انه هو قنّاص إسرائيلي. فقاعدة عم بتفرّج عليه، من جوا، و at some point، اختفى. اختفى القنّاص من الكادر تبع الشبّاك. فحسّيت بقلق. قام فتت لجوّا حتّى قول لأخي واختي انن ينزلوا ع الأرض، لإنّه شكله القنّاص رح يصير– رح يبلّش يضرب ع البيوت. و… فتت لقلّن انن يتسطّحوا عالأرض، وتركت تلفوني بأوضتي. أنا وفايتة لقلّن انن يقعدوا عالأرض، بطّلت لاقيهن… قعدت دوّر عليهن دوّر عليهن بكل محلّ، وما قدرت لاقيهن. بعدين، بلاقي باب البيت مفتوح. فبطلع من الباب، وبتفرّج عالدرج تحت (أنا درج بيتي طويل كتير لإنّه عالطابق الرابع)، فبطّلع لتحت وبلاقي جنود نازلين، ومعن أخي واختي. قام بعدين برجع عالبيت لجوّا، بدي آخد التلفون، من الغرفة. وبتذكّر وقتها متل حسّيتن ضاعوا، يعني راحوا على خرابة أو متل كإنه كنت عم فكّر انّه… انّه… انّه ما في… ما في نهاية لهالشي. فبعدين أنا وفايتة لجيب التلفون، بحسّ ورايي في… حدا. وبحسّ متل كإنّه حدا حاطط فرد بضهري، وبعدين بفيق.

بس المهم انّه مشهد القنّاص، كان نفس مشهد من زمان، لمّا كنّا لسا بالشام، بتذكّر كنت عم بتفرّج على قنّاص من البناية، وكان نفس الشكل. كان نفس المشهد. بس هون واضح كنت عرفانة انه هيدا قنّاص إسرائيلي، بس كان نفس المشهد.


أحياناً، لا نحتاج كتاب «تفسير الأحلام» من أجل تفسير الأحلام.

وقد نقول: هذه مجرّد أحلام. كما أخجل من إدراجها في سياق الحديث عن الإبادة: إن كنّا من هنا، نحلم بهذه الأمور، فماذا عن الذي يعيشها؟ بل ماذا يحلم الذي يعيشها؟ ماذا عن الغزّاوي القابع في خيمته، إن سرق لحظةَ نومٍ رغم صوت الزنّانة ولهيب القذيفة؟

وسنقول: هذه مجرّد أحلام. أعلم، لكنّها بنهاية الأمر: أحلام. نُدرك بُعدَنا عن الحدث، ومع ذلك نستدرك قربنا منه. أو بالأحرى قربه منّا. من هنا كان لا بدّ من التمييز بين الإبادة بنفسها، وما أسميته «الإبادة الفائضة»، وهو مساحة تلعب فيها الأحلام دوراً أساسياً. لم نذهب إلى غزّة، لم نعش الإبادة، لكنّ الإبادة *فظيعة* لدرجة أنّها فاضت عن الجغرافيا، واستوطنت عالم الخيال، ضمناً: الأحلام. مجّرد أحلام، أعلم.

Photo 9_a3
Source: DuaaTuaima

أكثر من مضمون هذه الأحلام، أشدّد على شكلها. هذا الشكل الصوَري للغاية. الواضح. المنطقي، رغم كل المدارس التي تتساهل مع فكرة أنّ معظم الأحلام قد لا تبدو منطقية. هذه الصوَر. ومراجع هذه الصوَر. اتّساق الأحداث أيضاً.

بسهولة، يمكن أن أقصَّ هذه الأحلام على أحدٍ بوصفها حقيقة، ولن يساوره أدنى شكّ.

إشارة

لا تأتي جميع «أحلام الحرب» بهذا الوضوح. فبعضها لا حربَ فيه، لكنّه مع ذلك، «حلم حرب».

حلم (8)

ليلة تبييض الأحلام الـ7 الواردة للتَو (24 شباط)، وبعدما ظننتُ أنّني غفَوت، أقصد: في هذا البرزخ الدقيق الكامن ما بين الصحوة والغفوة، عندما تشعر أنّك موجودٌ باللحظة ذاتها في عالمَين مختلفَين، رأيتُ التالي، وسجّلت:

شفت لقطة وحدة. حلم من لقطة وحدة. بعدني ما غفيت، بهيدا الوقت بين الغفوة والنوم والفَيقة، بشوف جاغوار بالحقيقة احترت، للوهلة الأولى كان جاغوار، ثم صار أقرب إلى الشيتا، لكن أنيابه كانت أنياب نمر. راكض عليّي. بينفض راسه. بيطلع دمّ من بين أنيابه. وبس ينفض راسه بيطرش الدمّ. وبيجوا ع وجّي. وفقت وعملت صوت…

على ما أذكر، كان هذا الحلم الوحيد الذي أستيقظ منه وأنا أصرخ. أخذتُ أمسح وجهي. أمعنتُ النظر بيَدي، وتوقّعت للحظة أن أراها حمراء، ذلك أنّني لم أستيقظ إلّا بعدما لبخَ الدمُّ وجهي. 
فقط عندما رأيتُ ألّا شيئاً على يدي، توقّفت عن الصراخ. فهمت أنّ هذا حلم. مجرّد حلم، صح؟

حلم (9)

أخبرتني مايا عن حلمٍ راودها وهو التالي:

أنا وحـ. ومـ. قرّرنا نروح على مطعم، بيعملّك experience بيحَوّل لك راسك لشقفة لحمة فيك تاكلها، وكانوا متل كتير red dark strips من اللحمة. كأنّه كتير من جوّا. Very bloody, very red. وبالمبدأ حـ. صار ياكل… حاله… ممم… بلسانه. يعني ما عاد في إيدين. كأنّن شقف بيلحقوا بعضن كل ما تسحبن. وبالآخر صار بلا راس. وكان بعده عم يحكي عادي، بس انّه ما كان عنده راس. كان بعده ماكل راسه. وكتير كان رواق وعادي ورجع سأل اذا بدنا نروح ناكل مناقيش من بعدها او شي، كأن هيدا ما كان كافي. بس هيك بتذكّر…

حلم (10) (آخر واحد خلص)

على منوال الترميز نفسه، أخبرتني ميشيل عن حلمٍ راودها، أيضاً لا حرب فيه:

كان في كم حلم كنت احلم انه بحرب، حرب. في بنايات عم ينقصفوا. شوف دبّابات، شوف صواريخ. بس في أحلام، كنت يعني… كنت كون بمطار. مطار ما بعرفه، وبعدني واصلة. كنا نشوف أو نسمع بالحرب بطريقة معيّنة. كان في متل signs of الحرب، بس منه حرب. ما عم بعرف كيف اشرح ع المزبوط.

يعني مثلاً كان في حلم كان في حفلة وداع، وما نحكى شي عن الحرب، بس كأن هيدي الحفلة صارت من ورا الحرب. كأن «اه العالم فالّة فعملنا اجتماع أخير بين الكل»، لأن ما كان حفل في طقش وضحك وهيك كان very sombre mood.


حلم 11

كنت أنوي أن أقف عند الحلم العاشر، قسماً بالله. لكن بالفترة الممتدّة ما بين كتابتي للنَّص، وتحريره، راودتني أحلام إضافية، والحقيقة أنّها أفقع من سابقاتها. ومنها، فجر 6 آذار، الساعة 5:08: 

حلمت… اخ هيدا مزعج. تقيل. عم يوجعني راسي هاهاه. حلمت انّه… في بمخيّلة، أو ذاكرة الناس متل folders، ملفّات، متل ما بشوف الصوَر على AFP. وكان مطلوب منّي متل بحث عن مشاريع التخرّج تبع الدفعة تبعي. وصرت فوت ع ذاكرة كل واحد واتفرّج علين من برّا. وارجع نقّي كم وحدة اعملّهن unlock ت نزّلهم ع كبير. بعدين بوصل على وحدة بنزلّها. بيكون هول صوَر x كان معي بالجامعة. بيكون في متل تعذيب؟ متل… أجساااام. ومنقّطين متل كأن مقوّصين بخردق، أو جايي علين شي حارقهن هيك في نقط نقط نقط ع الجلد. وذاكر بهي تحديداً في صورة لمتل الموقع من بعيد. في متل مساحة، فيها تخوت متل تخوت المستشفى الي بيتنقّلوا، و… تعليقات خشب. وهيك فايت غبرا حولهم. يعني بتحسّوا انّه هون في جريمة انعملت. وفيهن صورة تانية لجبل جثث هيك فوق بعضن فوق بعضن كلّن مخردقين. وفي صورة تالتة zoom in على وحدة من هول الإصابات. يعني الشاشة انت بس بتشوف فيها جلد مُصاب هيك مبخوش.

حلم 12

وبعد ليلتَين، في 8 آذار، الساعة 00:53:

اوك حلمت حلم كتييير حقيقي ومفصَّل بس ذاكر منّه… كلّه عن الجنوب. ذاكر انّه بيكونوا عم يقصفوا الجنوب. أوّل شي منكون عم نحضر، اه… ع هي الصفحة ع انستا. بعدين منصير عايشين هونيك منصير بالجنوب. منكون ببرعشيت. وبيكون في قصف. بيكون من ميلة لبنان عم نضرب كتير وهنّي عم يردّوا والطيران عم يلللعب. ناسي التفاصيل. في كذا محل في اشيا بالبَرّ بتصير. بس الّي ذاكره انّه منصير نشوف الراجمات. منصير نسوق عالطريق ونهرب من القصف. منجيب مُصابين. وفي محل بتنزّل الصفحة فيديو لقصف من لبنان، راجمة عم تضرب، محطوطة جنب بيتنا. والشباب بيكونوا مبسوطين فيا انّه ليكوا الراجمة. وانا عم قلّن ما كان لازم تنزل لأن بيبيّن البيت. انّه لمّا يحطّوا فيديو الراجمة ما لازم يبيّن الموقع [ماشاءالله، الحسّ الأمني بالأحلام]. فهلأ ح يعرفوا الإسرائيليي البيت ونحن بالبيت. وبتركب حالة هلع بالحلم كلّه ورح يقصفوا ونحن بالبيت و… وفات إشيا عائلية خاصّة، ومنصير نضهر، بيبيّن x وبيكون معه y، ما عم بتذكّر تفاصيل بس هي الفكرة. يا الله كتير واضح المشهد تبع شكل الراجمة. اااه ايه: بيصير يجي طيّارات، بيصير فينا نصوّرن من قريب قد ما واطيين…

حلم 13

أيضاً بعد ليلتَين، في 10 آذار، الساعة 2:02:

اوك هيدا حلم مزعج، لأنّه بتبلّش تعمل علاقة خاصّة مع العالم، وبهي الحالة أنس الشريف. الصحافي، مراسل الجزيرة في شمال غزّة. فبحلم انّه كلنا تهجّرنا ع بيت، ومناخد ليلة هيك لنروح ننبسط نحن الشباب، بما انّه بالنهار استشهد بيّه، بالحقيقة استشهد والد أنس، جمال الشريف، بتاريخ 11 كانون الأوّل 2023. لكنّه، في يوم الحلم، كان قد نشر صورةً له مع والده، حول «استقبال شهر رمضان المبارك لأوّل مرّة في ظل غياب الوالد الحبيب». فنحن آخدينه يغيّر جو. بعدين بالليل نحن وعم نضبضب بيقلّي رايح بكرا على الـ… جايي بكرا على الـ…؟ قلتله على شو؟ وكنّا عم نضحك. فجأروني الشباب انه بكرا كان دفن بيّه، بس انا ما فهمت. بعدين بس فهمت رقّعت، قلتله: لازم تقول شو في بكرا، غرقانين بالأخبار، وما عم نعرف أخبار بعض حتّى. كان فيه شقفة طويلة بالأوّل، بس نسيتها.


حلم 14 (والأخير، أتمنّى أن يكون الأخير)

بعد 10 أيّام، في 20 آذار، سجّلت حلمي الساعة 9:21 تحديداً. وسبب تسجيل الحلم صباحاً، لا ليلاً ولا فجراً فور استيقاظي، هو أنّني حاولت تناسي الحلم. لم أشأ تسجيله، لكن عند مغادرتي المنزل عدلت عن رأيي، تذكّرت أنّ «الحلم الذي لم يُفسَّر، كالرسالة التي لم تُقرأ». عبارة يُفتَرَض أنّها من التلمود. لكن أعني حقّاً، لديّ أسبابي لمحاولة تناسي الحلم:

حلمت انّه الوالدة استشهدت. 
اه… كنّا بالضيعة و… كانت فالّة هي من البيت ع سكوتر. ومعها كيس فيه أكل وغراض وصوف يمكن. شو بعرفني. هيك غراضها يعني الكيس الي بيضل معها. بتفلّ هي من الضيعة ع السكوتر ومممم… منقدر نشوفها من البيت كيف رايحة عالطريق. بعدين بيكون في مُسَيّرة بالجو. وبتطَلَّع بالمسيّرة بتكون مبينة واطية، فبقول «أكلنا خرا».
وبعدين من هون ورايح بصير احضر الحلم من زاوية تانية. ما بعرف اذا مقسومة الشاشة بالنص أو كنت عم بدّل بين الزاويتين: بس أوّل وحدة هي من أنا وواقف بالبيت، عم شوفها لايف يعني، ماما عالسكوتر؛ وتاني زاوية هي شاشة المُسيّرة، متل هول الفيديوهات الي بينشروهن الإسرائيليي. اه… بعدين بيصير بيبيّن على شاشة المسيّرة انّه عم يجي هيدا السهم الي بالنصّ عليها. وبعدين بوووووففففف. بشوف عالشاشة انّهم قصفوا. بيعمل zoom in عالشاشة بيطلع انّه صابوها، بس ما صابوها الها، صابوا الشي، حدها، السكوتر. وهي بيطير جسمها لورا. فبطّلع من الزاوية اللايف، بلاقي هيك في شي بعده عم يتحرّك بين الحريقة. فمنركض منروح كلنا. بوصل. ممم… بيطلع بعدها عايشة عم تتحرّك، بس يعني شكلها عم تحترق. وبس قرّب لشوف عن قريب، بيجي حدا بينكزني، وبيعطيني دَينة. بعتقد الدينة الشمال. بالأوّل بتطلّع أنا بلاقي إيده كلها دم، بعدين بس يفتح إيده بيطلع هيك في دينة وشقفة من الـ… مسلوخ الجلد يعني. فبمسك الدينة بإيدي بضبّها، وبعدين منروح بتجي الإسعاف وهيك.

حلو. تسالي. هلأ ليش هالحلم؟ لإنّه كان لازم احكي ماما وما حكيتها هاهاه. لأ قصدي كنت عاملّها pin message ع واتساب قبل ما نام ت احكيها الصبح، ولأن كنت حاضر هيك اشيا من الجَو تبع انه بيصيبوا حدا معه سكوتر وبيقولوا هيدا مقاتل بحماس حامل قذيفة، بعدين بيصير في تفكيك للفيديو بيطلع انّه سكوتر مش قذيفة.
يلا خير.

وبس للذكرى، مبارح حلمت هيداك الحلم الشنيع بس ما سجّلته. وبالحلم هيداك بكون عم بنقتَل بس ما بموت. يعني كل فكرة الحلم كانت قايمة على انّه ح موت ح موت. فبصير انقل من جسم لجسم. فكل ما يموت هيدا الجسم الي انا فيه، بكون محضّر حالي، بعدين بنقل ع جسم بسَينة. وبيجي حدا بيحط فرد بتمّها، وبيقوّصها.

المهم. هيدا أوّل حلم بالحرب (ويمكن تاني أو تالت حلم بكل حياتي) بموت فيه، بس بضلّ جوا الحلم.


 

 

[   استراحة للكاتب وللقارئ، للتفكّر بكل ما ورد   ]

 

 


الحقيقة أنّ عالمَ الحلم وعالمَ الواقع عالمٌ واحد. أندريه بروتون، طبعاً. وهي الفكرة التي عمد إلى «برهنتها» في كتاب les vases communicants، في العام 1955. ليس ما يحدث في الحلم «خارج الواقع»، بل شكل آخر للشيء نفسه.

ثمّة ما هو مثير للاهتمام بشكلٍ خاص هنا. قد يبدو أنّنا انتقلنا بالكلام إلى مكانٍ مجرّد للغاية. الحقيقة هي العكس. إنّنا نسبح الآن في مساحةٍ ملموسة للغاية. الفظيع حالة كَونية، universelle. الحلم أيضاً. يصحّ الكلام هنا عن اللاوعي الجماعيّ.

أقصد، لن أستغرب إن راودَ حلمي نفسه، شخصاً آخر في أميركا، لا أعرفه ولا يعرفني، ولا يجمعنا سوى أنّنا نشاهد الإبادة. بهذا المعنى، الحلم يجمع عوالم متباعدة. يجعلنا أقرب. يلغي المسافة، كما يردّنا إلى حقيقة أنّ الإبادة «تفيض»، تتجاوز الجغرافيا، وأنّ إسرائيل تفتح حدود الفظيع.

في المحصّلة، ما يهمّنا من عرض الأحلام هذا، هو تبيان أحد الأشكال العديدة لـ«استدخال» المشاهد وكيفية تشرّبنا الإبادة من موقعنا، وهو ما أسميته «الإبادة الفائضة»، والأحلام جزء أساس منها. لكن ثمّة أشكال أخرى لهذا الاستدخال.

 

الفائض، في الجسد

المشاهد المُستدخَلة لا يُعاد إخراجها أفكّر بالمعنى المزدوج للكلمة في هذا السياق: إخراجها، نقلها من الداخل إلى الخارج؛ وإخراجها، بصرياً، صوَرياً، سينمائياً. بالتجريد فقط، كما في المخيّلة والحلم؛ بل أيضاً بالملموس، بل بأكثر ما نلمسه: الجسد. جسدُنا نحن. لحمُنا. عظمنا. قلبُنا. خلايانا. الذهن. الصداع. الغثيان.

(لستُ طبيباً، ولا أدلّة علمية بحوزتي، لكن) عند درجةٍ محدّدة من «الفظيع المُستدخَل»، سوف يُعاد إخراج الفظيع على هيئة أمراض. مرض، بالمعنى البسيط للكلمة.

العقل الإسرائيلي يخطّط للقتل. يفكّر بالمقتول. لكنّه يفكّر أيضاً بفعل القتل وما يرافقه عند مشاهدته. العقل الإسرائيلي يفكّر بالمشاهدين. هكذا يفتح حدود الفظيع. لا مجال للمقارنة، لكنّ فرط التحديق بالصوَر يجعلنا أقرب إلى الحدث. التحديق، لا النظر. مجدّداً: «الصورة فعل، وليست شيئاً».

ذكرتُ أنّي قلّطتُ أسابيعي الأولى بلا تبِعاتٍ بليغة. المنعطف الأوّل كان يوم قصف مدرسة الإيواء بقنابل الفوسفور. تمظهر المنعطف على هيئة حلم، ثم تتالت الأحلام بنفس السياق. أمّا المنعطف الثاني، فجاء بعد أسبوعٍ على ذلك. ولا أسحب من تجربتي الفردية خلاصات، بل أذكر ما لاحظت أنّه تقاطع بين عدّة أشخاص تابعوا الإبادة، أو عاشوها.

خبر

بتاريخ 10 تشرين الثاني، قصف الاحتلال خيمة الصحافيّين في باحة مستشفى الشفاء. لا بقذيفة متفجّرة، بل بما سيتبيّن لاحقاً أنّه قذيفة «متشظّية»، تنسلخ عنها شفرات تبتر كل ما تصيبه. وكان المستشفى قد قصف قبل أسبوع، في 3 تشرين الثاني، بقذيفة متفجّرة. سيتبيّن لاحقاً أنّ اسمها R9X.

كنتُ أمشي في الحَيّ عند قراءة الخبر. كنتُ بالتحديد قرب محطّة بنزين، لحظةَ شاهدتُ على الانستغرام فيديو للمصوِّر صالح الجعفراوي، يرفع يده الملطّخة بالدمّ أمام الكاميرا أثناء إعلانه الخبر، وهو يصرخ. كأنّ شهادته ما كانت تكفي، كأنّه احتاج دليلاً حسّياً كي نصدّق: قصفوووهم! قصفوهم! جوا المستشفى قصفوهم.

Source: SalehAlJafarawi

توقّفت عن المشي. أشحت بصري قليلاً، ثم كرّرت الفيديو. غثيان. استندتُ إلى عمودٍ جانبي. أتصفّح هاتفي. المواقع والمتابعون ينقلون الخبر: «العدو قام باستهداف مستشفى الشفاء بصواريخ RX9 الأميركية عديمة الانفجار، حيث يتحوّل الصاروخ إلى شفرات تطير على امتداد 100 متر لتقطع أطراف الإنسان في مشهد إجرامي تقشعر له الأبدان».

تقشعر له الأبدان، تقشعر له الأبدان، تقشعر له الأبدان، تقشعر له الأبدان… كانت هذه الكلمات الثلاثة ترنّ في جمجمتي محدثةً طنيناً لم أفهمه. دوخة صغيرة، وغثيانٌ كثير. تقشعر. له. الأبدان. وتأمّلتُ بدَني، وكان يقشعرّ.

بعد دقائق انتشر فيديو آخر، فيه الإصابة الأولى، ليلاً الفيديو الأوّل صوّره صالح الجعفراوي، صباح 10 تشرين الثاني. الفيديو الثاني صوّره أحد الصحافيين، ليلاً، أي فجر 10 تشرين الثاني. نتحدّث عن استهدافَين مختلفَين، في المكان نفسه، والأرجح بواسطة السلاح نفسه. : رجل يدخل على الخيمة ويصيح. لم أفهم تفاصيل الفيديو وتجاوزته. اعتقدتُ أنّه «مجرّد إصابة». والحقيقة أنّي لم أكمله حتّى نهايته، إلّا بعد أسابيع، عندما يمرّ د. غسّان أبو ستّة على ذكر هذا الاستهداف بالتحديد:

- هل هنالك إصابات شاهدتها في هذه الحرب لم تشهدها في سابقاتها؟
- هذا الصاروخ المتشظّي. كنت شاهدت شبيه لإله بالانتفاضة التانية. كان اسمه فلاتشت بومب. الي هو كان بس زي القنابل العنقودية المليئة بالمسامير. بس انه نفس الصاروخ يتشظّى، انه الوعاء الخارجي للصاروخ يصير جزء من الشظايا. هذا كان جديد. [...] هذه الصواريخ الانشطارية المستخدمة، البتر فيها يختلف عن البتر بسبب التفجيرات العادية.  من مقابلة «غسان أبو ستّة… طبيب الحروب الشاهد على أحداث غزة - بودكاست البلاد»، مع منى العمري، على منصّة أثير، 12 كانون الأول 2023

Source: رضوان الأخرس

بعد دقائق، تُعيد المحاورة، منى العمري، التطرّق إلى الصاروخ نفسه بشكلٍ مفصّل:

- دكتور، في السلاح الأميركي RX9 hellfire المعروف باسم النينجا. قيل أنّه يسقط، لا يحدث صوتاً ولكن من شأنه أن يقطّع الأطراف. ما هي الآثار الناجمة عن هذا الصاروخ الي كنتوا تشوفوها بغرفة العمليات؟
- أنا عندي قناعة انه هو هيدا الصاروخ الي استُخدم بمستشفى الأهلي. بسبب أنواع البتر الي رأيناها، بسبب نوع الإصابات الي رأيناها. واستُخدم عدّة مرّات بعدها. يعني لمّا أثبت نجاحه صرنا نشوف أكتر إصابات منّه. الجرح بسبب الانفجار العادي مليء بالتراب والحجر والصخر، الّي هي بينفجر الصاروخ وبتصير الأرض هي جزء من الشظايا. هاد الجروح من هاد الصاروخ «أنضف». ما فيها تراب ما فيها حجر. البتر فيها زي المقصلة. حافّة الجرح مش محروقة زي القذائف العادية. نضيفة ومدبّبة زي الأنسجة قصّها منشار.
- واو… اها… و… فعلياً… طبعاً الصاروخ لن يفرّق، لكن مين الأكثر نصيباً من الفئات التي لربّما أُصيبت بهذا الصاروخ؟
- يعني أنا أذكر آخر مرّة كان ضربوا مسجد بحي الصبرا. كان وقتها صلاة العشاء أظنّ. واجا 60 شهيد ومئات من الجرحى جزء منهم كانوا بالمسجد لأن احتموا بالمسجد. كان كلهم فيهم شظايا. بس إصابات شظايا حديدية.

تملّكني الغثيان طيلة هذا اليوم. 10 تشرين الثاني 2023. في اليوم التالي مرضت. هذا النوع من «المرض» سيتكرّر، ربّما مرّة كل أسبوعَين؟ تعب، انحطاط، المفاصل تحديداً، العظام، والمخيّلة/ الذاكرة تعلك مشهد الرجل الذي بُترت ساقه، يصرخ، وأفهم كم أنّ جسم الإنسان هشّ. كم أنّ آلة القتل فظيعة.

بدأت أستوعب، تدريجياً، فظاعة هذه الصوَر. تزايدت وتيرة هذا «المرض». لا زكام ولا رشح ولا أي «مرض طبيعي»، بل هكذا شعور بأنّني مسكون، بأنّني لا أرى شيئاً كما هو عليه، شعورٌ سحيق بأنّني هش، بأن أي قطعة معدن سوف تخترق جسدي وتقسمه، كنت أستطعم بين أسناني بطعم الحديد، زلعومي مسدود، حتّى أنّني قاطعتُ الطعام لفترة. كنت أشعر أنّ دمي يسيل من أنفي ومن أذنيّ بلا توقّف. 
كان الدم يملأ عيوني.

كانت صديقةٌ تقول: جسمي عم يتكربج كل يوم. عم بوجع. بحسّ في غصّة عم تعصرني، بقوم بستفرغ، برجع بشوف. بتطلّع. بسمع. بينطوي جسمي كلّه وبجمد [...] بس بركي انا مش جامدة. انا جسمي عم يشهد، كل شي فيني عم يشهد. بس شو قول؟


بعد شهرٍ تقريباً، في 7 كانون الأوّل، مع توغّل الجيش الإسرائيلي في أحياء شمال غزّة التي كانت، رغم ذلك، مليئة بالناس، بدأت ترد أخبار عن «إعدامات ميدانية». صباحاً، نشر عددٌ من الصحافيّين في الشمال تغريدات عن ذلك. وبعد أسبوعين، في 23 كانون الأوّل، أفاد الدفاع المدني أنّ «معظم الجثث التي انتشلناها من بيت لاهيا شمال غزة تعرضت لإعدام ميداني ونهشتها الكلاب».
ظهراً، انتشر أوّل فيديو.

بدأتُ بمشاهدته، بشكلٍ «عادي». الجثث على الأرض، وبعد ثوانٍ صعقني المشهد. شردت. شعرت بالغثيان. وأذكر كيف أخذت يدي ترتجف. اللافت أنّ هذه المرّة لم يكن المشهد «حسّاس»، ولا حتّى دموي. لكنّ عنصراً بسيطاً منه، ثانوياً، غَيّر وقع المشهد: على جثّة الرجل، جلست قطّة.

شعرتُ أنّ الصورةَ يسكنها تناقضٌ غريب. لم أنشر الفيديو آنذاك. اكتفيتُ باستراق صورةٍ منه لنشرها. ثم عدلتُ عن نشر الصورة كذلك. كان يسكنها تناقضٌ غريب. وخطر لي، لعجزي عن مشاركة المشهد، أنّ أسجّل هذه المفارقة على المدوّنة (7 كانون الأوّل 2023):

كل يوم منفتح التلفون ومنبلّش نبرم ع الأخبار والصوَر. 
كل يوم منقول شفنا أنيَك شي ممكن نشوفه.
تاني يوم منشوف أنيَك.
بشهرين شفت كمية صوَر ما كنت متخَيّل ممكن تنشاف.

وبرضو «هَينة» عشان هول بس صوَر، مش الواقع. 
وفي ناس عم تعيش الشي الي انا عم شوفه. 
فعشان هيك بسكت وبقول «هينة».

بعرفش ليه عم بكتب هالشي. بس اسّا شفت صورة، بعتقد انها الأفظع من أوّل الحرب: مجزرة بمدرسة إيواء ببيت لاهيا، الجثث موزّعة عالأرض، مقوّصة برصاص مش بقذايف. واضح انه عن مسافة قريبة. الّي عم يصوّر بعيد ومخبّا، بيبرم شمال يمين، بيثبت على جثّة:
زلمة ملقوح بالأرض، وراه في لوح مخردق برصاص، جنب منّه حمّالة ورفش، جسمه من فوق غرقان ببقعة دمّ، الدمّ عم ينزل من راسه، دماغه برّا راسه. على صدره في بسينة، عايشة، عم تبرم راسها شمال يمين وتتفرّج ع الجثث.

أكانت تلتزم هي الأخرى بواجب التحديق؟ ربّما.

Source: Ramy Abdu

بطبيعة الحال، سرعان ما سيتبيّن أنّ هذا المشهد ليس «الأفظع منذ بداية الحرب».

المرّة التالية التي سوف أقع فيها على مشهدٍ «تقشعرّ له الأبدان»، بالأحرى بدَني، هي بتاريخ 15 كانون الثاني 2024: الطبيب هاني بسيسو يمسك ساق عهد (ابنة شقيقه)، بعدما بترها صاروخ، ليبترها بدوره بشكلٍ طبّي، في المنزل، بدون بنج أو حتّى مسكّنات. فيما يمسك الساق، يروي التفاصيل للكاميرا، يحدّق بالعدسة، بنا، ويغسل القدم وأشلاءها الناتئة في سطل. الجلد، اللحم، العظم، حتّى الشرايين.

كان هذا الفيديو، في اليوم 100 من العدوان، أفظع ما شاهدته، وأكثر ما هزّني نفسياً وجسدياً. يقول د. هاني إنّ «ربنا منزّل عليها الصبر»، وفي مقابلةٍ لاحقة (20 كانون الثاني) يقول إنَّ «البنت تحمّلت أشياء العقل البشري لا يتحمّلها».

هل هناك أوضح من هذا المشهد لتلمّس مفهوم الفظيع؟ وإصرار آلة القتل على التوغّل بجسد الضحية واستعراض هشاشة جسم الإنسان؟ وتبِعات صورة الفظيع علينا؟


هذه ثلاثة مشاهد انتقيتُها بشكلٍ ذاتي للغاية. لا أعمّم الأمثلة. الصوَر التي خلقت لدينا مثل هذه الانطباعات قد تختلف، أكيد، لكنّ المشترك هو الانطباع.

كل هذا يجعلني أتيقّن أنّ العقل الإسرائيلي يتفادى «القتل النظيف» عمداً، ويسعى إلى إلحاق الحدّ الأكبر من التشويه بضحاياه. لا كي يُقتلوا أو يُصابوا وحسب، بل أيضاً كي يلحق بهم قتلٌ ومُصابٌ «خارج على المألوف»، خارج على المألوف لدرجة «تستحقّ» التحديق الطويل، لدرجةٍ فظيعة، لدرجةٍ تجعل الإبادة تفيض، وتستقرّ حيث فاضت.

وهذا يتجلّى بواسطة الصورة، مع أنّه ليس إلّا غرضاً من أغراضها العديدة.

 

في الصورة

السؤال

ما هي وظيفة الصورة في سياقٍ إباديّ؟

نقاشات «وظيفة الصورة» كثيرة. لا أنوي استعادتها هنا، لكنّي أعرض مثلَين كان فيهما سؤال الوظيفة واضحاً للغاية، برأيي: صوَر أوشفيتز (1944)، وصوَر قيصر (2013). أستعيد المثلَين كونهما يندرجان ضمن صوَر الإبادة بالتحديد، وليس فقط صور الحروب، وليس فقط صور الفظيع.

أوشفيتز

معظم المعلوم عن هذه الحقبة معلومٌ من شهادات الناجين، واعترافات الجلّادين في محاكماتهم، والوثائق النازية التي كانت سرّية. إلى ذلك، يُضاف عددٌ قليل من الصوَر سُرّبَ عشية انتهاء الحرب، وأخرى انكشفت ما بعد انهزام ألمانيا النازية.

أمّا المحرقة بالتحديد، فكانت في ذورة عملها «سرّية»، معزولة عن الخارج، مجهولة بين العامّة، لا سيّما أنّ النازيين حرصوا لا على التخلّص من الضحايا وحسب، بل أيضاً من أولئك الذين كانوا يتخلّصون من الضحايا: شكّل النازيون داخل المحارق فرقاً من الـ«سوندر-كوماندو»، عديدها من الضحايا اليهود، مهمّتها تشغيل المحارق لفترة محدّدة، تُشكَّل من بعدها فرقة أخرى، على أنّ تتخلّص كل فرقة «سوندر-كوماندو» جديدة من تلك التي سبقتها: جريمة بلا شهود، ومَن يشهد عليها مصيره أن يكون بين ضحاياها المستقبليين.   بل أكثر، أعضاء هذه الفكرة يعلمون أنّهم سوف يُقتَلون، تحديداً لأنّهم شاهدوا الجريمة. ويعلمون ذلك سلفاً، وبالفعل، لأنّهم افتتحوا شهادتهم بفعل قتل مَن شاهد قبلهم. فظيعة هذه الفكرة. فظيع أن تُرغَم على تشغيل المحرقة وأنت تعلم أنّك تصنع ما سوف يصبح مصيرك.

في هذا السياق إذاً، كانت وظيفة صورة المحرقة بالدرجة الأولى: الفضح. وبعده، يكون لهذه الصور وظيفة الحشد. الحشد الكافي لقلب الواقع الذي تنقله الصورة. وبعده، تصير وظيفة الصورة التوثيق: «هكذا كانوا يفعلون بنا».

الفضح، الحشد، التوثيق.

قيصر

بخلاف المحرقة، ما كان يحدث خلف جدران سجون النظام السوري كان معلوماً. عندما سرّب «قيصر» صوره الـ55,000، عام 2013، ما كانت ممارسات النظام داخل السجون (التعذيب، القتل) تنتظر فضحاً. فمن زمن حافظ الأسد، وثّق معتقلون سابقون شهاداتهم، بالمَحكيّ والمكتوب. شهادات، خطابات، سير ذاتية، أشعار... لكن من جهةٍ أخرى، ظلّ الجلّاد ينكر التُّهم المنسوبة له، كما أسّس بنىً تحرص على عدم التداول بالموضوع (الحيطان الها دينين، صح؟).

لم تفضح الصوَر جديداً، لكنّها أكّدت (صوَرياً) شهادات سابقة (غير صوَرية). ليس أنّنا لم نصدّق تلك الشهادات، بل أنّ سندَها الصوري أصبح الآن موجوداً للعامّة، وعلاوةً على ذلك، مصدر الصوَر هو «الفريق الآخر». وثّقت الصوَر جرائم النظام وكذّبت مزاعمه. ويمكن أن نضيف، بالحالة السورية ونظراً لسياسة الإخفاء التي اتّبعها النظام، أنّ الصور كشفت مصير المئات ممّن كانوا مجهولي المصير، فبعض الأهالي تعرّفوا على ذويهم عبر هذه الصور، ولو بعد فوات الأوان.

إذاً صَدّْ مزاعم النظام، التوثيق، تبيان المصير المَخفي؟

تساؤلات

أنتقل إلى موضوعنا. ربّما أجد «الوظيفة» عبر حذف الاحتمالات تِباعاً. 
خلاصتي أنّ كلّ الوظائف الأساسية التي عدّدتها للتو، هي ثانوية بالحالة الفلسطينية.

صوَر الإبادة الإسرائيلية (تفضح بدرجة محدّدة أكيد، لكنّها) لا تفضح: المجرم بنفسه يصوّر. كما أنّنا لا نحتاج صورةً كي نقول «انظروا، إسرائيل تكذب». في بحثٍ آخر، يمكن المحاججة أنّ السياسة الإسرائيلية (والأميركية) اهتمّت بالكلام أكثر من الصورة: عقلٌ يقرّ صوَرياً بوجود جريمة، بل يروّج لها صورياً، ثم يتّكل على الألسنيات وعلم الكلام للتهرّب منها وقلب الواقع. صحيح أنّ الصورة توثّق؛ لكنّ هذه ليست وظيفةً أساسية، أعني، توثّق ماذا؟ الجريمة؟ لِمَن؟ لمحكمة العدل الدولية؟ كي تقول ماذا؟ كي «نبرهن» أنّ إسرائيل تورّطت «على الأرجح» بإبادة؟

طب ماذا عن احتمال الحشد؟ هل يمكن للصوَر أن تحشد بما يكفي لوقف الإبادة؟ ولوقف إعادة إنتاجها هي كصور إبادة؟ يمكن المحاججة برأيين متناقضَين: 

    1. كلّا، لا حشد هنا: أعني، كل هذه الصوَر وما زالت الإبادة مستمرّة. اليوم 211.
    2. بلى، هذه الصور بنَت رأياً عاماً عالمياً استطاع «ضبط إيقاع» الإبادة، رأياً عاماً ناضجاً إلى حدٍّ أصبح عنده عامل ضغط على أمد العدوان: تحرّك الطلّاب في جامعات أميركا مثلاً.

والحقيقة ألّا تمييز قاطعاً بهذا الشكل، أسود أو أبيض، لذا أعيد صياغة السؤال: هل تستطيع الصورة وقف الإبادة— على الأقل باعتبارها عنصراً من بين عناصر عديدة مطلوبٌ توفّرها لوقف الإبادة؟ 
وإن كان الحال كذلك، ما هي العناصر الأخرى؟ الكفاح المسلّح أوّلاً. الرأي العام العالمي ثانياً؟ الصورة ثالثاً؟ لا أعلم. المفاوضات السياسية رابعاً؟ هل تتقاطع هذه العناصر في ما بينها؟ أين؟ وما هي العوامل التي تعرقل تحقيق هذا الحشد؟ وفي طوفان الصوَر الذي نراه اليوم، يصبح التساؤل: ما هي *الصورة* التي يمكن لها إزاحة هذه العراقيل؟

Source: Mohammed Salem/ Reuters
Source: AlJazeera
Source: AlJazeera

قناة الجزيرة مثلاً، كرّرت عرض فيديو الأطفال الخدّج ذاته لما يُقارب الـ48 ساعة، بشكلٍ متواصل وبلا انقطاع، على ربع شاشتها.

Source: UnmuteGaza

إذاً ما «قيمة» هذه الصور؟ ما قيمتها بالسياسة؟ ما قيمتها بالمطلق؟ أعني، أكيد لهذه الصور قيمة، وإلّا، لماذا مَنهجت إسرائيل قتل الصحافيين؟ بل أيضاً تدمير معدّاتهم؟  حتّى اليوم 200، قتلت إسرائيل 144 صحافياً، فضلاً عن الذين تعمّدت استهدافهم بشكلٍ يعيقهم جسدياً. صحافيون آخرون تلقّوا ما يكفي من التهديدات ما جعلهم يخرجون من غزّة. أو مثلاً، سرقت قوات الاحتلال مسيّرة التصوير الجوّية التابعة للمصوّر الصحفي معتز عزايزة، وبعدها، استهدفت المصوّرَين حمزة الدحدوح ومصطفى ثريا، ليتبيّن أنّ ثريا بدوره كان يحمل مسيّرة تصوير جوية؛ بهذه «التكتكة»، جعلت إسرائيل أي صورة جويّة لغزّة شبه مستحيلة، أقلّه لأسابيع.
ويلخّص وائل الدحدوح الأمر بجملةٍ، في مقابلته على «أثير»: يعني تجارب صعبة. احنا كنّا على مدار اللحظة، حقيقةً، نعمل باللوجستيات أكثر مّما نعمل في جمع الأخبار. يمكن أن نذكر أيضاً قطع الاتّصالات والانترنت، وكيف كانت تُرتكَب أشدّ المجازر بالتزامن مع ذلك. نتيجة كل هذا، ومنذ الشهر الأوّل للإبادة، بتاريخ 7 تشرين الثاني 2023، صرّح الإعلام الحكومي بأنّ «ما يظهر لوسائل الإعلام من مجازر الاحتلال الدموية وجرائمه لا يمثّل إلّا 30٪ فقط، نتيجة قيام الاحتلال باستهداف الصحافيين وصعوبة تنقّلهم وقطع الاتّصالات والانترنت في قطاع غزّة».
 وماذا يحدث بالصورة بعد انتشارها؟ ما دورها تجاه المتفرّج؟ صديقةٌ تقول: أريد الصورة كي أشهد عليها. لا كي أتفرّج، بل كي أشهد. أن أكون شاهدة على الإبادة. ألّا أغضّ النظر. أن أحاول أن أشهد على الجريمة. هذا التمييز بين المتفرّج، والمشاهد، والشاهد. وأمامهم الشهيد، صاحب الصورة نفسه. وما دور الصورة تجاه صاحب الصورة؟ بصرف النظر عن كلّ العالم الخارجي، عن كلّ الحشد والفضح والتوثيق، الصوَر تفعل شيئاً للضحية نفسها. تعطيها حسّاً بالتموضع. تساعد، لاحقاً، بترميم الذاكرة التي لا يمكن لها أن تستوعب آنياً كل ما يحدث— ترميمها، ولو كانت ذاكرة مخرّبة.

إذاً كل هؤلاء معنيّون. لكن مع تجاوز الإبادة شهرها السادس، يطوف تساؤلٌ مزعج: ليش بعدن عم يصوروا؟ لمين عم يصوروا؟ من دون أن يعني ذلك، «توقّفوا عن التصوير».

وقد تكرّر التساؤل بعدّة فيديوهات. تِباعاً، تبدّل «نمط» الحديث الموجّه للكاميرا، خاصّة في الأسابيع الأخيرة (ما بعد تهجير الشمال؟). انتقلنا من نمط «صَوِّر، صَوِّر» إلى نمط «لمين عم تصوّر؟».

أذكر جيّداً فيديو دخول وائل الدحدوح إلى مستشفى المعمداني يوم المجزرة، وهو يطلب من حمدان (المصوّر) أن «يرأف بالجثث»، ألّا يصوّرها بشكلٍ مباشر، لكن يداً تمتدّ وتوجّه الكاميرا إلى الجثّة، فيما يدل عليها الناجون وهم يصرخون: «صوِّر! صوِّر».

Source: AlJazeera

ثم أذكر، بعد أسابيع، انفعال امرأة لمّا لاحظت شخصاً يصوّرها وهي ترفع الردم من أمام مدخل بيتها: «لمين عم تصوّر؟ ما تصوّرناش». وبعد أيام، على مسير النزوح، يلتفت رجلٌ إلى الكاميرا ويسأل: ياخوي الدوَل والناس واللي انتو قاعدين بتصورولهم، في حدّ بيسمعكو يا خال؟ [«بيسمعكو»، وليس «بيسمعنا»، الرجل الممتعض يأخذ مسافته] في حدّ بيشوفنا؟ بيشوف الموت؟ بيشوف الناس هاد؟ كيف احنا عايشين؟ كيف حالتنا؟

- عَمّي كم يوم الها الحرب؟
- احنا 120 يوم. في مُسلم، غير فلسطيني، عرف ايش بيصير معانا؟ ولّا بتصَوروا لحالكم؟ ولّا ايش قصّتكم؟ حدّ بيسمعكوا انتو؟ [مجدّداً، يأخذ الرجل الممتعض مسافته. يُمَوضع نفسه خارج الصورة، تحديداً لحظةَ يكون هو الصورة] اذا حدّش بيسمعكو، خطَيّة في هالرقبة، روّحوا لولادكم، احسنلكو يا عمّي. احنا قاعدين في الموت. [...] خطيّة في رقبتي ترَوحوا لولادكو، أحسن ما تموتوا زي ما ماتوا ولادنا.

هذه الأمثلة لا تختزل مزاجاً عاماً. سيبقى حتّى النهاية الجريح الذي يرفع قدمه المبتورة أمام الكاميرا ويقول: «شوف». وكان منذ البداية المكلوم الذي رفض تصوير أوضاعه.

لكن ما أعنيه هو أنّ الإبادة، كلّما مضت قدماً، ازدادت فيها التعليقات التي تزدري التصوير، وازداد «الحقد» على التصوير. نمط الحديث أمام الكاميرا يتبدّل. النظرة للكاميرا تبدّلت. الخطاب بطبيعة الحال تبدّل.
مثلاً، لا أذكر متى كانت آخر مرّة شاهدتُ فيها غزّاوياً يصرخ للكاميرا: «وين العرب». كسم العرب.

والتبدُّل من الجهتين: ليس فقط من يقف أمام الكاميرا، بل أيضاً خلفها، المصوّر. صحافيون كثر نشروا تساؤلاتهم حول عملهم، حول جدوى التصوير، حتّى أنّ بعض هذه التساؤلات انتهى بمغادرة القطاع.

في اليوم 206، يقول الطفل عبدالله المجايدة للكاميرا:
زي ما شفتوا يا جماعة أنا بدّي بطّل أعمل فيديوهات عشان الناس بطّلت تتفاعل مع فيديوهاتي.
وفش ولا حدّ بيتفاعل. والمتابعة صارت تنشال من عالصفحة يا جماعة. 
ليش…؟
ليش انتو بطّلتوا تهتمّوا يعني؟
تعوّدتوا عالـ…؟ عالقتل اللي بيصير فينا والـ…؟
مش عارف ايش أقول والله يا جماعة. والله مش عارف ايش أقول.
الناس بتموت.  اللافت، أن عبدالله نشر فيديو جديد بعد يومَين. كان ذلك يوم تهديد رفح، حيث يتواجد، بالإخلاء.

هذا التبدّل تجاه الكاميرا يعكس واقعاً سياسياً، منبعه إحباطٌ من استمرار الإبادة *رغم تصويرها*. وهو يشير إلى أنّ الصورة «فقدت وظيفتها». فقدت *شيئاً* من وظيفتها ومن قدرتها، قل من سلطتها.

هذه الخيبة الكبيرة من الصورة؛ خيبة، لكلّ مَن آمَن لحظة أنّ شكواه أمام الكاميرا سوف تُنهي الإبادة، وكأنّ الله يشاهد قناة «الجزيرة» ويحتكم لصراخ المفجوعين.


هذا التردّي الذي أصاب قدرة الصور، رغم كثرتها. أو ربّما، *بسبب* كثرتها؛ هذه «اللامبالاة» تجاه الصورة، تحيلني من جديد إلى المثلين المذكورَين سابقاً. فرغم اختلافهما بنفسهما، ورغم اختلاف سياقهما، تتقاطع حالة قيصر وحالة أوشفيتز عند نقطتَين محدَّدتَين:

  1. خلَقَ الجلّادون آليات لحجب الصورة، وبالحالتَين، خاطر المصوّر بحياته– حرفياً– لانتزاع الصوَر أو تسريبها.
  2. كان من الضروري انتزاع الصورة وتسريبها لمحاربة الآلة التي جعلت مثل هذه الصوَر ممكنة.

أعني، في حالة أوشفيتز بالتحديد، كان فعل التقاط الصورة جزءاً من عمل المقاومة: ذلك أنّ المقاومة البولندية هي من اقترحت تسريب الصور من داخل المعتقل، وبالفعل، ساهمت هذه الصور بوقف عمل المحرقة.

من جهتهم، طلب قادة المقاومة البولندية، عام 1944، صوَراً. وهكذا، وبحسب شهادةٍ سجّلها هرمن لانغباين، تمكّن عاملٌ مدنيّ من إدخال جهاز [تصوير] خلسةً وتسليمه لأعضاء السوندر-كوماندو. ولم يكن في الجهاز، على الأرجح، سوى طرف فارغ من الشريط الفوتوغرافي. 
[...] وبعد حين، في 4 أيلول 1944، ستعود البكرة إلى المقاومة البولندية في كراكوف، مرفقةً برسالة كتبها معتقلان سياسيان (جوزيف سيرانكيفتش وستانيسلاف كلودزنسكي):

«طوارئ. ابعثوا بأقصى سرعة ممكنة بكرتَين معدنيّتَين لشريط فيلم فوتوغرافي 6*9. يمكننا أن نُعدّ صوراً. نرسل لكم صوراً من بيركناو (أوشفيتز)، تظهر اقتياد المعتقلين إلى غرف الغاز [...] أرسِلوا لنا البكرات بأسرع ما يمكن، وأرسلوا إلى تيل، اسم سرّي لعضوة في لجنةٍ سرّية من المقاومة البولندية، تهتمّ بمتابعة شؤون المعتقلين في المعسكرات النازية. على الفور، الصوَر المرفقة بالرسالة. نعتقد أنّ الصوَر المُكبّرة يمكن نشرها في مناطق أبعد». بعد أسابيع على هذه الرسالة، كان الجيش السوفياتي قد بلغ أنقاض أوشفيتز، إذ فجّر النازيون المعسكر قبل انسحابهم منه. Georges Didi-Huberman, Images Malgré Tout (2003), les éditions de minuit

Source: public domain, Poland

 

الإبادة الفائضة / الإبادة

لكل زمن علاقته مع صوَره. ومواضيع الصوَر التي عدّدتها في الفصول السابقة، تختلف في ما بينها وتختلف تحديداً عن حالة اليوم، ولا تصحّ المقارنة. ولا تصحّ المقارنة تحديداً بين أوشفيتز وغزّة: دعونا لا ننسى، في الحالة الأولى، كانت الضحية من «العالم الأوّل»، ولم تكن سمراء، مثلنا. الاعتراض الأوروبي لم يكن على المحرقة بذاتها، بقدر ما كان على أنّ هذه المحرقة اتّخذت موضوعاً فئة أوروبية بدورها. بكلمات الكاتب المارتينيكي، إيمي سيزار:

لقد تصالح [الأوروبيون] مع النازية من قبل أن تُفرَض عليهم، لقد برّأوها، وأشاحوا بصرهم عنها، وأضفوا شرعيةً عليها، كونها، حتى ذلك الحين، لم تُطبَّق إلّا على شعوبٍ غير أوروبية [...] وما لا يمكن [لأوروبيّ القرن العشرين] أن يسامح هتلر عليه، ليس الجريمة بذاتها، ليس الجريمة بحقّ الإنسان، ليس إذلال الرجل بالمطلَق، بل الجريمة بحقّ الرجل الأبيض، وإذلال الرجل الأبيض، وحقيقة أنّ هتلر طبّق على أوروبا الكولونيالية إجراءات كانت حتّى ذلك الحين، مخصَّصة حصراً لعرب الجزائر، و«صنّاع» الهند، و«زنوج» أفريقيا.  إيمي سيزار، خطاب عن الاستعمار (1950)

لكن، عدا ذلك، ثمّة هوّة سحيقة. تناقض، بين وجود مثل هذه «الصوَر الكثيرة عمّا يحدث اليوم»، و«ما يحدث اليوم بالفعل».

أفكّر أنّ الصوَر الأربعة في حالة أوشفيتز، مثلاً، بقيَت موادّ قائمة بذاتها، أنتجتها الإبادة، وكان غرضُها العملَ على وقف الإبادة، واكتفينا بهذا القدر. ثم جاءت تعديلاتٌ على هذه الصوَر بزمنٍ لاحق، وأُدخلت هذه الصوَر على سكّة «الإنتاج الفنّي» في زمنٍ لاحق. أعني، هذه 4 صوَر تمّ التعامل معها، أثناء انكشاف الحدث، على أنّها 4 صور وحسب.

لكنّ القاعدة اليوم أن نتعاطى مع أي صورة لا على أنّها صورة قائمة بذاتها، بل على أنّها مادّة أوّلية لإنتاج مادّة أخرى، للاستهلاك. «سلعة». مثلاً الصوَر التي أُعيدَ رسمها كما هي، مع بعض التعديلات «الفنّية»— تعديلات، تنتهي غالباً بتخفيف فظيع الصورة؛ أو مثلاً التقارير الإخبارية التي تجعل الضحية تُشاهد صورة موتها، وتشرحه، ما يولّد انطباعاً بأنّ الصورة بنفسها «قاصرة».

لا مفرّ من «مجتمع المشهد». عالمنا اليوم يحتاج لبناء موادّ إضافية انطلاقاً من مادّةٍ أولى، حتّى لو كانت المادة الأولى صورة إبادة. ثمّة على الدوام شريحة إضافية: الإبادة، ثم صورة الإبادة، ثم الموادّ المُنتجة من صورة الإبادة. ويبدو أنّه كلّما استمرّت الإبادة لوقتٍ أطوَل، غرقنا بتلك الشريحة الإضافية أكثر.

بلحظةٍ أولى أفكّر أنّ مكانة الصورة «تزعزعت». أنّ وظيفتها ما عادت على هذا القدر من الوضوح، وأنّ قدرتها الخارقة عادةً، باتت مبتذلة.
بلحظةٍ ثانية أتراجع. أفكّر أنّه، ربّما، العكس هو الصحيح: الأمور واضحة إلى درجةٍ فاقعة، ولا تحتاج لأي موادّ إضافية للإيضاح.

بلى، الأمور واضحة إلى درجةٍ فاقعة. الإبادة واضحة، لكنّ ما يفيض عنها يعمينا.


إذاً يعمل الموضوع بالاتّجاهَين.

[إبادة - إبادة فائضة]، من جهةٍ أولى، ثم [إبادة فائضة - إبادة] من الجهة الثانية. وفيما يكشف لنا الاتّجاه الأوّل كم أنّ الإبادة فظيعة، لا يفعل الاتّجاه الثاني ذلك، بل العكس: يعمل على تلطيف فظيع الإبادة. الإبادة الفائضة تجعلنا نتهيّأ لإبادة بشكلٍ ألطف ممّا هي عليه فعلاً.

وهذا المسار يُلائم تعريصة العقل الإسرائيلي.
تفترض هذه التعريصة أنّنا إذا غرقنا بهذا السَيل من الصوَر؛ أنّنا إذا بدأنا نتعامل مع هذه الصوَر لا كفعلٍ، لا كواقعٍ، بل كمادّة أوّلية لإنتاج تصوّرات بصرية أخرى (غالباً رديئة)؛ فإنّنا «نبتعد» درجةً عن واقع الإبادة، ما يسهّل شروط استمرارها. فلنقل «نلتهي». فلنقل ينقسم حقلنا البصري على عناصر ليست حصراً عناصر الإبادة. عناصر لا تتقاطع مع الدم المسفوك، ولا تعمل على وقف سفك هذا الدم. كلّما فاضَت الإبادة، خلقت تصوّرات بصريّة أبعد عن مركزها؛ ما يولّد انطباعاً بأنّ «الشيء»، هناك، مختلف فعلياً عن الشيء كما يتمّ التداول به، هنا.


أعود إلى صوَر السوندر-كوماندو الأربعة. بالمناسبة، صورتَان منها فقط تُظهر الجريمة. الصورتان الأخريان تظهران شجراً وسماء. هذه الصوَر الأربعة هي الشواهد البصرية الوحيدة على عملية [قتل بواسطة] الغاز بالوقت الحَيّ للعملية.  Georges Didi-Huberman, Écorces, les éditions de minuit (2011), p. 46

Source: jewishvirtuallibrary, 280

لكن اللافت، بين هذه الصوَر الأربعة، أنّ ديدي-هوبرمان يركّز تحديداً على الصورتَين اللتين لا تُظهران جثثاً. لا تظهران «شيئاً» يُذكر، لا تظهران *الجريمة*. يركّز عليهما باعتبارهما صوراً تساعد بشرح الواقع، والسياق، وصعوبة استراق الصورة آنذاك. هذه الصوَر التي «أخطأت هدفها»، تُظهر شيئاً آخر وقد أصبح أساسياً: إنّها تشهد على الخطر نفسه، الخطر الفعلي للنظر إلى ما يحدث في بيركيناو، إنّها تشهد على حالة الطوارئ، وعلى شبه-استحالة أن تشهد على هذه اللحظة بالذات من التاريخ.  Georges Didi-Huberman, Écorces (2011), les éditions de minuit, p. 48

Source: jewishvirtuallibrary, 283

بالمقابل، أفكّر تحديداً بصورة للمصوّر الصحفي الفلسطيني معتزّ عزايزة، أثناء قصف خان يونس، إذ استطاع «ترتيب» صورة تظهر الدخنة البعيدة وكأنّها تخرج من رأس رجلٍ قريبٍ على درّاجته الهوائية.

Source: MotazAzaiza

رغم الفروقات بين الصورتَين، والسياقَين، والزمنَين، يبقى أنّ الفظيع «مشترك». الفظيع كمفهومٍ كوني. له معالمه، وله حدوده. ثم يأتي في كلّ زمنٍ عرص، إنسان في منتهى الإنسانية، ويعمل على فتح هذه الحدود، وعلى تأسيس مرحلة جديدة من العَيش. مرحلة، من أجل تأسيسها، يحاول هذا العرص أن يكتشف «الإنسان»، أن يكتشف كم باستطاعة الإنسان أن يمضي، بالجهتَين: كَم من الشرّ يمكن للإنسان أن يفرض/ كم من الأذى يمكن للإنسان أن يتحمّل.
هذا تحديداً ما يحصل في غزّة.

ويحدث، أحياناً، أن يتكاتف العالم بجانب الضحية، وأن يؤسّس لعالمٍ جديد ما بعد المأساة، تكون الضحية محوره، حيث «لا تُعاد المأساة أبداً»— مثلاً: المحرقة. ويحدث، أحياناً أخرى، أن يتكالب العالم على الضحية، وأن يساند الجلّاد— مثلاً: غزّة. مع أنّي أعتقد أنّ «العالم»، عالمنا، تحرّك نصرةً لغزّة. لكنّ «العالم»، «المؤسّسات»، «العالم الأوّل»، «الحكومات»… معظم هذه الهيئات «الرسمية» تواطأت مع الإبادة، أو أخذت مسافتها فقط بعدما ثقُلَ الدم.

ويحدث، أحياناً، ألّا تقبل الضحيةُ وسمَ «الضحية»، ما دامت تقاوم. وتحاول، قدر الإمكان وبالنيابة عن العالم أجمع، أن تضبط بنفسها حدود الفظيع. أن تصنع عالماً جديداً. ويحدث، أحياناً، أن تُضبَط حدود الفظيع بهيئة مثلّث. ويحدث أن يكون مقلوباً، وأن يكون لونه أحمر.

وواجبنا، إن حدث ذلك، ألّا «ننظر» بكسل، بل أنّ نحدّق. وألّا نحدّق بالجثّة وحسب، بل أن نعيد ترتيب العالم على أساس هذه الجثّة. وأن نجعل هذه المقتلة محور العالم من اليوم فصاعداً. وأن نشارك بعد التحديق، بضبط حدود الفظيع بالفعل. تحديداً: «أن نهدم الصهيونية»، وفق العبارة التي ركّز محمّد الكرد على تعميمها: أن نتخطّى المجاز والأرقام والوقائع. أن نتخطّى القانون الدولي. أن نتخطّى الأمم المتّحدة. أن نتخطّى تسوّل العالم كي يرونا كآدميّين. أن نتخطّى الأكاديميا والمؤسّسات. أن نتخطّى ترجّي العالم الأبيَض كي يشرّع أسيّتنا وغضبنا. ألّا نضع تحرّرنا موضع نقاش. ألّا نضع حقّنا بالمقاومة موضع نقاش. ألّا نخجل بالمقاومة. أن نتخطّى محاولات الإقناع وعروض الباوربوينت. أن نهدم الصهيونية. علينا أن نهدم الصهيونية. من أجل العالم أجمع: علينا أن نهدم الصهيونية [...] الوقت الآن، كي نتنظّم، كي نتحرّر. تخطّينا محاولات الإقناع. تخطّينا الترجّي والمرافعات.

شكراً، وكسم إسرائيل.

 

[انتهى، 10 أيار 2024]

الذاكرة والمخيّلة ولون الدم
ملحوظـــــــــــــــــــــــــــة

بدأت صياغة هذه المادّة في 23 كانون الأول 2023. كانت عبارة عن تعليق سريع على عددٍ من الصور، ومجموعة ملاحظات شخصية دوّنها الكاتب لترتيب ما يراه أو يشعر به، أملاً باستيعاب ما يحصل. انقلب ذلك إلى عملية توثيق شبه يومية، وانتهت الصياغة الأولى في أيار 2024. كل ما تلا هذا التاريخ لم يُضاف إلى هذه المادّة.

اخترنا لك

كأنّ الصورة لا تكفي
ما رأته عيونُهم
نظرة

نظراتٌ إضافيّة على مجزرة جباليا

سمير سكيني
نظرة

عشرُ نظراتٍ على «مجزرة المعمداني»

سمير سكيني
دم
تقلّبات الرواية الإسرائيلية والإعلام حول قصف المستشفى المعمداني 
ربّما كرز، ربّما دَمّ
تحقيق

ربّما كرز، ربّما دَمّ

سمير سكيني

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
القتلى والنازحون في إسرائيل بأرقام «معهد أبحاث الأمن القومي»
حدث اليوم - الاثنين 7 تشرين الأول 2024
زلّتان للخارجيّة الأميركية: نريد احتلال جنوب لبنان والضفّة
10 شهادات طبّية: عن أهوال يوم القيامة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 7/10/2024