لا أكتب عن المجزرة. لا يُكتَب عن المجزرة. لم أحاول حتّى، فالكلامُ سخيف، واللغة أضيَق من المجزرة.
ولا أكتب عنهم، مَن عاشوا المجزرة. ربّما أكتب عنّا، نحن الذين شاهدناها بأعيننا. إنّما الأكيد، أكتب عَن أولئك الذين لمّا رأوا المجزرة أشاحوا بصرهم عنها. كيف أشاحوا بصرهم عنها؟
نظرة أولى
يقصف الاحتلال الإسرائيلي المستشفى المعمداني في غزّة.
انتشرت صورتان أوليان للمجزرة. واحدة للمبنى المُحتَرِق وسيارة الإسعاف، وأخرى لرِواقٍ مُدمّرٍ مُدمّى وفي وسطه جثّة. بلا انتباهٍ أو تفكير، طلبتُ مِن أحدهم تغبيش الجثّة قبل نشر الصورة، ثم مَحوت الرسالةَ فوراً وفكّرت: لِمَ التغبيش؟ ثمّة ما يستحقّ التحديق به في هذه الصورة، هذه الجثّة بالتحديد. حَدِّقوا بالجثّة.
نظرة 2
على «الجزيرة» يسير المراسل وائل الدحدوح بين الجثث. يتبعه المصوّر. حولهم المجزرة. الجَمعُ يردّد عبارتَين: «أطفال أطفال»؛ «صَوّر صَوّر». هؤلاء هُم مَن نَجوا. هم المُنهمِكون بجمع الأشلاء وتخمين أصحابها وتركيب الجثث. هم غير المكترثين بصوت الطائرات في الخلفية. هم اللاحقون. وليس لهم سوى طلبٍ واحد: «صَوّر، صَوّر». يُريدوننا أن نرى. حَدّقوا بالجثّة، يقولون.
نظرة 3
أكرّر مشاهدة المقطع نفسه. مرّة، تلوَ المرّة، تلوَ المرّة. عبارةٌ أخرى تتردّد. هذه يردّدها المراسل نفسه: «عَن بُعد، عن بُعد يا حمدان لو سمحت». بهدوءٍ وصَبر يكرّر الدحدوح هذه الجملة، طالباً من زميله أن يُصوّر عن بُعد. ألّا يُظهر الجثّة. أن يرأف بها، أو بالمُشاهدين. أن يُحافظ على «كرامة الميّت»، ربّما. فكيف تُعرَض أجسادهم دون موافقتهم؟ يُصَوّر حمدان عن بُعد. لكنّ يَداً تجذبه من جديد ويصيح الجَمع: «مشان الله صَوّر!».
في هذا السياق لا تعود العبارة طَلَباً. تُصبح أمراً. لا يريدوننا أن نرى الجثّة فحسب، بل يأمروننا بذلك.
أبحث عن صيغة الأمر من الفعل: «رَ الجثّة»، يقولون. وجمعها: «رَوا الجثّة».
نظرة 4
بعد «الجزيرة» أنتقل إلى الهاتف. تنشر إحدى الصفحات الفيديو الشهير لا سِواه: رجلٌ يحمل كيسَين وهو يركض أمام المستشفى. لا أفهم. أشاهد الفيديو مرّة أخرى. أنتبه أنّ الرجل يرفع الأكياس ويهزّها. إذاً أُركّز وأُعيد المشهد. يريدنا أن نرى شيئاً. لو لم يكن، لحمل الكيسَين بشكلٍ عادي كما نحمل أكياس الخضار واللحمة. لكنّه يرفع الكيسَين أمام الكاميرا، بل يصرخ وهو يرفعهما، بل ينفضهما وهو يصرخ. يريدنا أن نرى: داخل الكيس أشلاء ابنته. وربّما ابنه. والله أعلم. حدّقوا بالكيس كي تعلموا.
نظرة 5
عند هذا الحدّ تفهم خوارزميات «إنستاغرام» فحوى المَشاهد. تلقائياً تُحجَب الصوَر بتحذيرٍ مفاده أنّ «المشهد حسّاس». المشهد حسّاس، اضغَط كي ترى. أفكّر في سخافة التحذير— أعلَم، الدروس الإعلامية/النفسانية حول أهمية هذا التحذير للمُشاهد، كل هذا الكلام عن «الصدمة»— وأفكّر في سخافة التحذير. أضغَط كي أرى. وأفكّر في سخافة التحذير. ليس المشهد هو الحسّاس. بل الواقع. المشهد لا يَصدمُ يوماً أكثر من الواقع؛ صورة الجثّة لا تصدم أكثر من الجثّة.
إذاً، اضغَط كي ترى.
نظرة 6
هذه التحذيرات الحمقاء. «الجزيرة» مجدّداً: الأطبّاء قرّروا عقد مؤتمرٍ صحفي من المستشفى المُستهدَف نفسه. بين الجثث. حقّاً، هذه التحذيرات الحمقاء. ثمّة هدف وحيد لهذا المؤتمر، أن نرى الجثث. أن نرى المجزرة. الأطبّاء يريدوننا أن نرى الجثث. هم رأوها. بل رأوا كيف كانت تتحرّك قبل بضع دقائق. فلمَ لا تحدّق بها أنت؟
نظرة 7
الآن أحدّق بالأطبّاء أنفسهم. تحديداً غسّان أبو ستّة وهو يتلو شهادته. به شيءٌ غريب. العيون. تحديداً العيون. مُقلَة عينه واسعة. البياض يلتفّ حول البؤبؤ. بالعادة سواد البؤبؤ يفصل بياض المُقلة. أفكّر ماذا رأت هذه العين في الأسبوعَين الأخيرَين. أُعيد الفيديو: الرجل لا يرمش. كأنّه إيليا سليمان في فيلمٍ لإيليا سليمان، لا يرمش. تكلّم 17 ثانية من دون رمشة. ثم يرمش، ثم لا يرمش. «غوغل» يقول أنّنا نرمش مرّة كل 4-6 ثوانٍ. أُشاهد غسّان وأحسب الوقت الدقيق بين رمشةٍ وأخرى: 17 - 4 - 9 - 11 - 9 - 5 - 15 - 7 - 15 - 20. أحسب المعدّل: الرجل يرمش مرّة كل 11 ثانية. لا يمكنه أن يكفّ عن التحديق بالجثث.
نظرة 8
يكمل الأطبّاء تلاوة شَهاداتهم. على الشريط الأحمر الغليظ في أسفل الشاشة: «500 شهيد في مجزرة…». الجثّة جثّة شهيد. ولا عجب أنّ جذر الكلمتَين مشترك: الشهيدُ يَشهَد. أي أنّه بدوره شاهد على المجزرة. «قف شامخاً»، تقول القصيدة، «نحن الشهادةُ والشهيدُ وشاهدٌ». أن نقولَ شهيداً يعني أن نقول ثمّة قاتل. الشهيد يدلّل، إذاً، على المُرتَكب. يفضح. ويُريدنا أن نرى المفضوح: أن نحدّق بالجثّة يعني أيضاً أن نحدّق بالقاتل.
نظرة 9
بعد حين ينتهي المؤتمر، وينتهي تعريب الأشلاء، وينتهي توضيب الجثث، دون أن ينتهي التعرّف على الشهداء. العدسة تنتقل إلى المُصابين. ويبدو أنّ إصابات الأطفال أو جثثهم هي أكثر ما يجذب في عالم الإعلام. وفيما تصالحتُ، عند هذا الحدّ، مع مشاهدة الجثث، بقيتُ عاجزاً عن مشاهدة هذه الفيديوهات. تحديداً، ذاك الفيديو: طفلٌ ناجٍ لا يزال في حالة الصدمة، والكاميرا تقترب منه، وأنا ما إن أرى عينَيه حتّى أُقفل الفيديو على الفور — لا أفهم كيف اتّسع بؤبؤ عينه إلى هذا الحدّ — وأنتقل إلى فيديو آخر كي أحدّق بالجثث. ذلك أنّه هو، الطفل، قد حدَّق بها أيضاً.
نظرة أخيرة
يحدث أحياناً أن يكون التحديق بالجثّة أهوَن من التحديق بمَن بقيَ قَيد الحياة.