أخبرتنا السمكة عن الـ2023 قبل أوانه، بعدما قذفها البحر إلى الساحل. تمكّنت السمكة من رواية ثلاث قصص، بشّر بها المستمعون وهم يقسمون أنّها واقعية. ربّما تمكّنت منهم لعنة الملح الأسود.
القصّة الأولى: بلاد الملح الأسوَد
رسوم: جمال صالح (2022)
بعد أيّامٍ ندخل الـ2024.
شعرنا أنّ الوقت قد توقّف، ومع ذلك، مرّ بسرعةٍ رهيبة.
لم يُدرك أهالي المدينة الجريمة التي ارتُكبت بحقّهم إلّا عند العاصفة الأولى. تطايرت ألواح الطاقة الشمسية، وقطعت أعناق العابرين بِلا تمييز. في القرى، كان الوضع أهوَن بقليل؛ اقتصرت الأضرار على الشجر، والسناجب.
في هذا العام أيضاً، أعلن «جنود الرب» الأمن الذاتي، واستحدث الأمن الداخلي قسماً جديداً في أقبية جسر العدلية، سُمّيَ «حظيرة اللواط والشذوذ والأستغفر الله ربّي وأتوب إليك».
أُطفِئَت طلعة المصيلح لأوّل مرّة. قالوا إنَّ دولة الرئيس…أُطفِئَت طلعة المصيلح لأوّل مرّة. قالوا إنَّ دولة الرئيس… ثم ظهرت خلافاتٌ تنظيمية جعلت حركةَ أمل حركات.
وحدها الشياح كانت عصيّة على السيطرة. تمرّد حَركيّوها على القيادات الجديدة، وأسّسوا «جمهورية الشياح الشعبية».
الاسم مستوحى من كتيّباتٍ وجدوها لمّا طَهَّروا الحَي من يساريّيه، كذبيحةٍ على نيّة النبيـــ…
ثم قرّرت إدارة الـmtv منح مارسيل غانم وقتاً إضافياً بعد. «صار الوقت»، وظلّ يصيرُ الوقت ويصيرُ الوقت حتّى حظيَ ملك المطبّلين بربع نهارٍ على الهواء سحبةً واحدة– مرّتَين بالأسبوع.
بالمقابل، كشفوا عن مشغّل «ثورة مابس» وأحالوه إلى محكمة المطبوعات، حيث طبعوا صورةَ مشنقةٍ وعلّقوه عليها.
في صيف هذا العام، استسلمت وزارة السياحة للواقع ولم تنظّم حملة التلكيح السنوية: «أهلاً بالمغترب اللبناني داعم الاقتصاد الوطني». ذلك أنّ جميع خطوط الطيران علّقت رحلاتها إلى لبنان، بعد رسو طائرةٍ في طريق المطار، لا في المطار، نتيجة انقطاع الكهرباء والعتمة.
نجا جميع ركّاب الطائرة، الحمدلله، سيطر الكابتن على الوضع.
لكن توفّيَ 70 آخرون كانوا في سيّاراتهم التي معستها الطائرة.
كان الموج عالياً (فالتغيّر المناخي حقيقي)، كسح المطار والطريق المحاذية له وغسل دماء الموتى.
قصدتُ المكان بعد انحسار الماء، ووجدتُ سمكةً تُفرفر وحيدةً.
اقتربتُ منها على مهل…
عند هذا الحد، كان نفس السمكة يتقطّع. رأيتُها تبصق ملحاً أسود من خياشيمها.
ابتعدتُ عنها سريعاً لكنها نادَتني: انتظر، ما زال عندي قصّتَان أرويهما لك.
[نهاية القصّة الأولى]
القصّة الثانية: تمارين في بلاد الملح الأسود
رسوم: غابرييلا لطيف (2022)
بعد أيّامٍ ندخل الـ2024.
شعرنا أنّ الوقت قد توقّف، ومع ذلك، مرّ بسرعةٍ رهيبة.
استيقظت المدينة، قصقص تحديداً، على رائحةٍ نتنة:
نفقت الأحصنة جميعها. الذباب يملأ ميدان سبق الخيل.
«دلع»، «الهيبة»، «فرعون»، «فريج»، «فحل»، «يارا»، «بحر»… جيفةٌ فوق جيفة فوق جيفة فوق جيفة فوق جيفة فوق جيفة فوق جيفة فوق جيفة فوق جيفة فوق جيفة فوق جيفة فوق جيفة
(بعد أشهر، كشفت التحقيقات أنّ جيَف الأحصنة بيعت لأحد أشهر المطاعم في مونو)
لم يعلم أحد إن كان الحادث مدبّراً أم قضاءً وقدراً. بعضهم ردّ السبب للغبار المتناثر جرّاء انهيار الجزء الجنوبي من أهراءات مرفأ بيروت. فمنذ ذلك اليوم، تضاعفت الوفيات في صفوف الحيوانات.
(والبشر، في نهاية المطاف (وبدايته)، حيوانات)
في ما خصّ البشر، قرّرت وزارة الصحّة تسهيل الموضوع: شرّعت الإجهاض– بل جعلته إلزاميّاً بالتوازي مع قرارها تجريم الإنجاب. خلص. سكّرنا. لا مزيد من السكّان هنا. لا نعرف ماذا نفعل بالموجودين أصلاً.
انتهت خطّة الأمن العام بنجاح، وعاد السوريون إلى بلادهم الآمنة. كانوا سعداء وهادئين لدرجة أنّنا لم نسمع عنهم ولا منهم بعد تاريخ العودة.
رحل البنغلادشيون أيضاً، ورحل الأثيوبيون... رحل الأجانب، بعدما رحل المُقيمون، إلى أن رحل الله شخصياً لانزعاجه من رائحة الجيَف والعَفَن.
رحل الأجانب، بعدما رحل المُقيمون، إلى أن رحل الله شخصياً لانزعاجه من رائحة الجيَف والعَفَن.الرحيلُ إذاً.
قالت لي سمكتي إنّها رأت الإنسان الأخير. وحيداً كان، يُحاول تشريح جسده بيدَيه، من دون بنج.
شقّ صدره بتأنٍّ، رفع قلبه وعلّقه في الهواء: أراد تجريب شعور أن يكونَ القلبُ معلّقاً في الهواء.
من رقبته، تدلّت يافطةٌ كَتبَ عليها وصيّته الأخيرة:
إنّ المحبّةَ تمرينٌ، كما الرياضة.
درّب نفسكَ أن تُحب.
بعد أيّام، ظهرت العبارة ذاتها على جدران المدينة، موقّعةً بإشارة «*». ظهرت عبارات أخرى تحمل نفس التوقيع:
عم تقدروا تناموا بالليل؟*
ذاكرين آخر مرّة ضحكنا؟*
عند هذا الحد، كان حلق السمكة قد جفّ. غصّت عيونها لشدّة العطش. سالت دمعةٌ على خدّها فبلغت فمها اليابس.
حمَدَتْ ربَّ البحار: قطرةٌ واحدة تكفي لرواية قصّة واحدة بعد، فقط.
[نهاية القصّة الثانية]
القصّة الثالثة: لا تنفع التمارين في بلاد الملح الأسود
رسوم: مايا شمس (2022)
بعد أيّامٍ ندخل الـ2024.
شعرنا أنّ الوقت قد توقّف، ومع ذلك، مرّ بسرعةٍ رهيبة.
أصدرت وزارة السعادة قراراً منعت فيه عقد علاقاتٍ عاطفية جديدة، وما زالت تلك القديمة موضع نقاش. بعد الخربطات الأخيرة، نشرت الوزارة دراسةً تؤكّد أنّ المطلوب تأجيل كل العلاقات لِما بعد الانهيار.
صار التعبير صعباً، ولم ننتبه لذلك. أعرفُ شخصاً اضطرّ إلى اختراع ثلاث قصصٍ قصيرة من خياله، ثم أقسَم أنّها حقيقية، فقط للتعبير عن مشاعرَ لم يتسنَّ له التعبير عنها في سياقٍ آخر.
أبعد من لعبة الكلمات، نأينا بأنفسنا عن الحزن العميق، بعدما خَيّم الحزن العقيم: ذلك الحزن غير القادر على الإتيان بأي جديد.
لا جديد في العام 2023. أضعناه بالكامل في البحث عمّا أضعناه بالكامل في العام 2022:
خاتَمٌ بلون الفيروز،
حلقٌ بشكل اللولو،
كتابٌ عن الأحلام، ربّما،
ابتسامة،
لمسة يد،
أو مجرّد طيفٍ لطيف.
لا جديد في العام 2023. أضعناه بالكامل في البحث عمّا أضعناه بالكامل في العام 2022في هذا العام اختنقنا جميعاً. كأنّ شبحاً أمسك الشعور بيدَيه وأقحمه تحت البحر مدّةً طويلة، مدّةً طويلة جداً .
حاول الشعور أن ينتفض، أن يتنفّس. لم يستطع. كان البحر يُطبق على نفْسه ويضيق.
في هذا العام اختنقنا جميعاً. كأن شعورَنا سمكةٌ سحبها شبحٌ من تحت الماء، من ذيلها، ثم تعمّد تقريبها قدر الإمكان من سطح البحر، دون مُلامسته. رأت السمكةُ ماءً بعينها، لكنها تنفّست الهواء القاحِط.
نفَسٌ عميق، يا صديقتي: لستِ وحدك، صدّقيني. أنا أيضاً فكّرتُ كثيراً في قتل من أُحبّ.
العلّة أنّي لم أجد أحداً لأقتله.
حدث أمرٌ غريبٌ في هذا العام: استبدلنا المسافةَ بالوقت. جلسنا ذات مرّة قبالة بعضنا، ومع ذلك شعرنا أنّ زمناً رهيباً يفصل بيننا.
عند هذا الزمن ابيَضَّت عيون سمكتي. هرعتُ أبحث عن مساعدة
[لهاث]
حقّاً بحثت، لكنّي لم أجد أحداً، ولا وجدتها حينما عدت. ما كانت السمكة هنا، ولا كان الراوي، ولا كان المستمع.
كان فقط ملحٌ أسود.
ملحٌ أسودٌ فقط.
[نهاية القصّة الثالثة]
اخترنا لك
آخر الأخبار
مواد إضافيّةسلسلة جديدة من الغارات تستهدف الضاحية ومبنىً ملاصقاً لمطار بيروت
يشنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي سلسلة غارات جديدة تستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت، وذلك بعد التهديد الذي أطلقه المتحدث باسم جيش الاحتلال في وقت سابق من مساء اليوم. وهدّد أفيخاي أدرعي مبانٍ سكنية في أحياء حارة حريك والحدث وتحويطة الغدير، إضافةً لمبنىً في منطقة الأوزاعي ملاصقاً لمطار بيروت الدولي.