ربّما كان هذا الرجل من نسج خيال الكاتب. وربّما كانت الأحداث التي عصفت بتلك المدينة من نسج خيال الكاتب أيضًا. ربّما، في ظروف أخرى، قد تكون تلك الأسئلة مهمّة. لكن لمن عايش السنوات الأخيرة هنا، الخيال والواقع باتا يتداخلان، غالبًا مع أثر كارثيّ. في هذا النص، يسرد طارق أبي سمرا أحد تواريخ هذه المدينة، تاريخ بشارة وكلبه «هابي».
جالسٌ على المقعد يُحدِّق في الفراغ
رأيتُه جالسًا على مقعدٍ عمومي في شارع مار إلياس. التقتْ أبصارنا للحظة أشاح بعدها كلٌّ منّا وجهه عن الآخر. فتابعتُ سيري وظلّ هو جالسًا يُحدِّق في الفراغ أمامه.
لم أكن متأكِّداً من أنّ أبصارنا التقت فعلًا، ولا من أنّه أشاح وجهه عنّي. فحالما لمحته مِن بُعدٍ جالسًا على المقعد يُحدِّق في الفراغ، أحسست بارتباكٍ تفاقم في كلّ خطوة قلّصت المسافة بيننا؛
لم أكن متأكِّداً من أنّ أبصارنا التقت فعلًا، ولا من أنّه أشاح وجهه عنّي. فحالما لمحته مِن بُعدٍ جالسًا على المقعد يُحدِّق في الفراغ، أحسست بارتباكٍ تفاقم في كلّ خطوة قلّصت المسافة بيننا؛ولمّا لم تعد تفصلني عنه سوى أمتار ثلاثة أو أقلّ، تحرَّك رأسُه وتهيَّأ لي أنّه التفتَ نحوي ورآني، فأدرت وجهي عنه وظننت أنّه فعل الشيء نفسه.
ما أربكني عندما لمحته مِن بُعدٍ هو هُزاله المَرَضيّ ولحيته الطويلة، البيضاء المشعثة. كنتُ صادفته في شارع مار إلياس قبل سنة ونصف السنة تقريبًا، أي في خريف 2020 على ما أظّن: الحماسة التي دبَّت في جسده الخمسينيّ الممشوق أيّام انتفاضة 17 تشرين 2019، لم تكن قد خمدت بعدُ. ففي ذلك النهار الخريفي مِن عام 2020، كان لا يزال يمشي بثباتٍ وثقة، كأنّه محوطٌ بجموعٍ تزحفُ منتشيةً على عدوٍّ لقتله، أكان العدوّ يُدعى جبران باسيل أو رياض سلامة أو حسن نصر الله. كان بشارة (وهذا ليس اسمه الحقيقيّ) يمشي بزَهْوٍ وعنفوان، كأنّه لا يُقهر. فالحشود كانت لا تزال تُحيط به كدرعٍ بشري، لكنها باتت غير مرئيّة، فيما شارع مار إلياس شبه مقفر نتيجةَ الإقفال العامّ والحجر المنزلي.
التقت أعيُنُنا في ذلك النهار الخريفي، ولم يُشحْ أيٌّ منّا وجهه عن الآخر. ابتسم لي فنزعْتُ كمّامتي وصافحته، فأدركت لحظة تلامست يدانا أنّني لم أصافح أحدًا طوال أشهر، أي منذ بدأْتُ ألتزم التدابير الوقائيّة لحماية نفسي من العدوى. لست أدري مَن منّا بادر إلى مصافحة الآخر. لكنّني أذكر أنّ ابتسامته أنْستني لثوانٍ قليلةٍ أنّ الهواءَ موبوءٌ، وأنّ الجسدَ البشري ليس سوى وعاءٍ للفيروسات. فاجأتني ابتسامتُه وأنستني ذلك كلّه، فعاودتني تلك الحركةُ اللاإرادية التي كانت تبادر إليها يدي قبل بضعة أشهر كلّما التقَيْتُ شخصًا أعرفه.
أعتقد أنّ يدي تحرّكت مِن تلقائها استجابةً لابتسامته الآتية مِن الماضي. وَيْنَكْ مِشْ عَمْ شوفَكْ؟، سألني وهو يُصافحني، فلم أفهم في البداية ماذا يقصد. أين يُفتَرَض بي أنْ أراه؟ ثمّ تذكَّرْت: التظاهرات... إنّها الابتسامة عينها التي كانت ترتسم على وجهه في المسيرات والاحتجاجات؛ فأدركْتُ أنّه لا يزال يعيش في ذلك الزمن، زمن الانتفاضة الذي ولّى منذ أشهر. لعلّه إذًا يواظب على المشاركة في التحركات الاحتجاجيّة المُتفرِّقة التي تَستمِرُّ في تنظيمها بعضٌ من مجموعات الناشطين السياسيين، بالرغم من أفولِ الانتفاضة وانتشارِ الوباء. هذا ما فكَّرت فيه وأنا أنظر إليه يبتعد، ولم أُجِبْ على سؤاله.
كأنّما دويّ انفجار المرفأ لم يخضخض بدنَه. كأنّه لا يسمع صمت الشوارع.
لست أدري كم طال انعتاق بشارة من الزمن، وإلى متى ظلّ يسير مُحاطًا بحشود لامرئيّة. لكنْ في ربيع 2022، كان الزمن قد قبض عليه واعتصر جسده، فرماه هزيلًا على ذاك المقعد حيث راحت تتكرّر رؤيتي إياه جالسًا يُدخِّن ويُحدِّق في الفراغ، فصرت أعبر الشارع إلى الرصيف المُقابل لأتحاشاه.
كلبٌ اسمه «هابي»
قبل سنواتٍ ثمانٍ كان بشارة يعمل ليل نهار حارس موقف سيارات خلف حديقة الصنائع. وكان يملك كلبًا صغيرَ الحجم من نوع «بودل» أو «كانيش»، وبرُه أبيض كثيفٌ ومُجعَّدٌ، اسمه «هابّي». أي «سعيد» بالإنجليزية. وكان «هابّي» كلبًا يتخيَّله المرءُ يمضي معظم نهاراته مُستلقيًا بكسلٍ على أريكةٍ طريّةٍ في صالونِ عائلةٍ ميسورةٍ، وليس مربوطًا بحبلٍ في موقف سيارات، وينبح بعصبيّةٍ طوال النهار، فلا يكفّ عن النباح إلا ليلًا لينام في الكوخ المعدني الصغير في إحدى زوايا الموقف، والذي يبيت فيه بشارة.
وكان بشارة يُنزِّه «هابّي» مرَّتين أو ثلاثًا يوميًّا. طبعًا ليس في حديقة الصنائع، فداخل أسوارها لائحةُ محظوراتٍ طويلة تطالعك على لوحة ضخمةٍ مهيبةٍ ما أن تَعبر بوابتها الحديد: الجلوس على العشب ممنوعٌ. تناول السندويشات والمكسّرات ممنوعٌ. اللعب بالطابة ممنوعٌ... إلخ، فما بالك بإدخال الكلاب؟ كان إذًا يُنزِّه كلبه حول الحديقة، على الرصيف الذي يحوطها، حيث لا مناص من المشي بحذرٍ لئلا تدوس أقدامُ العابرين كومةً من أكوام البراز المنتشرة بكثرة. فكلاب منطقةِ الصنائع ومحيطِها لا تتغوَّط إلّا على ذاك الرصيف، كأنّما انتقامًا مِن الحديقة المُحرَّمة عليها.
من أماكن سكنهم البعيدة نسبيًّا، كان أهل الطبقات الشعبيّة يتقاطرون كثيفًا إلى الحديقة، وخصوصًا أيّام العطل والآحاد. فالحدائق العامّة نادرة في بيروت ندرة المباني في الأدغال. وكان زحام الآحاد والعطل غالبًا ما يثير تأفُّفَ بعض أهلِ المنطقة من الطبقتَيْن المتوسطة والبورجوازيّة وتبرّمَهم. أما بشارة فكان يبدو ناتئًا وفريدًا بين المحوِّمين حول الحديقة: غريب عن أفراد الفئات الشعبيّة لأنّه يُنزّه كلبًا. وغريب عن مُنزِّهي الكلاب لأنّه ينتمي إلى الفئات الشعبيّة. فمن يقودون كلابهم إلى محيط الحديقة هم في الأغلب نوعان من الناس: شبّان وشابات تتراوح أعمارهم بين منتصف العشرين ومنتصف الثلاثين. يرتدون ملابسَ عصرية ويتكلمون بعربيّة مُطعَّمةٍ بالإنجليزيّة، ويمكِن مُصادفتهم أو مصادفة أشباههم في حانات شارع الحمراء. وعاملات منازلٍ أجنبيات يَنُبْنَ عن أرباب عملهنّ في تنزيه الكلاب، مثلما يَنُبنَ عنهم في مسح مؤخرات الرُّضَّع. ولعلّها ليست في غير محلِّها الإشارةُ هنا إلى أنّ كثرةً من أولئك العاملات سيرُمَين في الشوارع بعد سنوات سبعٍ أو ثمانٍ، ككثرةٍ من تلك الكلاب.
كنتُ آنذاك أسكنُ على مقربة من الحديقة وأنزِّه كلبتي حولها، فألتقي بشارة وكلبه على الرصيف يوميًّا تقريبًا، وأحيانًا أكثر مِن مرّة في اليوم. وحين كنتُ أُبصِرهما من بُعد يسيران نحوي، كانا يبدوان لي أقرب إلى رفيقَين منهما إلى كلبٍ وصاحبه. رفيقان تنطوي رفقتُهما على مناكفاتٍ متواصلةٍ تَستبطِن الكثير من الودّ.
كان يندر أن يمشيا بوتيرة واحدة. غالبًا ما كان «هابّي» يتخلّف عن بشارة، مفتونًا بروائح يسارع إلى تقريب أنفه من مصدرها ممعنًا في تنشّقها، وغارزاً مخالبه كالمسامير في الرصيف. أو أنه كان يتقدم بشارة، جاذبًا الحبل حتّى يكاد يقطعه، مُتوهِّمًا أنه يملك من البأس والقوّة، ما يتجاوز وزنه الذي لا يتعدى كيلوغرامات ستّة. وكان بشارة يُرْغَم أحياناً على مجاراته راكضًا.
وكنتُ إذ أرى «هابّي» هائجاً هكذا، يدور كزوبعةٍ حول بشارة، يُخيَّل إليّ أنّ استماتتَه في اغتنام كلّ دقيقةِ حريّةٍ من الدقائق الخمس عشرة التي تستغرقها نزهتُهوكنتُ إذ أرى «هابّي» هائجاً هكذا، يدور كزوبعةٍ حول بشارة، يُخيَّل إليّ أنّ استماتتَه في اغتنام كلّ دقيقةِ حريّةٍ من الدقائق الخمس عشرة التي تستغرقها نزهتُه- تلك النّزهة التي تلي ساعاتٍ طوالاً من القنوطِ وسأمِ الانتظارِ في موقف السيارات، فتباغت «هابّي» كمعجزةٍ مع أنهّا تتكرَّر مرَّتَين أو ثلاثاً في اليوم - كنتُ إذ أراه هكذا، يُخيَّل إليّ أنّ استماتته في اعتصار كلّ دقيقةٍ قد أفقدته عقلَه، فأتذكَّرُ نفسي وأترابي أيّام المدرسة الابتدائيّة لمّا كنّا نصاب بجنونٍ جماعيّ حادٍّ، لكن مؤقَّت ووجيز، كلّما قُرِع جرسُ الفرصة مُعلناً استراحةً مدّتها خمس عشرة دقيقة نمضي كلَّ دقيقةٍ منها في الركض والصراخ كبهائم هائجة.
ورغم أنّ بشارة كان قليل الصبر سريع الانفعال حيال «هابّي» ومُشاغباته - فهو لم يكن يكفّ عن الصراخ به غاضبًا طوال النزهات: خَلَص يا هابّي!، تعا يا هابّي!، روق يا هابّي!- فإنّه كان شديد التسامح معه في الآن عينه. وغالبًا ما كان يقول لي عندما أصادفه حول الحديقة: هيدا أزعر كبير، مُشيرًا بطرف عينه إلى كلبه، فيما ابتسامةُ زهوٍ ماكرة تُنير وجهَه فتمحو عنه كلَّ أثرٍ للغضب والانفعال، وتذيب مؤقَّتًا قساوة ملامحه.
رَجلٌ من غيوم
لطالما تخيَّلتُ أنّ بشارة كان ميليشيَويًّا في شبابه، مع أنّني لم أكن أعرف شيئًا عن ماضيه. فرغم أنّني كنتُ لسنواتٍ ألتقي به يوميًّا تقريبًا، كانت أحاديثنا سريعةً وعابرةً، تدور في الأغلب حول كلبتي وكلبه. لكنْ كمثل مَن يُبصِر بشرًا وحيواناتٍ في أشكالٍ عشوائيّة ترسمها الغيومُ في السماء، أو كمثل مَن يقرأ في الفنجان فيرى في آثار القهوة رموزًا تكتنز معاني قد لا يتّسع لها مجلّدٌ من ألف صفحة، كنتُ التقِطُ تلقائيًّا، وبلا أيّ جهدٍ واعٍ، ما يصدر عن بشارة مِن نظراتٍ وإيماءاتٍ وتعابير وجهٍ وحركات جسمٍ، فأجبلها بهيأته وملامحه وأُؤَوِّلها تأويلًا لا يخلو مِن بعض الهذيان، خالقًا منها حيوات ماضية، كثيرة ومُتخيَّلة، أنسبها تباعًا إلى هذا الرجل الذي كنتُ أجهل عنه كلَّ شيء، ما عدا أنّه حارسُ موقفٍ يملك كلبًا ويشرب في بعض المساءات عبوَتَين أو ثلاثًا مِن بيرة «إيفيس» التركيّة.
لعلّي لم أسأله يومًا عن ماضيه لأنّني، بكلّ بساطةٍ، لم أكترث لذلك. أو لعلّ السبب هو أنّني أحببتُ الفراغَ الأبيض الذي يحوط ببشارة، فأردتُ ألّا يُكتَب عليه شيءٌ لا يمكن محْوه.لعلّي لم أسأله يومًا عن ماضيه لأنّني، بكلّ بساطةٍ، لم أكترث لذلك. أو لعلّ السبب هو أنّني أحببتُ الفراغَ الأبيض الذي يحوط ببشارة، فأردتُ ألّا يُكتَب عليه شيءٌ لا يمكن محْوه. فلو عَلمتُ مِن فَمِه أنّه كان سابقًا سائقَ سيّارةِ أجرةٍ مثلًا، أو أنّه كان متزوِّجًا وأنجب أولادًا، وأنّ الزوجة والأولاد قُتِلوا جميعهم في حادث سير، أو أنّه، على العكس من ذلك، لم يتزوّج قطّ، لكانت أقواله هذه قد خُطَّت على تلك الصفحة البيضاء بحبرٍ تستحيل إزالته. ولكان بشارة قد تحوَّل، شيئًا فشيئًا وكلمةً بعد كلمةٍ، شخصًا مُحدَّدًا، صفاتُه ثابتة لا تتبدّل، بينما يبدو أنّني أردته أن يبقى سطحًا لا عمق له، كائنًا ضبابيًّا مُتخفِّفًا مِن النعوت، مثل شخصيّةٍ روائيّةٍ لا تزال في أطوار تشكُّلها الأولى، فلم تُعَيَّن سماتُها بعدُ إلّا على عجلٍ وبصورةٍ جدّ تقريبيّة.
مدينةٌ حبلى بالبنايات
لكنّني أميل إلى فرضيّةِ أنّني لم أكن أكترث كثيرًا ببشارة وبماضيه. فحتّى عندما أخبرتني زوجتي أنّه تعرّض لإصابة بالغة أُدخِل على إثرها المستشفى، استمعتُ إلى كلامها شاردَ الذّهن كعادتي، فلم أفهم تمامًا ماذا تقول أو عمَّن تتكلَّمُ، ما اضطرّها إلى تكرار جملتها مرّتَيْن أو ثلاثًا.
كان ذلك بعدَ تحَوُّل موقفِ السيارات إلى ورشة بناء. وهذا ما كان بشارة يجزم أنّه لن يحدثَ إطلاقًا.
كان ثمّة خبرٌ مجهولُ المصدر يقضّ مضاجعَ أهلِ الحيّ، تناقلته ألسنتُهم بخشيةٍ على مدار أكثر من سنة: بناية ضخمة سوف تنبجس من الموقف لتعلو شاهقةً نحو السموات.قبل ذلك، كان ثمّة خبرٌ مجهولُ المصدر يقضّ مضاجعَ أهلِ الحيّ، تناقلته ألسنتُهم بخشيةٍ على مدار أكثر من سنة: بناية ضخمة سوف تنبجس من الموقف لتعلو شاهقةً نحو السموات. لكنّ أحدًا لم يكن يعلم متى تبدأ الورشةُ، ولا ما إذا كان الخبر صحيحًا أم أنّه مجرّد كلامٍ لا ينبغي التعويل عليه كثيرًا. والحقّ أنّ تفشّي مثل هذا الخبر في أيّ حيٍّ مِن أحياء بيروت، لم يكن يحتاج آنذاك (في تلك الحقبة التي تبدو الآن بعيدةً جدًّا رغم مرور أقلّ من أربع سنوات على نهايتها) لا إلى مصدرٍ مُطَّلِع أو مَوثوق، ولا حتّى إلى أيّ ركيزةٍ في عالم الواقع، باستثناء وجود قطعة أرضٍ فارغةٍ (موقف سيارات مثلًا) أو منزلٍ تراثيٍّ قديم. فانبثاق المباني مِن تربة هذه المدينة كان أقرب إلى ظاهرة طبيعيّة عمياء منه إلى النشاط البشريّ الهادف والمخطَّط له. كأنّما بيروت حبلى بألوف البنايات المُكتمِلة التكَوُّن، فتتمخَّضُ فجأة في جوفها محاولةً الخروج من أيّ منفذٍ وكيفما اتّفق.
الجاهلُ مثلي بكيفيّة عمل الأسواق العقاريّة، كان ينظر أحيانًا إلى المباني الفخمة، العملاقة وحديثة التشييد (والتي تنمّ في معظمها عن رداءة في الذوق)، بانبهارٍ لا بل بشيء من الإجلال. فأنا كنت أعجز عن التوفيق بين أمرَين: ملاحظتي المُتكرِّرة أنّ كثرةً من هذه المباني تظلّ معظم شققها شاغرةً على الدوام، ويقيني مِن أنّ تناسُلها مِن العدم بلا انقطاعٍ دليلٌ حاسمٌ على أنّها تدرّ أرباحًا كبيرة. لذلك كنت أتطلّع إليها بتعجِّبٍ مُتسائلًا مِن أين تأتي هذه الأرباحُ، لكنّني سرعان ما كنت أضجر مِن التفكير في هذا اللغز المحَيِّر، لتحملني بلادةُ ذهني على تخيُّلِ قُوَّةٍ سحريّة غامضة تكمن في تلك البنايات، لا بل هي جوهرها الخفيّ، وتجعلها تدرّ مالًا كالأشجار التي تثمر فاكهةً. وفي تخيلاتي تلك كنتُ كمن يرى في وديعته المصرفيّة دجاجةً تضع مِن تلقائها بيضًا ذهبيًّا يُسمّى فوائد.
صُراخُ الحجرِ وعويلُ الفولاذ
على مدار أكثر مِن سنة، استمرّ بشارة يُهدِّئ مِن روع سكّان الحيّ، مُطَمْئنًا إياهم إلى أنّ الورشة لن تبصر النور، مؤكِّدًا أنّ مَن اشتروا العقار مؤخَّرًا باتوا الآن يفتقرون إلى المال، مُضيفًا أنّ خلافات كثيرة نشبت بينهم. وكان يجزم أنّ المشروع برمّته لم يكن يومًا جديًّا. لكنْ يبدو أنّ بشارة كان يكذب على نفسه، أو لربّما سقطت الأموالُ من السماء على رؤوس أصحاب العقار. ذاك أنّني استيقظت في صباحٍ باكرٍ على صوتٍ يخترق الجمجمةَ، فيما كانت غرفة نومي تهتزّ كأنّما يد عملاقٍ تُخضخضها: لقد بدأت أعمال الحفر.
إذا كنتَ لا تغادر شقّتَك كلّ صباحٍ، فإنّ السكن قرب ورشة بناء هو عيشٌ في عالمٍ صوتيٍّ محضٍ طوال ساعاتٍ تسع أو عشرٍ يوميًّا، من السابعة صباحًا حتّى الرابعة أو الخامسة بعد الظهر، وأحيانًا حتّى السادسة مساءً. عالمٌ صوتيٌّ هو نقيض تامّ للموسيقى، ويشترط نفيها نفيًا مُطلَقًا. فالموسيقى، رغم وصولها مِن الخارج، ودخولها من الأذنَيْن، هي مثل جدولٍ ناعسٍ أو نهرٍ هادرٍ ينبع مِن جوف المُستمِع، فيسري في جسمه ويحيله تموّجاتٍ تطفو إلى الخارج وتنتشر في الفضاء. الموسيقى تُحرِّر الجسدَ مِن صلابةِ المادّةِ، جمودِها وانغلاقِها على ذاتها، فتجعل منه روحًا تتحرَّك وترقص، روحًا تذوب- أحيانًا- في العالم الخارجي. أمّا ضجيج ورشة البناء، فهو قِشرةٌ صوتيّة سميكة تتصلّب كالدرع الحديد حول جسمك، تُغلِّفه كاملًا، تعتصره وتسجنه، وتمنع عنه أيّ تفاعل مع الخارج.
صراخُ الحجرِ وعويلُ الفولاذ: هوذا العالم الذي تحيا فيه حينئذٍ. تَسمَعهما في صدغَيْك. تَسمَعهما في رأسك، في ذبذبات جسمك كلّه. ينتفي أيُّ فارقٍ بينك وبينهما. أنت الصراخُ والعويلُ، وأنت الفولاذُ والحجر.صراخُ الحجرِ وعويلُ الفولاذ: هوذا العالم الذي تحيا فيه حينئذٍ. تَسمَعهما في صدغَيْك. تَسمَعهما في رأسك، في ذبذبات جسمك كلّه. ينتفي أيُّ فارقٍ بينك وبينهما. أنت الصراخُ والعويلُ، وأنت الفولاذُ والحجر. أنت مادّةٌ عمياء تكابد وتحاول الهروب من نفسِها، فلا تعثر على شيء غير نفسها. إذا كانت النشوةُ خروجًا من الذات، وإذا كانت الموسيقى وعدًا بالنشوة، فإنّ صخبَ الورشة يُمثِّل استحالةَ النشوة.
هكذا كان العيش في محاذاة الورشة. أمّا العيش في صميمها، فلا أقوى على تخيُّله. لكنّ بشارة- الذي تبدَّلت وظيفتُه، فأضحى حارسًا للورشة- كان يعيش في ذلك الصميم.
صار «هابّي» ينبح ليل نهار، ولم يعد نُباحه عصبيًّا فحسب. بات فيه شيءٌ من الجنون. كنتُ أسمعه وأنا أصارع الأرقَ في السرير، مُستلقيًا إلى جانب زوجتي التي كانت تغفو بعد بضع دقائق من مُلامسة رأسها الوسادة.
لم يكن نباحه ما يُؤَرِّقني. لم يكن حتّى يزعجني. لا بل كان يُؤْنِسني. ويُساعدني أحيانًا على النوم. إذ يُتيح لي التفكير في أمورٍ ملموسةٍ أستطيع التمسّك بها كي لا أغرق في ذاك القلق الوجوديّ السديميّ.
كان نباحًا مجّانيًّا، لا غاية له، كما لو أنّه يصدر عن آلة معطوبة باتت لا تؤدّي وظيفتها فيما بعض أجزائها لا تزال تعمل وتتحرّك. ومن بين ما كان نباحه يحملني على التفكير فيه أثناء ليالي الأرق تلك، هو أنّ كلبتي أصبحت هي الأخرى معطوبةً منذ بدء الورشة. فمذّاك صارت ترفض غالبًا الخروجَ مِن المنزل، فأضطرّ إلى حملها مِن الشقّة إلى محيط الحديقة لتتبوّل وتتغوّط على الرصيف. كنتُ أشعر بها ترتجف بين ذراعَيّ، كما لا ترتجف الكائنات الحيّة، بل مثلما تترجرج الآلات والمحرِّكات، وكان تَذبذُبها مرئيًّا بالعين، لا يحتاج إلى لمسٍ للتحقّق منه.
أمّا النباح فكان يحرم بشارة من أيّ نومٍ متواصل وطبيعيّ.
كان غضبه ينفجر صراخًا مسعورًا كلّ نصف ساعة على امتداد الليل. يَخرَس «هابّي» فورًا. لكنْ لمدّة لا تزيد عن دقائق عشر، ثمّ يعاود النباح. وبعد حوالي عشرين دقيقة يُخرِسه بشارة مُجدّدًا. وهكذا دواليك إلى أنْ أغفو.
كان صراخ بشارة يزعجني في البداية. ليس الصراخ في حدّ ذاته- أيْ بما هو صوت عالٍ لا تستسيغه الأُذنان- بل موجات الألم التي كانت تنبض في كلّ صرخةٍ مِن صرخاته الغاضبة: خَلَصْ يا هابّي!. سْكوت يا هابّي!. خْراس يا هابّي!. وكان هدفه من هذه الصرخات واضحًا صريحًا لا لبس فيه: إسكات «هابّي». إخراسه. لكي يستطيع النوم. وكان غضبُه مفهومًا تمامًا: مَن لا يحظى بأكثر من نصف ساعة من النوم المتواصل لا بدّ أن يغضب. لكنْ كان ثمّة شيءٌ آخَر في تلك الصرخات، شيءٌ مجانيٌّ وفاحشٌ، يطغى على الكلماتِ والغضب.
كان صراخه الخالي مِن الشتائم أقْذعَ مِن أيّ شتيمة. كأنّما كلّ ما اختزنته روحه من أوساخ الحياة ومهاناتها، وتراكم فيها دهرًا، يخرج في صيحاته متدفقًا غزيرًا كنبعٍ لا ينضب.
مضطجعًا في سريري أنتظِرُ أن يأخذني النوم. أحيانًا كنتُ أتساءل: هل يستطيع بشارة التقاط موجات الألم المندفعة في صرخاته؟ كنتُ أخاله لا يسمعها، لكنْ ما أدراني. غير أنّني لا أشكّ في أنه كان يجهل تمامًا تلك الحميميّة الدَّبقة التي كان صياحُه يبعثها بينه وبين المُستمِع الأرِقِ. كنتُ أشعر أنّني أتلصّص على دواخلِ نفسِه. وكان الأمرُ أخّاذًا ومُنفِّرًا في آنٍ واحد. إلّا أنّ ذلك لم يدم سوى أشهرٍ قليلةٍ. فالعادةُ مِبْرَدٌ يَكْشِطُ الأحاسيسَ طبقةً تلو طبقةٍ حتّى لا يتبقّى منها أثر. هذا ما أصاب افْتِتاني ونفوري، فبات ألمُ بشارة لا يُثير فيّ أيّ إحساس. ثمّ لم أعد حتّى أسمع الألم، ألمه. أغلب الظّن أنّه بقيَ ينبعث متذبذبًا في الصرخات، لكنّ أُذُنَيَّ أصبحتا عاجزتَيْن عن التقاطه.
رَجلٌ من غبار
استغرق تشييدُ البناية حوالي سنتَيْن، ذوى بشارة في أثنائهما شيئًا فشيئًا. نَحُلَ، وصار كائنًا غُباريًّا عتيقًا. غُبارٌ على وجهه، غبارٌ على ثيابه، وغبارٌ على كلبه الذي كان أبيَضَ فأضحى بلون التراب. غبارٌ في شعره، وغبارٌ تحت أظافر يديه وقدميه. والأرجح أنّ طعم الغبار بات لا يُغادِر حلقَه.
غُبارٌ على وجهه، غبارٌ على ثيابه، وغبارٌ على كلبه الذي كان أبيَضَ فأضحى بلون التراب. غبارٌ في شعره، وغبارٌ تحت أظافر يديه وقدميه. والأرجح أنّ طعم الغبار بات لا يُغادِر حلقَه.نَحُلَ، ولم يَعدْ يبتسم إلّا إذا كان مخمورًا. في السابق كان يشرب في بعض المساءات فقط، فصار يشرب كلّ مساءٍ تقريبًا، وأحيانًا في النهار. يُصبِح وديعًا عندما يشرب. تُخمِدُ البيرةُ غضبَه، ذاك الغضب الذي لن يلبث أنْ يشتعل مجدّدًا فينفجر صراخًا مُتقطِّعًا على امتداد الليل.
نَحُلَ، ولم يَعدْ يطيق كلبَه إلّا وقتما يكون مخمورًا. اندثر الودُّ الذي كانت تَستبطِنه مناكفاتُهما، ومكثت المُناكفاتُ واحتدَّت. صارت كلّ نزهة من نزهاتهما اليوميّة صراعًا على الوقت: بشارة يحاول الدوران حول الحديقة بأسرع ما يمكن، و«هابّي» يسعى إلى إطالة مدّة النّزهة بكلّ ما لديه من قوّة. بشارة مُتقدِّمٌ على الدوام، و«هابّي» متخلِّفٌ عنه باستمرار، غارزًا مخالبه في الرصيف، علّه يُبطِئ من سرعة بشارة، فيكسب بضعَ ثوانٍ إضافيّة من الحريّة. أمّا الحبل بينهما فمشدودٌ دائمًا، ويُخيَّل إليّ أنّه يوشك أبدًا أن ينقطع.
ثمّ اختفى الكلبُ ذات يوم. تخلّص منه بشارة. أعطاه لأحد معارفه. قال لي إنّ «هابّي» أصبح يعيش الآن سعيدًا في الجبل. ولم أرَ «هابّي» مرّة أخرى.
في يوم آخَر سقط شيءٌ ما على بشارة. حجرٌ، أو ربّما عارضةٌ فولاذيّة، لم أعد أذكر. كُسِر شيءٌ في قفصه الصدريّ. بضعةُ أضلعٍ، أو ربّما عظمةُ القَصّ. أُدخِل المستشفى، وخرج منها ليتعافى لا أعلم في أيّ مكان. ثمّ عاد إلى مزاولة عمله. وبعد بضعة أشهر، انتقلْتُ وزوجتي من شقّتنا فيما كان تشييد البناية على وشك أنْ يُنجَز.
17 تشرين
مرَّ عامٌ لم أرَ فيه بشارة. ثمّ صادفته في وسط بيروت، في إحدى أولى تظاهرات انتفاضة 17 تشرين 2019. ظهر أمامي كأنّما انبثق من عدم. صافحني، فلم أعْرفه للوهلة الأولى. كان في وجهه شيءٌ يُشوِّش ملامحَه. كأنّه هو وليس هو في آنٍ واحد.
لم يُفوِّت تظاهرةً أو مسيرةً أو اعتصامًا، فظللتُ في أوّل أسابيع الانتفاضة، أصادفه مرارًا وتكرارًا في ساحات بيروت وشوارعها.
وكان عليّ أنْ أُصادفه مرّات عدَّة لأُدرِكَ أنّ ما يُشوِّش ملامحَه هو الفرح. لم أكن قد رأيته فرِحًا من قبل. كثيرًا ما يُقال إنّ الألمَ يُغيِّر ملامحَ المرءِ، لكنّني كنتُ أجهل أنّ الفرحَ يستطيع بدوره التلاعُبَ بالوجوه.وكان عليّ أنْ أُصادفه مرّات عدَّة لأُدرِكَ أنّ ما يُشوِّش ملامحَه هو الفرح. لم أكن قد رأيته فرِحًا من قبل. كثيرًا ما يُقال إنّ الألمَ يُغيِّر ملامحَ المرءِ، لكنّني كنتُ أجهل أنّ الفرحَ يستطيع بدوره التلاعُبَ بالوجوه. كان وجهه مُشرِقًا وجميلًا، وآنذاك فقط أدركتُ أنّ بشارة رجلٌ وسيم. كأنّ الفرحَ أعاد ملامحَه إلى صورتها الأصليّة، إلى ما كان ينبغي أنْ تكون عليه دومًا.
غير أنّ تحوُّلَ بشارة لم يقتصر على وجهه. طريقته في المُصافحة تبدَّلت أيضًا. صرتُ كلّما صافحته أشعر بأنّنا متساويان.
لم أفهم هذا الشعورَ في البداية: أفلم نكن، أصلًا، متساويَيْن؟ كلّ مصافحةٍ جديدةٍ كانت كناية عن إجابةٍ بالنّفي. فيَده باتت تمتدّ إلى يدي بعفويّةٍ كانت تفتقدها مُصافحاتُنا القديمة. كأنّ تلك المسيرات والتظاهرات كانت استراحةً وجيزةً من الأدوار الاجتماعية التي تتلبّسنا بلا هوادة.
أنْ تُغادِرَ حياتَك
لم أكن أعلم أنّ رؤيةَ شخصٍ مَسَّه الفرحُ أمرٌ يندر حدوثه إلى هذا الحدّ. أعني الفرح الذي لا يُخالطه حزنٌ ولا تشوبه مرارة. الفرح الذي لا يرمي إلى التعويض عن حزنٍ أو مرارةٍ أو ألمٍ.
أَعتقِدُ أنّ بشارة غادر حياتَه في بداية الانتفاضة. فَتح البابَ وخرج من حياته بلا تردّد، تاركًا خلفه المهانة والألم. خرج إلى حيث الفرح الخالص، لكنّه لم يدرِ أنّه أصبح في اللامكان. حَسِبَ أنّه خرج مع حشود غفيرة، إلى أنْ اكتشف ذات يوم، بعد حوالي سنة، أنّه وحده في القَفْر. فحاول الرجوع إلى حياته، لكنّه لم يعثر عليها.
هناك حيث السعادة
كان دومًا في الصفوف الأماميّة، هناك حيث تتلاحم الأجساد وتُدمع العيون، فيما الرئات تعجز عن التنفّس. هناك حيث الهراوات، والرصاص المطاطيّ، والرصاص الحيّ. هناك حيث الغضب والكراهية، وحيث الذعر والنشوة أيضًا. كان بشارة دومًا هناك، لكنّني أتخيّل أنّه لم يكن غاضبًا ولا مذعورًا ولا حتّى منتشيًا. ولم تكن الكراهية تستحوذ عليه. ذاك أنّني أتخيَّله سعيدًا هناك، قبل أنْ يُدرِكَ أنّه في الخلاء.
الرينغ
على جسر «الرينغ»، قبل غروب نهارٍ بقليل، كان ثمّة بضع مئات من متظاهرين يتناقص عددهم رويدًا رويدًا. يتحلّقون في مجموعات صغيرة، يتكلّمون همسًا تقريبًا، وبعصبيّةٍ مكتومة. خوفٌ وحذَر. لعلّهم يحتقرون أنفسهم في هذه اللحظة، قلت لنفسي. يشعرون بعجزهم فيحتقرون أنفسهم، فكَّرْتُ. قبل عشر دقائق عبرَ الجسرَ حوالي مائتي درّاجة ناريّة يهتف سائقوها: شيعة، شيعة، شيعة. فتيان حزب الله وحركة أمل. مراهقون في معظمهم، وبعضهم لم يبلغ الثانية عشرة من عمره. بعضهم لا يستطيع الاستمناء بعدُ. اكتفوا بعبور الجسر هذه المرّة. لم يترجّلوا عن درّاجاتهم كما فعلوا في السابق، ولم يرموا الحجارةَ، ولم يضربوا بالعصي. عبروا الجسرَ خفافًا هذه المرّة، وكان ذلك كافيًّا لترويع مَن يطلقون على أنفسهم تسميّة «الثوّار». فالمتظاهرون يهابون هؤلاء الفتيان الشيعة أكثر ممّا يهابون عناصرَ الجيشِ أو مكافحةِ الشغب. ذاك أنّ كلَّ فتى من هؤلاء الفتيان إنّما هو تهديدٌ بأنّ حزب الله قد يستخدم سلاحه إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك.
الدرّاجات الناريّة تعبر الجسر مرّة ثانيّة. الهتاف عينه يتكرّر، لكنّ العدد تضاءل كثيرًا: نحو ستّين درّاجة فقط. كأنّ معركةَ اليومِ قد حُسِمَت ولم يبقَ للمنتصِر سوى الانقضاض على شراذم الجيش المهزوم. مزيد من المتظاهرين يغادرون الجسر، وبوتيرةٍ أسرع. ألمحُ رجلًا يضرب صدرَه بقبضته. رجلٌ خمسينيٌّ، طويلُ القامةِ ممشوقُ الجسمِ، يضرب صدرَه بعنفٍ فيما يصرخ غاضبًا: خلّيهُنْ يرجعوا!. إنّه بشارة. يريد التصدّي لفتيان الدراجات بمفرده. ينتبه إلى أنّني أُحدِّق فيه. يقترب منّي مُبتسمًا بشيءٍ من المَكْر. يضرب صدره مُجدّدًا وبعنفٍ، ويقول لي إنّ عظامه باتت أكثر صلابة بعد التئام الكسور. ليس غاضبًا كما حسِبته. إنّه يلهو. يلهو كطفلٍ. بجديّة طفلٍ منغمسٍ في اللَّعب.
لم يُحرِّك الله ساكناً
باتت الوجوهُ في الشوارع مُنفِّرةً.
كانت مُثيرةً للشفقة قبل سنة ونصف السنة أو أكثر بقليل، أي ما بين أواخر 2020 وأوائل 2021 تقريبًا. كانت الوجوه تنضح آنذاك بالذهول، ولم يكن أصحابُها قد أَلِفوها بعدُ. كانت وجوهًا باغتتها علاماتُ المهانةِ التي ظهرت عليها بين ليلة وضحاها: لم يُصدِّق أصحابُ الوجوهِ ما يحصل لهم، لم يُصدِّقوا أنّ الله سمح بذلك كأنّ شيئًا لم يحصل، لم يصدِّقوا أنّه لم يحرِّك ساكنًا، وأنّه تفرَّج عليهم ولم يكترث. ولم يصدِّقوا أنّه لم يثأر لهم.
ترَكَهم لذُلِّهم وخوفِهم فمُسِخَت وجوهُهم في لحظةٍ وما عادوا يتعرَّفون إليها. لذلك كانت وجوهًا تُثير الشفقة. لأنّها كانت مذهولةً ممّا آلت إليه، وترجو الناظرَ إليها أن يراها مثلما كانت منذ زمن ليس ببعيد. ترجوه ألّا يتمعَّن في بؤسها، كأنّما البؤس هذا ليس سوى غبارٍ ستنفضه رياحُ الزمن بعد قليل. كانت الشوارع تعجّ بوجوه ذليلةٍ وتائهةٍ، لكنْ ناطِقة، وكان كلُّ وجهٍ يقول: هذا ليس أنا.
لكنّ الوجوه أصبحت الآن صامتةً ومُغلَقةً، وما عادت تحاول إقناعَ الناظرِ إليها بأيّ شيء. نَسيَتْ هيئتَها القديمة ولم تعد تخجل بما آلت إليه. لا بل باتت كأنّها تفتخر بعلامات المهانة البادية عليها، فلا تسعى إلى تمويهها. وصار الناظرُ إليها هو مَن يخجل.
يخجل مِن الاشمئزاز الذي يصيبه كلّما حَدّق فيها.
جالسٌ على المقعد يُحدِّق في الفراغ
بماذا يُفكِّر يا ترى وهو جالسٌ على ذاك المقعد العمومي في شارع مار إلياس، مُمعِنًا النظر لساعات في الفراغ أمامه؟ هل يستعيد نُتفًا من ماضيه؟ هل يحاول ترتيب هذه النتف، رابطًا بعضها ببعضٍ علّه يستطيع تركيب صورةٍ ما عن حياته؟ صورة، أو ربّما حكاية، تتيح له فهمَ ما حصل له، وتحثّه على النهوض عن مقعده؟ أمّ أنّه يعلم أنّ ما رماه هزيلًا على هذا المقعد إنمّا هو شيءٌ حصل في غيابه وفي غفلة منه، شيءٌ ليس جزءًا من حكايته، ولا يمكن لأيّة صورةٍ عن حياته أن تشتمل عليه؟
أو لعلّه لا يُفكِّر في أيٍّ من هذه الأمور. ولعلّ الفراغ الذي تُحَدِّق فيه عيناه ليس إلّا انعكاسًا للفراغ الذي استحوذ على عقله.
وجدْتُني فجأةً أمامه
ظللتُ أتحاشاه فأعْبُر الشارع إلى الرصيف المُقابل كلّما أبصرته من بعيدٍ جالسًا على مقعده. كنتُ لا أريده أنْ يلحظ الإرباك الذي قد يتملّكني إذا رأيتُ عن قربٍ ما آلت إليه ملامح وجهه. ومع ذلك كنتُ أودُّ لو أستطيع تأمُّلَ وجهه في غفلة منه.
وفي ذات يوم وجدْتُني بغتةً أمامه. لعلّني كنتُ أمشي شارد الذهن، فلم ألمحه من بعيدٍ على مقعده. لقد فات أوان عبور الشارع، فكَّرْتُ. تبادلنا تحيّةً جوفاءَ، مُفرَغةً من كلِّ شيء ما عدا رغبة كلٍّ منّا في عدم رؤية الآخر والتحدّث إليه. لم نتصافح. بقي جالسًا وظللتُ واقفًا. كانت ملامح وجهه مُنهَكةً ومُتهدِّلةً كما لو أنّ جاذبيّة الأرض قد مَغطتها.
تبادلنا تحيّةً جوفاءَ، مُفرَغةً من كلِّ شيء ما عدا رغبة كلٍّ منّا في عدم رؤية الآخر والتحدّث إليه. لم نتصافح. بقي جالسًا وظللتُ واقفًا. كانت ملامح وجهه مُنهَكةً ومُتهدِّلةً كما لو أنّ جاذبيّة الأرض قد مَغطتها.ذابت عضلاتُ ذراعَيه وصدرِه. عظام وجهه ناتئة. انتشر الشيب في رأسه ولحيته بسرعة هائلة. لقد مرّت عليه سنوات عشر في العام ونصف العام الماضيَيْن.
لم يدم لقاؤنا أكثر من دقائق خمس. تكلَّمنا في البداية عن أمور تافهة، ثمّ جرّنا الحديثُ إلى انتفاضة 17 تشرين وتظاهراتها. أخبرني أنّه كان مِن مقتحمي وزارة الخارجيّة في 8 آب 2020، أي بعد أيّام أربعة من انفجار مرفأ بيروت، فتذكّرت مشهدًا كنتُ قد رأيته يومذاك على التلفزيون: أقدامٌ تدوس صورة رئيس الجمهورية، بعدما نُزِعت عن أحد جدران تلك الوزارة ورُمِيَت أرضًا. أخبرني ذلك بدون أيّ حماس أو حيويّة، بل بشيء من الضجر، ومنطفئ العينين.
كانت شفته العليا تتحرّك حركات غريبة فيما هو يتكلّم، ولم أنتبه إلّا بعد دقيقتَين إلى خلوّ فمه من أسنانه الأماميّة العليا. أبهذه السرعة فقد أسنانه، تساءَلْتُ؟ أمّ أنّه كان يستخدم طقم أسنانٍ فأضاعه؟ جهدّتُ كي لا أُحدِّق في فمه، لكنّ عينيّ راحتا تنجذبان تلقائيًّا إلى تلك الفجوة السوداء. وكان كلّما طال تحديقي يزداد عجزي عن تحديد ما إذا كانت شفته تتحرّك حركات غريبة لأنّ لا أسنان خلفها، أمّ لأنّ بشارة كان يحاول أن يحجب بها ذلك الفراغ الأسود.
تحدَّثنا أيضًا عن الانتخابات النيابيّة التي كانت ستجري بعد أسابيع قليلة.
قَوْلَك بيعملوا شي، بيطْلَع مِن أَمْرِن شي؟ سألني.
ما بعرف، أجبتُه، مُقدِّرًا أنّه يتكلّم عمّن أطُلِقت عليهم تسمية «مرشحي التغيير».
صمتنا. أردت سؤالَه إن كان ينوي التصويت لأحدٍ، لكنّني عزفت عن ذلك. أردت سؤاله إن كان يزاول عملًا ما، وأين يسكن حاليًّا، وماذا حلّ بـ«هابي». أسئلة كثيرة تواردت إلى ذهني، لكنّني شعرت بأنّني لم أكن أرغب في سماع أيّة أجوبة عنها، فطال الصمت وبدأ الإرباك يتملّكني، فقلت محاولًا العودة إلى حديثنا عن الانتخابات: تنشوف شو رح يصير. ربّت بشارة على مقعده كما لو أنّه يُربِّت على ساقِ صديقٍ له، وقال: تنشوف شو رح يعملوا. أنا هيّاني هون. قاعد هون وما عندي شي.