نقد قراءات 2022
فادي بردويل

أبطال، إرهابيّون، أيتام: أطياف 1982 اليوم

28 أيلول 2022

تعيسة هي البلاد التي تحتاج إلى أبطال.
برتولد بريخت 

أكثر المشاعر أذيّة وأكثر الأحاسيس وخزاً هي تلك العبثية: التوق إلى الأشياء المستحيلة، تحديداً لأنها مستحيلة؛ الحنين إلى ما لم يحدث قط؛ التوق إلى ما كان من المحتمل أن يحدث؛ التحسّر على عدم كون المرء شخصاً آخر؛ الاستياء من وجود العالم. 
فرناندو بيسوا


ذاكراتٌ ملتهبةٌ للتعبئة   

تألّقت 1982 في ذكراها الأربعين. استُعيدت حروبها واغتيالاتها ومجازرها بغزارة. خطابات، أفلام وثائقية، مسيرات، مقابلات، وقفات، تصريحات، تعليقات كثيرة على وسائل الاتصال الاجتماعي. نظرة سريعة إلى كلّ ذلك كفيلة بدحض أي أمل بأننا بصدد تعزيز «واجب الذاكرة» الذي يحافظ عليها بهدف تحصين المجتمع ضدّ إمكانيّة ارتكاسه نحو همجيّة اختبرها سابقاً. لا شيء من كلّ ذلك في استنهاض 1982 اليوم. على العكس، أتت العودة، محكومة برهانات الحاضر واللحظة السياسية الآنية لتغذية احتقان سياسي-أهلي، يكرّس انقساماً حاداً بلا رؤية للمستقبل.

والأدقّ أن نقول العودات، بدل العودة، عندما نتكلم عن أيّام صيف 1982 تحديداً. تلك التي تكثّفت فيها مجموعة أحداث مفصلية تزامنت فيها مشاعر قصوى ومتضاربة رفعتها من وحول الاقتتال اليومي إلى سموات الأساطير والرموز والاستعارات. فاختلط الإحساس بالانتصار بعد صمود المقاومة الفلسطينية في بيروت المحاصرة إسرائيلياً لأسابيع بمرارة خروج مقاتليها. 

التقط جوزف سماحة ذلك البعد الدرامي المتناقض آنذاك. فكتب بعيد بداية خروج المقاتلين الفلسطينيين في 21 آب 1982: كثيرون بكوا بالأمس. وكثيرون أطلقوا الرصاص عبّروا عن سخطهم وواكبوا المقاتلين الفلسطينيين في احتفال غريب اقترنت فيه تقاليد العرس بتقاليد التشييع (السفير). وفي المقلب الشرقي من العاصمة، تزامن وعد بشير الجميّل الخلاصي مع كابوس اغتياله. وتلاه قيام القوّات اللبنانية، بمؤازرة جيش الاحتلال الإسرائيلي، بمجزرة صبرا وشاتيلا التي وثّق الدوافعَ الإبادية لقَتَلَتِها وتفاصيلَ أفعالهم الفظيعة فيلمُ مساكر لمونيكا برغمان ولقمان سليم، سليم الذي لم يتوقف عن تقصّي عنف الحروب الأهلية والأنظمة التسلّطية حتّى لحظة اغتياله بخمس رصاصات، بعد أن خُوّن وهُدّد بكاتم الصوت من قبل مناصري حزب الله. 


يغيب التأريخ النقدي البارد عن استعادة أحداث صيف 1982 في ذكراها الأربعين، مقابل التهاب حاد للذاكرات الحزبية-الأهلية. وذلك إن دلّ على شيء فعلى تراجع حظوظ أيّ موقع جمهوري باستطاعته العمل على إنتاج رواية رديفة لأحداث ذلك الصيف، تخرج بالحدّ الأدنى عن تعابير وصور واستعارات الجماعات عن أنفسها وأعدائها. فنُقصف اليوم بذاكرات ملحمية للتعبئة وذاكرات ابتزازية للإقصاء. ذاكرات تُمجّد قوّةً مضتْ وتسعى إلى استنهاضها، وأخرى لتثبيت إرث تخويني عابر للزمان. وعلى هامش كلّ ذلك، نقع على ذاكرات يتيمة. ذاكرات وطنية لا سند أهلياً لها. ذاكرات تسعى جاهدةً لنيل الاعتراف بها. 


كثْرةُ وَرَثة وطَيْفٌ واحد

الطيف واحد. أمّا الورثة، فعديدون. يُستدعى طيف بشير الجميّل في أواخر آب بالتزامن مع ذكرى انتخابه رئيساً للجمهورية قبل أن يتصدّر المشهد في المهرجانات الحزبية في المناطق وفي الأشرفية في ذكرى اغتياله يوم عيد الصليب (14 أيلول). يتغلّب الطيف الحاضر على وسائل التواصل الاجتماعي في تلك الفترة على الورثة المتنازعين. يذكّرهم الاستدعاء العامّي الافتراضي بأن الجميّل هو الرئيس الأوحد الذي لم ولن يتكرّر، بعد تجسيده الوعد والأمل. فبقي حيّاً في قلوب الناس بعد اغتياله.

تعيد كلّ تلك العبارات والصور تنصيبه الرمز الأوّل للجماعة المسيحية والقومية اللبنانية. يستعيد الطيف شبابه وكاريزماه متمرّداً على محاولة تحييده من قبل الوريثَيْن السياسيَّيْن (جعجع وعون)، المتنازعَيْن على وراثته منذ أكثر من ثلاثة عقود. ففي هدنتهما القصيرة جدّاً، والتي طوّبت حينها مصالحة تاريخية، استُدعي طيفه لتصبيره في إطار الأب الراعي: في فــوق التـخت صــورة/ صــورة بشــير صــورة بشــير وسمــير وعـــون (أهزوجة أوعى خيّك، ملحم رياشي 2016). في بلاد العصبيّات القاتلة ما بين الجماعات وداخلها، ما بين الأحزاب وداخلها، لا يعني الكلام السياسي ما يقوله ولا يقول ما يعنيه. ليست المصالحات «التاريخية» أكثر من هدن هشّة مرحليّة. 


لكنّ ذكرى اغتيال بشير الجميّل لا تُختزل بموسم الحنين الشعبي، العائد بقوّة هذه السنة، إلى المخلّص. هي أيضاً لحظة مسرحية بامتياز، تتيح لورثته العائليين اعتلاء المنصّة. وفي هذا اليوم تسترّد العائلة- لا ضرورة للدخول في تمايزاتها الداخلية-  فقيدها من ورثته السياسيين. يتقمّص بعض الورثة شخصيّة الجميّل بكامل خصالها التي شكّلت أسس كاريزماه: كلامه العامّي، القول المباشر بلا قفازات، نبرة صوته، حركة جسده، طريقة الإلقاء، تقطيع الكلام، استعمال صيغة المفرد (الفلسطيني، السوري). كما تعود مقولات الجميّل الأثيرة عن الحريّة والسيادة والمقاومة ورفض الذميّة السياسية، وتسقط مباشرة على حاضر لا يشبه زمن صعود الثورة الفلسطينية وحسابات الحرب الباردة، فيُستبدَل الفلسطيني والسوري بالإيراني. يقطع حضور المهرجان الأربعين لذكرى الاغتيال الكلمات بهتاف إرهابي إرهابي/ حزب الله إرهابي.

بغضّ النظر عن الموقف السياسي من نديم الجميّل، لا يسع مشاهد المهرجان إلّا أن ينتبه بأنه بحضرة حالة تسحق فيها هالة التركة الوريث بالكامل. بدل أن يرثها هو، ترثه هي. ذكرى الاغتيال تمنحه دقيقتَيْه تحت الأضواء، ليسلبه تقمّص شخصيّة أبيه على المنصّة تمايزه الخاص. فالظرف الذي صنعه هو نفسه الذي يمحوه. 

يواجه سمير جعجع أيضاً معضلة الورثاء الساعين في آن واحد إلى إثبات انتسابهم للتركة والتمايز عنها كي لا تلتهمهم. القطيعة التامة معها تسلب الوريث شرعيته، والالتصاق الحميم بها يسلبه بصمتَه الخاصة. دأب جعجع في السنتين الأخيرتين إلى تحييد طيف الجميّل الطاغي في أيلول من خلال إنزال إيقونة المخلّص من عليائها وكسر الهالة الاستثنائية للرجل الذي لا إجا ولا بيجي متلو. حوّل الأيقونة إلى مبدأ سياسي عام يقتدى به، مغرداً السنة الماضية: نريد قبطاناً بوصلته جمهورية بشير. أمّا السنة، فذهب أبعد من ذلك، جاعلاً الرمز قابلاً للاستنساخ : بالذكرى الأربعين لانتخابك… وعدنا إلك نوصّل رئيس يشبهك. بعدما كان قد صرّح قبل تغريدته أنه مرشّح طبيعي للرئاسة، وبعدها أنه مستعد لطرح برنامجه من جديد بحال توافق المعارضة عليه.


إعادة إنتاج ما بين المشاهير والقدّيسين

بالإضافة إلى ذلك، شهدنا أيضاً عملية انتاج ذاكرة جديدة عن الرجل وقضيّته لأجيال لم تعاصره. تخطّت الذكرى بثّ خطاباته القديمة ووعد يا لبنان نحو إنتاج ونشر مادّة إعلامية زاوجت ما بين التاريخ الشخصي للرجل والتاريخ السياسي للمسيحيين ولبنان الحديث. في أحد جوانبه، مزج الإنتاج الإعلامي لـ«بشير 2022» ما بين صحافة الإثارة والمشاهير وسير القديسين. فتنقّلت مقابلة صولانج الجميّل على الأم.تي.في بالذكرى الأربعين ما بين السياسة والقتال وطبخات بشير المفضّلة والغيرة الزوجية. فبدا الانفصام واضحاً بين أسلوب المقاربة وموضوعها؛ بين إعلام «الرايتنغ» القادر على هضم وتسطيح كلّ شيء ومسألة الإرث المروّع للحروب والتهجير والمجازر ومسؤولية قادتها عنه. تمّ الحوار وسط بزّاته العسكرية والمدنية وبارودته ونظاراته الشمسية ومحبسه وسيارته، وقد توزّعت كلّها في الاستوديو وأحيطت بهالةٍ من القدسية. فصُوّرت أغراض الزوج والمقاتل والزعيم السياسي، المحافَظ عليها بعناية، وكأنّها ذخائر قدّيس لم تفقد قوّتها ووهجها بعد سنوات على غياب الجسد. 

بينما عاد جورج غانم في وثائقي «بشير، الحقيقة غير المطلقة» (2016) الذي أعادت المؤسسة اللبنانية للإرسال عرضه على خمس حلقات، إلى لحظة تأسيس لبنان سنة 1920، مقارناً بينها وبين انتخاب الجميّل رئيساً للجمهورية إبان الاجتياح الإسرائيلي. فيلخّص أوجه الشبه بين الحدثين، التأسيس الأوّل (1920) وإعادة التأسيس (1982) بفرح المسيحيين وشعورهم بالنشوة والانتصار والاطمئنان. فكما تُسقط تجربة الجميل على حاضرنا، تُسقط أيضاً على الماضي. كأنّ خطّاً مباشراً يربط ما بين 1920 و1982 و2022 قائماً على معادلة المسيحيّون = لبنان التي تجسّدت بشخص بشير الجميّل الذي يستعيد انتخابه انتصار الماضي ويحذّر طيفه من الوهن في الحاضر. 


مخاطر البطل المخلّص

تؤطّر تلك الروايات الإيديولوجية للتاريخ حوادث جماعة، تفترض تجانسها عبر الزمن، برواية ملحمية واحدة ومصقلة. فتحوّل الماضي إلى ذاكرة حيّة تعيد بها إنتاج اللحمة والعصبيّة في الحاضر. لذلك لا تعرف تلك الروايات إلّا معياري القوّة والضعف الوجوديَّيْن: قد تفرح الجماعة أو تُحبط (التسعينيات)، قد تنتشي أو تحزن، قد تنتصر أو تُهزَم، قد تطمئنّ أو تقلق، قد تعيش الحلم أو تدخل في كابوس. 

التمسّك بالرؤية الملحمية التي تختزل السياسة ومصالحها المتضاربة ونزاعاتها بأسطورة الرجل المخلص، المجسد لروح الشعب، الذي يقضي على التناقضات الداخلية ويوحّد الكلّ خلفه مؤذٍ ليس فقط لمن يعارض عملية الصهر الداخلي للمخلّص (توحيد البندقية 1، 1980؛ توحيد البندقية 2/حرب الإلغاء، 1990)، بل لمن يؤمن به أيضاً. فالهوّة الساحقة بين الإيمان الخلاصي وعنف الحروب ومصالح السياسة، لا تنتج إلّا خيبة أمل مريرة. وهذا ما حصل للّذين تعلّقوا بأحد ورثة الجميّل وخابت آمالهم على مراحل مختلفة؛ فيما هو انتقل من جايي من الله إلى «رايحين عجهنم».

لا يحتمل التأريخ الميثولوجي للجماعات، الذي لا يقتصر على تأريخ المسيحيين لأنفسهم، الأحداث العارضة والالتباسات والتناقضات والحياة اليومية والاقتصاد السياسي وأثر الزمن. وربّما الأهم من ذلك، لا يحتمل اقتفاء آثار الاقتتال الداخلي العنيف بين الأخوة وتصفيات الرفاق لبعضهم بعضاً والخصومات داخل العائلات السياسية وما بينها، أو يبرّر ذلك بالاستعانة بمقولات عن ضرورة ضبط الأمن وتوحيد البندقية. إحدى نتائج ذلك تنزيه «القضيّة»، المحافظة دوماً على بريقها وجاذبيتها، عن كلّ الممارسات التي ارتكبت باسمها ضدّ الأعداء والإخوة. لا يلطّخها ما فُعل باسمها ولا تُسأل عما ارتُكب تحت رايتها. تبقى وتستمّر.


ذاكرة للابتزاز

على المقلب السياسي الآخر، تستعاد مجازر القوّات اللبنانيّة والجيش الإسرائيلي في مخيَّمي صبرا وشاتيلا وتُربَط أيضاً ربطاً مباشراً بالحاضر. فيصرّح عضو في المجلس المركزي لحزب الله:

إن الخنجر الذي طعن وذبح سكان صبرا وشاتيلا قبل أربعين عاماً، لا يزال يقطر دماً وحقداً، والميليشيات الإرهابية اللبنانية التي ارتكبت المجزرة بالتعاون مع العدو الإسرائيلي، لم تحاكَم حتى اليوم، وإنما تعطي دروساً في العدالة، هم ينتظرون الفرصة المناسبة ليطعنوا المقاومة بالظهر، وهؤلاء لم يغيّروا من طبيعتهم، ولم يخجلوا، ولم يندموا. 

وأعاد عضو المجلس نفسه التذكير بمجزرة صبرا وشاتيلا بعد بضعة أيّام، قائلاً إنّ 

خنجر الميليشيات القاتلة لا يزال يقطر دماً وحقداً من صبرا وشاتيلا إلى مجزرة الطيونة. 


لا شيء يتغيّر في هذه النظرة إلى العالم. السياسة تنتمي إلى عالم الطبيعة والحقد يجري في العروق. لا زمن ولا فروقات هنا. كلّ شيء مسطّح. الكلمة نفسها تستخدم للإشارة إلى جريمة مهولة ضدّ الإنسانية ارتكبت بنَفَس إباديّ ضدّ مدنيّين واشتباكات بين مسلّحين في الطيونة. هنا أيضاً ينفصل الكلام عن المعنى، فتقتصر وظيفته على التحريض.

مقارنة أساليب استعادة وقائع 1982 في الحاضر من قبل ورثة بشير الجميّل وقيادي حزب الله تُظهر بعض النقاط المشتركة:

  • سهولة إسقاط الماضي على الحاضر.
  • تجيير ذاكرة الحروب الأهلية-الإقليمية لصراعات سياسية آنية.
  • تفريغ التاريخ من تعرّجاته التي من الصعب حشرها في خرافة ثنائيات محاور الخير والشرّ والوفاء والخيانة الأبدية (مثلاً، إيلي حبيقة من صبرا وشاتيلا إلى حضن النظام الأسدي ثم الحلف مع حزب الله فالاغتيال).
  • استثمار الذاكرة إمّا لتقديس الذات وتبرئتها أو شيطنة الخصم.

لكنّ التوقّف عند هذا الحدّ من المقارنات الشكلية، وإن بدا جذّاباً للبعض، وأنا منهم بعض الوقت، لمحاولة شقّ طريق ثالث خارج الاصطفافات الحزبية-الأهلية الثنائية، ينتهي إلى المساواة بين أفرقاء غير متساوين. فعندما يستعيد حزب الله مجزرة صبرا وشاتيلا للتصويب على القوّات اللبنانية الآن وربطها بمواجهات الطيونة، نحن بصدد سطو انتهازي على ذاكرة الضحايا، بعدما انتهكها بتحالفه مع حبيقة ومؤازرته العسكرية لنظام القتل الجماعي الأسدي.

الذاكرة في هذه الحالة عملية قنص تسعى إلى إعطاب الخصم من خلال إخراجه من الحيز السياسي الشرعي ووصمه بالإرهاب الذي لا يحاوَر بل يقضى عليه، والصهيونية التي لا يطبَّع معها بل تحارَب. ذاكرة ابتزاز تهدّد بالإقصاء. لماذا؟ لأنّ المقارنة لا تُعقَد فقط بين الشعارات (حزب الله ارهابي، حزب الله إيراني/ القوات اللبنانية ارهابية، سمير جعجع صهيوني)، بل بربط الموقف بالموقع. فحزب الله الذي أرسى غلبته السياسية بعد انتهاء الحرب الأهلية على الحظوة الأسدية والاغتيالات السياسية والغزوات العسكرية، لا صنو سياسياً-عسكرياً له. والحزب المنتشر علناً من جنوب لبنان إلى اليمن، والذراع الضاربة الأقوى للجمهورية الإيرانية، لا يأبه بالجمهورية اللبنانية ومؤسساتها خارج استتباعها. فهي ملّف واحد بين ملّفات إقليمية أخرى على مكتبه. وهذا ليس فقط بعيداً سنواتٍ ضوئية عن العلاقة الصوفيّة للبشيريّين بلبنان الـ10452 كلم مربع وعن التماهي بين الكيان والسيادة والوجود في مخيّلة قوميّة لبنانية مسيحية، ولكنه لا يمت بصلة أيضاً إلى أدبيّات اليسار اللبناني والحركة الوطنية التي، وإن قاتلت اليمين اللبناني وتحالفت مع المقاومة الفلسطينية، فإنها فعلت ذلك تحت شعار بناء لبنان جديد: عربي، وطني، ديموقراطي. 


آباء أيتام معاتِبون

بالكاد تصلنا أصداء من ذكرى انطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. يتكثّف في منتصف أيلول شعور الشيوعيين بأنّ العالم قد نسيهم، وأن نظام ما بعد الطائف لا يكلّف نفسه عناء الاعتراف بهم وبتضحياتهم. هم آباء المقاومة الشرعيّون وأصحاب الطلقة الأولى الذين لا يكترث لهم أحد. بعد حملات البدايات للإسلام الحركي الخميني لإعادة بناء الشخصية الإسلامية ضدّ الفكر المادي الدخيل ومعاركهم العسكرية ضدّ الشيوعيين واغتيال كادراتهم ومفكريهم في أواخر الثمانينات، لا يجدون الآن أي داعٍ لذكرهم أو لإبراز راياتهم. 
يتذكّر الشيوعيون في أيلول أنهم أيتام الجمهورية الثانية وجماعاتها المتحالفة-المتخاصمة ورعاتهم الإقليميين والدوليّين. لا سند أهلياً لهم ولا راعي. يعود في منتصف أيلول ذلك المزيج من المشاعر المتناقضة ما بين الاعتزاز بالريادة والتضحيات والإهانة لعدم الاعتراف بهم من الأبناء المفترضين والحلفاء الساعين قبل الخصوم إلى طمس ذكراهم. وبينما يُسقِط حزب الله والقوّات اللبنانية صيف 1982 على الحاضر، ويستدعيان أطيافه لتعبئة جماهيرهما، يقف حنا غريب وحيداً صارخاً ضدّ طرف لا يسمّيه في السلطة ما زال يرفض إقامة نصب تذكاري أمام صيدلية بسترس. 

ولكنّ غريب ليس وحيداً تماماً… يقف خلفه محمود القماطي، عضو المجلس السياسي لحزب الله. وهذا اعتراف بعد «عتاب». فقد سبق لغريب أن استاء من غياب علم حزبه في مهرجان ذكرى حرب تموز (2019)، مصرّحاً

لا أحد يستطيع أن يُنكر دور الحزب الشيوعي اللبناني في ما يتعلق بالمقاومة كائناً من كان وأضاف، أنّ تغييب الحزب الشيوعي أمر ليس بجديد في حين أن تاريخنا واضح ونحن لا ندعم المقاومة من باب الدعم فقط، بل نحن نقاوم ونحرّر. 

ربّما ارتاح حنا غريب لسماع عتابه وطلب الاعتراف. لكنّ المشاهد العادي يحتار إن كان القماطي متواجداً في المهرجان لتمثيل الأبناء المقاومين الذين أقصوا الأب ولم يعترفوا بأبوّته، أو القوى الظلامية التي اتهمها الحزب الشيوعي بالاغتيالات، أو الأحزاب التي قمعت 17 تشرين بشعارها العلماني التقدمي «شيعة. شيعة .شيعة»، أو الطغم الرأسمالية التي يتصدّى الشيوعيون لها. لكن كلّ تلك التفاصيل تبهت أمام المعادلة الذهبية: كلّنا مقاومة. فإذاً، نحن في نفس الخندق. هنا أيضاً، ينفصل المعنى عن الكلام. فيبقى الحزب الشيوعي في موقعه المتناقض والمستحيل. هو في آن واحد الأب واليتيم، الساعي إلى أن يعترف به مَن ساهم بإقصائه. 


ذاكرة للحرب

من الصعب فصل وظائف الذاكرة، وأهدافها، عن السياق السياسي-التاريخي الأوسع الذي يستدعيها. 

الذاكرة الفلسطينية على سبيل المثال جزء أساسي من أفعال التصدّي لمحو ممنهج للفلسطينيين يمتّد من فظاعة القتل الجماعي الإسرائيلي إلى عنف بيروقراطيتهم الروتيني الذي يصدر أمراً بمصادرة عقار أو يماطل بإعطاء رخصة بناء. 

مقابل الذاكرة التي تشكّل حجر الزاوية في مشروع صياغة الهوية الفلسطينية الوطنية- «نتذكر، إذاً نحن موجودون»- ضدّ الاستيطان الاحتلالي، تطمس النخب السياسية اللبنانية ذاكرات المجابهات الأهلية اللبنانية في فترات هُدَنها المرحلية. فمِن «لا غالب ولا مغلوب» (1958) إلى قوانين العفو العام بعد الطائف، اتُّخذ من النسيان والعفو، المؤسسين لحروب آتية، أعراف رسمية - «نتناسى، إذاً نحن متصالحون»


التهاب الذاكرات الحزبية-الأهلية اليوم يخرج عن ثنائية التناسي السياسي المقترن بعفو قانوني بُعيد انتهاء الحرب، ويخرج أيضاً عن معارضته المدنية التي شدّدت على واجب الذاكرة لتحصين النفس ضدّ تناسل الحروب. فنحن الآن بعيدون سنوات ضوئية عن خطاب الذاكرة المعارض لبلدوزر سوليدير الذي نظر إلى ذاكرة الحرب ومقابرها الجماعية كعائق بوجه مستقبل إعادة الإعمار والإزدهار الآتي من تهيئة بيروت لجلب الرساميل. 
يستعيد فائض الذاكرة التعبوية أمجاد أبطال الحرب ويُسقط مجازرها على حاضرنا، مضعفاً ما بقي من مناعة ضدّ الاقتتال الأهلي. فتعيد الذكرى الأربعون لـ1982 إنتاج غواية الحرب وسحرها لأجيال لم تعشها. فماذا لو اقترن ذلك مع انهيار شامل وموجات هجرات متتالية وغياب أي رؤية سياسية جامعة للمستقبل؟

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان