بتحط شرط ولا كوبل بيضلو مع بعض إذا بفتشو بتلفونات بعض
هذا ما تقوله مي، إحدى شخصيات فيلم «أصحاب ولا أعز»، لأصدقائها المجتمعين على العشاء. من باب التحدّي، تقترح عليهم أن يضعوا هواتفهم المحمولة على طاولة العشاء لتكون كافة الرسائل والمكالمات على مرأى ومسمع من الجميع.
الحبكة، إذن، فضائحية، يتحوّل خلالها الهاتف المحمول إلى وسيلة تلصّص على الحياة الحميمة والسرّية لكلٍّ من الشخصيات.
هواجس عربية في قالب عالمي
أثار الفيلم العربي، الأول من إنتاج نتفليكس، الجدل والنقاش على نطاق واسع. ففي الأسبوع الأول من عرضه على المنصّة، واجه موجة اعتراض حادة وغير مسبوقة على مواقع التواصل الإجتماعي، مما اجتذب انتباه الجمهور اللبناني والمصري والعربي، ووضع الفيلم في الصدارة من حيث نسب المشاهدة. حقّقت بذلك شركة نتفليكس نجاحها الأول في الأسواق العربية، ما يمهّد لجيل جديد من الأفلام العربية «الأصيلة» من إنتاج الشركة العالمية.
يأتي هذا النجاح ليؤكّد، عكس ما يدّعيه المعترضون، أن الفيلم إبن واقعه، يحاكي في مضمونه ويحرّك في قالبه هواجس فعلية حول الخصوصية الفردية في عصر التواصل المتواصل، والخصوصية القومية في فضاء الإعلام الرقمي المفتوح.
لعلّ أكثر ما هو عربيّ في النسخة العربية للفيلم هي هذه الهواجس التي فضحها عرضه.
الهلع الأخلاقي في مواجهة المدّ الإلكتروني
ركز المعترضون على مضمون الفيلم، وتحديداً على المواضيع الجنسية التي يثيرها: المثلية، والخيانة الزوجية، والـ«سكستنغ»، والحياة الجنسية للمراهقات. عادت عبارات إلى الواجهة، مثل «الحض على الرذيلة» و«تهديد الأسرة والأمن القومي»، وعلت أصوات المدافعين عن ثقافتنا العربية في وجه الظواهر الغريبة المتسلّلة إليها، وصولًا إلى الأزهر الذي أصدر فتوى يؤكد فيها أن التَّمرُّد على الفَضيلة، والتَّنكر لقيم المُجتمع السَّويَّة بمخطَّطات وحملات مُمنهجة ليست حُرّيَّة، أو تحرّرًا، أو إبداعًا، بل هو إفسادٌ وإِضعَاف للمُجتمعات، وغَمْسٌ لها في أوحال الرَّذيلة.
لا جديد في المشهد ولا في الأدبيات إذن. فتردّنا موجة الاستنكار الأخلاقي هذه إلى حقبة صعود الفضائيات العربية مع بداية الألفية الثانية. حينها، علت الأصوات المندّدة بالخطر الذي تشكّله القنوات التلفزيونية الفضائية - وتحديداً اللبنانية منها - على قيم وعادات المجتمعات العربية. فأصبحت برامج «تلفزيون الواقع» والفيديوكليبات مسؤولة عن «الانحلال الأخلاقي» لجيل كامل من الشباب، لا سيّما بما تقدّمه من مشاهد خادشة لحياء المشاهد العربي: شباب وبنات يتسكّعن في غرف نوم استوديو «ستار أكاديمي»، نساء وُصِفنَ بالعاريات يرقصن على الأسرّة وأخريات يداعبن الحبيب على مرأى المشاهدين.
حينها أيضاً تكاثرت فتاوى المنع والحظر والحجب التي طالت الأفراد والمؤسسات. حينها أيضاً، أصبحت النسخ العربية للبرامج الأجنبية دليلاً على انحدار ثقافي سريعاً ما أخذ طابعاً أخلاقياً. فتحوّل السجال حول ملابس إحدى الفنانات أو أداء أحد الفنانين إلى صراع وجودي حول حسنات ومخاطر الإعلام الحديث، وتحديداً حول تأثيره على الحياء العام وإثارته للشهوات الجنسية.
فمع كل تحوّل جديد لها، تخلق وسائل وتقنيات التواصل حالة من الهيستيريا الأخلاقية. فقبل الإنترنت، كان التلفزيون، وقبله، كان الراديو… في الماضي القريب، شكّل الساتلايت إجتياحاً ثقافياً لحرمة البيت والأسرة العربية من خلال البث التلفزيوني لأفكار ومعتقدات وأنماط اجتماعية وإستهلاكية جديدة. أما اليوم، ومع دخول منصّات مثل نتفليكس إلى الحقل الإعلامي العربي، تشكّل تكنولوجيا الـstreaming تحدّياً جديداً لقدرة الأنظمة العربية ومؤسساتها الحكومية وسلطاتها السياسية والاقتصادية والأخلاقية على ضبط وتطويق والإستفادة من الحقل الإعلامي في عصر التواصل المفتوح.
هو تحدًّ لقدرة هذه السلطات على تحديد الواقع وتمثيله.
فيعيد الخطاب الأخلاقوي اليوم تدوير الإشكالية نفسها حول «واقعية» الصورة التي يعكسها الإعلام الجديد عن المجتمع. ويُتّهم الفيلم بطرح مواضيع «غريبة» وبنشر ظواهر لا تمسّ الواقع بصلة.
إذن، وبعيداً عن تفاصيل الحبكة والشخصيات، يمكننا أن نشخّص حالة الهلع الأخلاقي التي رافقت إطلاق «أصحاب ولا أعز» أونلاين وعرضه في 190 دولة على أنها ردّة فعل محافظة ترافق كل تحديث تكنولوجي يُعاد فيه ترتيب حواجز وضوابط البثّ الإعلامي، وتنحسر خلاله القدرة على الرقابة. نحن اليوم أمام محطة جديدة من «الإنفلات» الإعلامي في العالم العربي، إنفلات سيغير معالم صناعة المحتوى الترفيهي في المنطقة.
الرسالة، إذن، في الوسيلة الإعلامية.
هواجس واقعيّة
وهنا أعود إلى موضوع الفيلم الأساسي، وهو تأثير الهاتف المحمول على الروابط الأسرية والعلاقات الزوجية. فكما تقول مي في بداية الفيلم، هيدا المصيبة كل حياتنا فيه. والمصيبة هي أن الفضيحة ممكنة. من جهة، تؤمّن الهواتف حيّزاً جديداً من السرّية والخصوصية الفردية ضمن العلاقات، فلعبة الأصحاب تنطوي على يقين بوجود ما هو مستور. ومن جهة أخرى، يعرّضنا هذا الجهاز نفسه إلى إمكانية التعرية المطلقة بما يحمله من معلومات ومستندات وصور قد تقع في أي لحظة تحت أنظار الشريك.
المصيبة هي أنّ الرقابة ممكنة. فيصبح الهاتف ملاذًا للهروب من سجن الحياة الزوجية بقدر ما يشكّل دليلاً دامغاً للقبض علينا. مع نهاية الفيلم، تتحقّق نبوءة مي وتسقط الأقنعة لتكشف الأكاذيب التي تسود العلاقات بين الشخصيات.
إذا كانت قصّة الفيلم تشير إلى هشاشة المؤسسة الزوجية في وجه غزو الهواتف المحمولة للحياة الخاصة، فإن ردة الفعل عليه تعكس هشاشة الهويات القومية في مواجهة مدّ إلكتروني معلوماتي عابر للحدود.
تحاول الشخصيات داخل الفيلم طمس الحقائق التي تكشفها هواتفها الذكية للحفاظ على الشريك. أما خارج الفيلم، فتهرع المرجعيات الأخلاقية إلى شجب «الرسائل الخطيرة والكاذبة» التي يحملها، في محاولة لإثبات سلطتها الثقافية المتآكلة. في الحالتين، تقع وسائل ومنصات التواصل كبش محرقة، ويصبح الإعلام الحديث هو المسؤول عن انهيار الأسرة والمجتمع.
في حبكته الفضائحية، كما في الحملة الاحتجاجية عليه، يعكس الفيلم هواجس عن تفكّك القيم العائلية والقومية في ظلّ واقع متحوّل. وهو واقع يفرضه إيقاع انفتاح اقتصادي وثقافي من شأنه أن يغير خريطة الحياة الخاصة والعامة ويعيد رسم الحدود بينهما. الهواجس التي يكشفها الفيلم لدى شخصياته وجمهوره لا تخلقها التكنولوجيا. هي نابعة عن تحوّل المفاهيم التقليدية عن الجنس والزواج والعائلة، وعن تحوّل في موازين القوى يزعزع قدرة سلطات الأمر الواقع على التحكّم بحدود الممكن والمقبول.
الرذيلة ورأس المال
في محاولات السيطرة على تلك الحدود، تفرض سلطات الأمر الواقع هيمنتها بإحكام قبضتها على الخطاب العام ومساحاته الفنية والإعلامية. وتنال عادة النساء، كما هو الحال مع الممثلة المصرية منى زكي التي خلعت سروالها الداخلي في الفيلم، الحصة الأكبر من الشتائم. تنجح هذه الحملات في بعض الأحيان، فتحكم بالسجن مثلاً على «فتيات التيك توك» أو تقتل من رفعت علم المثلية في حفلة غنائية أو تنفي من نشرت صورها عارية أونلاين. فهنّ، عكس منى زكي، لا حصانة أخلاقية لهنّ، ولا شركة عالمية وراءهن، ولا رأس مال محلياً وحكومياً يمولهنّ.
وهنا يكمن كل الفرق.
قد يكون «أصحاب ولا أعز» نسخة عن عمل أجنبي. أما السجال الذي أثاره، فهو عربي أصيل، قديم ومتجدّد، عن المحظور من الظهور علناً في مجتمعاتنا. في تحدّيهن لثقافة الممنوع، دفعت الكثيرات بحياتهن ثمناً للظهور، ثمناً لنشر أفكار وأجساد «تخدش الحياء العام». هذه المرّة، لن تنجح الحملات الأخلاقية بمنع الفيلم من العرض. فالأرباح المادية التي ستجنيها نتفليكس، بشراكة مع الحكومات ورؤوس الأموال المحلية، كفيلة بأن تشرّع «الرذيلة».