لم تنجُ ريما كرامي من سكاكين الرجال، ولا من ألسنتهم الطويلة طبعاً. أصابتْها المشارط القاتلة ذاتها، تلك التي تتغذى من ذكورية سامّة باتت ظاهرة عالمية مرتبطة بصعود اليمين الفاشي ووصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية. من المتوقع لهذا الخطاب العالمي أن يثير موجةً مؤثّرة في سياسات الدول الأخرى، ولبنان واحد منها، كما بدا مع بعض التعليقات الذكورية على الحكومة الجديدة.
السند البورنوغرافي
لكون الوزيرة الجديدة، ريما كرامي، امرأة لا تناسب «المعايير» التي يضعها الرجال للنساء، باعتبارهن مجرّد محرّك للرغبة ووعاء جنسي، فإن التعرض لها، اعتمد أولاً وأخيراً على صورتها. أي الصورة التي تتعارض عمّا يتخيلونه عنها كامرأة. وهذا ما رأيناه من خلال الاحتفال بجسد المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس. فأورتاغوس تمثّل في «مسندهم البورنوغرافي» الوعاء الجنسي المناسب لمخيالهم الخصب، خصوصاً أنه تم مقارنتها بأدوار النساء البورنوغرافيات بما يسمى «الميلفات» في صناعة الجنس. وصار النقاش عن عمل المبعوثة الدبلوماسي يتمحور حول الصور المنشورة عبر الانترنت، آتين بها من بروفايلاتها وملاحقين حياتها، والصور التي تنشرها في مناسبات خاصة وعامة، مركزين على سيقانها وفساتينها وصدرها المكشوف وممجّدين فيها صورتها كأداة شهوة وكموضوع رغبة جنسية، لا بل كدافع لهوامات بصرية– جنسانية، يشكلها العقل الذكوري عن أجساد النساء المشتهاة.
تأديب المرأة إلكترونيًا
ولأن ريما كرامي لا تتطابق مع معاييرهم البورنوغرافية هذه، فإن الأكاديمية، صاحبة الخبرة الطويلة في مجال التربية، تتعرض لجملة تعليقات جارحة وتنمّر بات سائدًا في سياق النقاش العام، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي، باعتباره مختبراً لتأديب المرأة «الكترونياً» والحكم عليها. وكان النقاش بعد توزير خمس نساء في حكومة نواف سلام الجديدة، يعتمد على نقد شكل النساء وقصّات شعورهنّ، لا سيما كرامي التي تعرضت أكثر من غيرها للتنمّر جراء شكلها وشعرها وثيابها. ومن جملة هذه التعليقات: العمى كأنو جاية من كتب التاريخ، أو بتشبيهها بالناظرة MISS FINSTER في المسلسل الكرتوني «الفسحة».
وجملة هذه التعليقات لا تأخذ أي نقاش جدي حول سيرة الوزيرة الجديدة ومعايير موضوعية في نقد موقعها، بل استندت حصريًا على خروجها عن الصورة النمطية التقليدية للمرأة اللبنانية في المجال العام والميديوي. تلك التي تصفف شعرها عند السابعة صباحاً في صالون طوني مندلق وتصبغه بصباغ ماركة «غارنييه» التي تحتفي بها التلفزيونات الخاصة في إعلاناتها. كما لا تتطابق صورتها مع ما يسوَّق عن المرأة اللبنانية «العيوقة» و«الشيك» والمختلفة عن النساء العربيات بكونها متقدمة عنهن في تحررها اللباسي وذوقها.
ولأنّ ريما ليست من نوع النساء المتطابقات مع صورة طانطات الأشرفية المتخيّلة، ولا ترتدي ألبسة الماركات «اللوكس»، ولا تتطابق مع نساء الصالونات من الطبقة المخملية المتباهية ولا حتى صورة النساء من العائلات السياسية اللواتي جئن الى العمل في الشأن العام بمسميات «تقديسية»، كزوجة الشهيد أو شقيقة البطل، فإن نقد ريما كرامي لم يتعدَّ كونه نقداً ساخراً، يعتمد الحطّ منها، بعيداً عن قراءة منجزاتها كشخص. فبالنسبة للعقل الذكوري، يتطلّب أيُّ خروج عن الصورة النمطية تأديبًا، ليذكّر المرأة بأنّها مجرّد أداة شهوة وموضوع رغبة جنسية.
حملة عالميّة
يتقاطع هذا الميل التأديبي مع ما كُتِب بعد تكليف أحمد الشرع، الرئيس السوري المؤقت، لامرأتين (هند قبوات وهدى الأتاسي) في اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني العام (12 شباط). حيث تركزت معظم التعليقات الذكورية على جدوى تعيين هاتين السيّدتين والتشكيك بقدراتهما وكفاءاتهما. لا بل أن البعض جنّ جنونه على النسويات بعد انتقادهنّ وجود امرأة واحدة فقط في هيئة الائتلاف وهيئة التفاوض. ينسحب هذا الموقف أيضاً على الذكورية التي تنتقد النسويات المحجبات في سوريا وتقويض «نسويّتهنّ»، باعتبارها نسوية إسلامية غير قادرة على تمثيل المرأة، لا بل يشككون بهذا النوع من النسوية باعتبارها خاضعة وتابعة ولا قرار لها، معتمدين أولاً وأخيراً على لباس النساء وثيابهن.
لبنان وسوريا ليسا إلّا مصغرًا عن صعود الفاشية الجديدة واليمين المتطرّف، وخوف رجالها القوامين اليوم على سياساتها، من التنوّع الجندري ومحاربته وتقويض سياساته. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد أصدر أمراً تنفيذياً يحظر بموجبه مشاركة العابرين والعابرات جندرياً في المسابقات الرياضية النسائية، كما اعتبر أنهم/ن غير مؤهلين/ات للانخراط في الخدمة العسكرية. كما أصدر مراسيم لوقف المساعدات الفيدرالية لهم/هن، مؤكداً أن السياسة الرسمية لحكومة الولايات المتحدة لن تعترف إلا بجنسين فقط، الذكور والإناث.
نواجه اليوم موجة من الذكورية الجديدة، موجة خطيرة لكونها تؤثر تأثيراً واسعاً على الذكور صغار السنّ، والذين يتابعون بعض المؤثرين الرجال، على منصات «تيك توك» و«إكس»، من الداعين الى تمجيد الذكورية وتأليه صورة الذكر، باعتباره «قوياً» و«عنيفاً» و«صاحب سلطة» و«مال». التحقت بالحملة منصّات، مثل «غوغل» و«إكس»، والتي ألغت من برمجتها كل ما يتعلق بالاحتفال بالأقليّات العرقية أو الجنسية. ومع توجّه سياسات الدولة إلى إلغاء التنوع الجندري واعتباره تهديداً للمجتمع وللعائلة وللقيم، فإن العالم اليوم يعيد للذكورية السامّة مكانتها في صنع القرار وتحديد السياسات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، ويهدد الفئات المهمشة بالقتل والموت والإقصاء.