المنشور
أصدَرَت منظمة «كفى» غير الحكومية (لمواجهة العنف والاستغلال القائمين على النوع الاجتماعي) في يوم الخميس 23 كانون الثاني الجاري، منشورًا مستوحًى بالشكل من التحذيرات التي كان ينشرها المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي على منصة التواصل الاجتماعي «أكس» إبّان العدوان الإسرائيلي على لبنان، من أجل تسليط الضوء على مسألة العنف المنزلي. استَخدمت «كفى» في هذه الصور لغةً بصريةً شبيهة بتلك الموجودة في منشورات أدرعي (من التصميم إلى الألوان وما إلى ذلك)، بيد أنّها، بدلاً من خرائط الأحياء المستهدفة، أظهرَت صورًا جوّية لمبنى مع مساحات داخلية معيّنة محدّدة باللون الأحمر. استخدمَ المنشور لغةً مماثلةً لتلك المستخدمة في تحذيرات أدرعي، ووصفَ الموقع المحدّد بأنّه موقع خطر كونه «تحت سيطرة فرد عنيف»، داعيًا إلى الإخلاء الفوري. بعد دقائق قليلة من نشره، تعرّض المنشور لانتقاد عنيف على مواقع التواصل الاجتماعي، لتبادرَ المنظمة إلى حذفه من حساباتها ونشر «اعتذار» كان أقرب إلى تبرير المقارنة بين القصف الإسرائيلي والعنف الأسري ضدّ المرأة (قبل أن تعود وتُصدر بعد يومَين اعتذاراً آخر «عن كلّ ما تسبّبت به الحملة من أذى غير مقصود»).
المقارنة الخاطئة بين أنواع من العنف
تمحورت اثنتان من أهمّ الحجج التي سيقت ضد الحملة حول:
- رفض المقارنة بين شكلَيْن من أشكال العنف.
- التنديد بمدى الاستفزاز الذي أثاره هذا المنشور.
من جهتها، أكّدت «كفى» من خلال اعتذارها على أن العنف المنزلي ليس أقل أهمية من عنف الحرب، ما برّر شكل الحملة بنظرها. لكنّ معظم النقاش النقدي لم يكُن مهتمًّا بمقارنة كهذه، بل كان يندّد بفكرة المساواة بين شكلَيّ العنف هذَيْن، لا لاختلاف نطاقهما، ولا لاعتقاد أيّ شخص بأنّ العنف المنزلي يُعتبر قضية أقلّ أهمية، بل لأنّ الربط بينهما لا يضيف أيّ بُعدٍ جديدٍ. على العكس من ذلك، فإنّ مثل هذه المقارنة تسطّح موقفَيْن مختلفين من خلال تقليصهما إلى فكرة مجرّدة تقارب «العنف» كسمة مشتركة، متجاهلةً حقيقة وجود اختلاف جوهري بين أصل وعلاج كلٍّ من هذَيْن النوعَيْن من العنف (أحدهما جيوسياسي والآخر بنيوي). علاوةً على ذلك، لا تترك صيغة المنشورات أيّ مساحة لتقديم الحجج لتسويغ مثل هذه المقارنة، بحال اعتُبِرت صحيحةً أصلًا، لأنها تتناول ظاهر الأمر فقط من خلال التلاعب بالكلمات أو استخدام نوع من الوهم البصري، ما يجعلنا نخطئ في التمييز بين محتوى وآخر.
أمّا في ما يرتبط بالانتقاد الثاني، أي العواقب الناتجة عن تعرّضنا مرةً أخرى لهذه الصور (يستغرق الأمر أقلّ من ثانية حتى يدرك المرء أننا لم نعد إلى الحرب)، فيطرحُ بشير أبو زيد وجهة نظر قيّمة ضد تحجيم النقاش حول الحملة إلى حدود تأثيرها الفردي والنفسي (اضطراب ما بعد الصدمة، وإثارة الصدمات، وما إلى ذلك). ويذكّرنا في منشور له على منصة فيسبوك بجذور المشكلة حيث إنّ المنظمات غير الحكومية غالبًا ما تقدّم الأولويّة لمقترحاتها الخلّاقة أو لعنصر الصدمة في مبادراتها، على مواقفها السياسية، وفي هذه الحالة الموقف بشأن جرائم الاحتلال.
حملة «كفى» كمُصغَّر لحملات المجتمع المدني
يمكن اعتبار حملة «كفى» غلطة، لكنّها لا تختلف عن أغلب حملات المجتمع المدني، وإن كانت قد تخطّت الحدود عندما تناولت قضية حساسة كهذه في مثل هذه اللحظة الحرجة. ومع ذلك، يُعتبر الاعتذار العلني الأوّل الذي أصدره القيّمون مثيرًا للقلق: فهو يشير إلى أنهم لم يدركوا بشكل كامل القضايا الإشكالية العميقة التي طرحها منشورهم.
على مدار السنوات الماضية، أثبتت «كفى» جدارتها ضمن قطاع المنظمات غير الحكومية، وهي تستحق احترامًا كبيرًا: فهي واحدة من الجمعيات القليلة التي واجهت وضغطت على السلطات الوطنية في ما يتعلق بمأساة العنف الأسري في لبنان، ونجحَت في طرح القضية لتكون في صدارة النقاشات داخل الحيّزَيْن التشريعي والتنفيذي. كما أنّها سلّطت الضوء على قضية، غالبًا ما اعتُبر أنها غير موجودة أو هامشية في الحيّز العام، مثلًا مع السلطات الدينية وغيرها. ويبرز بين الإنجازات الأخرى للمنظمة تعاونُها الناجح مع أجهزة الأمن لتوفير خطّ ساخن وطني وملاذ لضحايا الاعتداء. باختصار، فإنّ «كفى»- وعلى عكس معظم المنظمات غير الحكومية- لم تعمل إلى جانب الدولة أو بدلاً منها، بل حمّلت الدولةَ المسؤوليّة عن قضايا حرجة تمسُّ ببنية المجتمع، وارتقت في جهودها لتبلغ مستوى وطنيّاً متقدّماً. تالياً، وعطفأ على هذه الأسباب كلّها، فإن «كفى» تستحقّ هذا النقد منّا.
يدلّ منشور «كفى» على مدى انعدام اللياقة في التواصل مع الجمهور عندما يتمّ استعارة تقنيات الإعلانات لمعالجة قضايا ذات أبعاد سياسية، اجتماعية، اقتصادية أو ثقافية. فيُهيمِن عالم الشركات والإعلانات على نقاشاتنا ومساحاتنا العامة من خلال اعتماد خطابات مغلقة تستهدفنا كجمهور. في الواقع، تحتكر هذه القطاعات الطريقة التي يتمّ بها التحدّث إلينا لا معنا، وغالبًا ما تستخدم صيغة متشابهة جدًا، مثل الأفكار الذكية والتلاعب بالكلمات وإحداث الصدمة والشعارات التي تدعو إلى التغيير أو التي تحثّ على التصرّف، والتشويق، واللعب على العواطف، وما إلى ذلك.
من ناحية أخرى، في معظم حملات التواصل مع الرأي العام التي تطلقها المنظمات غير الحكومية، يمكن استشفاف الأهمية التي يوليها الليبراليون لمفهوم «رفع الوعي» الذي يفترض أنّ الناس (الذين قد يكونون جَهَلة في نظر هذه الحملات) سيغيّرون آراءهم وسلوكيّاتهم بمجرد حصولهم على المعلومات. غير أنّ هذا الأسلوب يتجاهل الظروف المادية لحياة الأفراد ومدى تحديدها لصالحهم. كما أنه يقوّض أهمية العمل الذي نقوم به معًا من خلال التجمّع حول قضايا ذات مصلحة مشتركة لمواجهة أشكال القمع المختلفة (وهو ما تقوم به منظمة «كفى» بالفعل). وبدلاً من ذلك، تستثمر هذه المنظّمات في ابتكار ونشر إعلانات إبداعية تشكّل طريقًا مختصرة لممارسة العمل السياسي. في هذا السياق، تقول الكاتبة الهندية أرونداتي روي في مقالها عن سيطرة منظمات غير حكومية على الفعل السياسي: تمتلك المنظمات غير الحكومية أموالاً تمكّنها من توظيف أشخاص محليين، ربّما كانوا من الناشطين في حركات نضاليّة، لكنهم الآن يشعرون بأنهم يحققون الخير بصورة مبتكرة وآنية (ويكسبون لقمة العيش بفضل عملهم). ومن بين عواقب هذا التحوّل إلى المنظمات غير الحكومية هو التخصيص غير المتكافئ للموارد لحملات التواصل، غالبًا على حساب الإجراءات الملموسة والتنظيم السياسي، إذ يتمّ توجيه هذه الموارد نحو الإعلان بهدف الحفاظ على الوجود عبر الإنترنت أو احتلال اللوحات الإعلانية، تمامًا مثل العلامات التجارية التي تتنافس لجذب الاهتمام في اقتصاد السوق.
أشكال خطاب تنزع السياسة
عندما لا يعود المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية قادرَيْن على تصوّر أي شكل آخر من أشكال الخطاب ويلجآن إلى تقنيات عالم الشركات، فإنهما لا يغضّان الطرف عن تلبية احتياجات جماهيرهما وحسب، بل يصبحان متباهيَيْن بإبداعهما في إقامة مقارنات غير واقعية، أو سعيدَيْن بالتورية في تحويل محتوىً ما لصالح محتوىً آخر، أو إنتاج صور ذكيّة وحذقة وإحداث تأثيرات صادمة. في منطق الإعلان، يُعَدّ هذا الأسلوب عمليّاً وناجحاً لأنه يحقّق النتائج المرجوّة على المدى الطويل؛ ويكمن القول إنّ منشور «كفى» حقّق غايته لأنه أدّى إلى إثارة هذا النقاش العام.
تعاني معظم منظمات المجتمع المدني من أوجُه قُصور مماثلة في التواصل مع الجمهور، إذ تتغاضى عن طرح هذه الأسئلة على نفسها: ما الأثر الذي تستطيع الحملات أن تؤدّيه لقضية ما، وما نسبة الموارد التي علينا أن نخصّصها لها؟ ما القيمة المضافة وعلى ماذا؟ مَن نتوقّع أن يدرك ماذا، ولماذا؟، أو مَن المستفيد بشكل مباشر من مثل هذه الحملات؟ بما أن الترويج للسلع وبيعها هو الشكل الرئيسي للخطاب في ظلّ الاقتصاد الليبرالي في لبنان، وبما أنّنا فقدنا الأشكال الأخرى للتصوّر السياسي حول كيفية التواصل مع بعضنا بعضاً في الحيّز العام، يصبح لكلّ ذلك عواقب خطيرة على نزع الطابع السياسي عن التواصل العام، وعلى تحويل القضايا ذات الاهتمام الاجتماعي والسياسي إلى مجرّد سلعة للبيع.