تعرّض المشروع الإصلاحي الذي يحمله رئيس الحكومة نواف سلام إلى ضربتين في أقلّ من أسبوعين.
الضربة الأولى جاءت من داخل الحكومة، وتمثّلت في تحالف ثلثي الوزراء الذين يمثّلون حركة أمل وحزب الله والقوات اللبنانية وحزب الكتائب وحزب الطاشناق ورئيس الجمهورية من أجل إيصال كريم سعيد إلى حاكمية مصرف لبنان. ولم تفلح معارضة سلام، ومعه نائب رئيس الحكومة وخمسة وزراء مستقلّين، لخيار سعيد في دفع داعميه إلى البحث عن بدائل له. فأصرّوا على خيارهم وعيّنوه.
الضربة الثانية جاءت من الخارج، وتحديداً من إسرائيل التي واصلت خروقاتها لوقف النار، ولم تكتفِ بارتكاب جرائمها جنوباً، ولا حتى بإبقائها على احتلالٍ لخمسة مواقع داخل الأراضي اللبنانية، بل قامت أيضاً بقصف ضاحية بيروت الجنوبية مرّتين، في رغبة واضحة بإظهار قدرتها على التصرّف كيفما تشاء في لبنان، مبقية الأحوال بمجملها متوتّرة، وتحت رحمة نيرانها المدعومة أميركياً.
ضربة داخلية ضد الإصلاح
لفهم قسوة الضربة الأولى، يفيد التوقّف عند أولويات الحكومة كما يريدها سلام في العام ونصف العام من ولايته قبل الانتخابات النيابية المقبلة في أيار 2026. وأولى الأولويات هي تلك المرتبطة بمصير أموال المودعين في المصارف، وبالخسائر المالية الضخمة للأخيرة، وبعدم تحميل المودعين والدولة كلفتها. وثمة مشاريع مطروحة من قبل صندوق النقد تتوافق مع هذا التوجّه، وأفكار عديدة يحملها خبراء دوليون ولبنانيون على تواصل مع سلام، وثمة أيضاً مشروطيات للمساعدات الدولية ترتبط بالشفافية والتعامل مع السرية المصرفية وإعادة هيكلة المصارف. وكانت هذه المشاريع والأفكار تنتظر تعيين الحاكم وبدء المفاوضات من أجل تطبيقها. وثمة في المقابل رفض لكلّ هذا من قبل جمعية المصارف التي تسعى إلى تحميل الدولة والمودعين عبء الخسائر، وتسعى أيضاً الى تجنّب البحث في إعادة الهيكلة وفي رفع السرية وغير ذلك ممّا هو ملحّ في المرحلة المقبلة للسير بأهمّ إصلاح وبأهمّ مسار إنقاذي للبلد مالياً واقتصادياً مع إعادة الاعتبار فيه لمبدأ الحقّ العام.
وحتى لو نفى كريم سعيد قربه الشخصي من ممثّلي جمعية المصارف ومن «اللوبي» الذي يدعمها ويحرّك وسائل إعلام مرئي ومسموع ومكتوب وسياسيين لصالحها، فإن برنامجه المعلن في تصريحات وكتابات عديدة له يتماشى تماماً مع مواقف المصارف، ويتجنّب كل إشارة إلى تحميلها مسؤولية الخسائر، أو حتى قسماً أساسياً من هذه الخسائر.
بهذا المعنى، جاء تعيين سعيد حاكماً للمصرف المركزي وكأنّه تبنٍّ من مجمل القوى السياسية الطائفية، ومن رئيس الجمهورية، لمواقف جمعية المصارف التي تناقض التوجّه الإصلاحي وتناقض أولى أولوياته.
ضربة خارجيّة ضدّ السيادة والإعمار
جاءت الضربة الثانية، كما أسلفنا، من خلال تصعيد إسرائيل لاعتداءاتها على لبنان، ووصول قصفها الجوي إلى حدود عاصمته. وهذا يهدف بالدرجة الأولى إلى وضع الحُكم بكامل مؤسساته ورئاساتها أمام حقيقة مفادها أنها عاجزة عن حماية سيادة البلد وعن وقف الاعتداءات الإسرائيلية عليه، ويخلق توتّرات سياسية داخل الحكومة وخارجها بين الأقطاب الطائفيين، ويؤجّل كل مشروع لإعادة الإعمار مبقياً مئات الآلاف من أهل الجنوب والضاحية وبعض مناطق البقاع عرضة للنيران، ومكرّساً بالقصف فئتين من اللبنانيين: المقصوفين والآخرين. المقصوفون منتهكون حربياً، والآخرون منقسمون حول المواقف من المسؤوليات ومن العروض المحتملة لوقف الاستباحة الإسرائيلية.
وهذا في ذاته مادة خصام حادّ إضافية، إذ لا يمكن توقّع عروض أميركية مثلاً لوقف العدوان الإسرائيلي، من دون دعوات إلى التطبيع الصريح مع تل أبيب وتوقيع ما يشبه اتفاقيات أبراهام معها. وقد يكون بين اللبنانيين من يرحّب بدعوات كهذه، رغم استمرار حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين، والتي لا فظاعة تماثلها منذ الحرب العالمية الثانية، ورغم ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية لرئيس الحكومة الإسرائيلية الذي يُراد التطبيع معه، بتهمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ورغم انعاكسات ذلك لبنانياً على نحو قد يفجّر الأوضاع بمجملها.
ماذا يعني إذاً تعرّض مشروع الإصلاح وإعادة بناء الدولة لهكذا ضربتين؟
يعني أنّ الحكومة التي انقسمت إلى «معسكرين» في ما يتعلّق بسبل الإنقاذ المالي وخياراته وشروطه الإدارية والسياسية، ستصير موقع تجاذبات حادّة كلّما جرى التفاوض مع المؤسسات الدولية ومع الحاكم الجديد للمصرف المركزي. وهي قد تنقسم إلى أكثر من معسكرين، وعلى أسس مختلفة عن انقسامها المالي- المصرفي، في ما خصّ «المسألة الإسرائيلية». وفي انقساماتها هنا وهناك ما سيعيق عملها في ولاية قصيرة تنتهي تقنياً بعد الانتخابات النيابية العام المقبل، ويتوقّف على نتائج هذه الانتخابات إعادة تكليف رئيسها بتشكيل حكومة جديدة، أو بحث الفائزين عن رئيس جديد يطوي صفحة البرنامج الإصلاحي الذي كان مأمولاً.
نحن بالتالي أمام نكسة كبيرة، خاصة أن الوقت ليس لصالح الإصلاحيّين الذين يُخشى أن يصير مرورهم في السلطة التنفيذية مجرّد مرور عابر في سياق الأزمات اللبنانية المتكرّرة والمتشعّبة بين داخل مهترئ وخارج متسلّط، تشكّل الحالة الإسرائيلية– الترامبية العدوانية وجهه الأكثر خطورة وبشاعة في المقبل من الأيام.