ما هو المشترك بين حملة إعلامية ضد ناشطين وإعلاميين دفاعًا عن المصارف، ومجموعة «جهاديين مسيحيّين» يعتدون على بارات في الجميزة، وشبكة من النوّاب تتخطّى الاصطفاف السياسي بحثًا عن رضى مموّلها، ومرافق يقتل أبًا في الشارع ويفلت من العقاب، ويمينية فاشية صاعدة تدمج بين ثقل الدم وخفة الأخلاق، ومقدّم برامج نجح في التملّق لمعظم مَن حكم هذه البلاد؟
ما يجمع بين كلّ تلك الأمور وكلّ هؤلاء الأشخاص، هو فردٌ واحد. إنّه الطفل المدلّل للنظام المصرفي المتهالك ولليمين الفاشيّ الصاعد، ذاك الطفل الأزعر الذي استدعاه النظام المصرفيّ ليحاول إنقاذ ما تبقى من القطاع في لحظة التفاوض المقبلة.
فبعد ثلاثة عقود من الزمن مثّل خلالها القطاع المصرفي في المخيلة اللبنانية العمود الفقري للاقتصاد ومصدر الوجاهة والاحترام، جاءت الأزمة لتفضح هذا القطاع لما هو عليه: تجمُّعٌ لمضاربين ماليّين وعقاريّين فاشلين، استبدلوا الخبرة بسياسة الشحادة على ظهر فوائد الدولة. لم يعد من الممكن تلميع صورة هذا القطاع، فتمّ استدعاء المصرفيّ الذي عُرف بالبلطجة منذ أن كان طفلاً في ملعب المدرسة، ريثما يفرض بعض الوهرة. لكن حتّى وهرة ما في…
الوريث البلا مَرْبى
كي تكون مصرفيًا ناجحًا في لبنان، لا يتطلّب الأمر الكثير من الخبرة أو الذكاء أو العمل. المطلوب الكثير من الغرور الذي لم يُعالَج مُبكرًا، وعائلة تملك مصرفًا يمكن أن ترثه، لكونك «الدكر». كان المكوِّنان متوفِّرَيْن في تشكيل شخصية الطفل المدلّل. لم تقدّم العائلة المصرف الذي سيشكّل حجر أساس مملكة هذه المنظومة وحسب، بل قدّمت أيضًا نموذج «الأزعر إبن العيلة»، هذا النوع من البلطجية الذين يعتبرون أنّ كلّ شيء مباحٌ لهم.
لم يشتهر الوريث بإدارته للمصرف الذي استلمه بعد عام على خروج عمّه منه. بل ذاعت شهرته بسبب اشتباهه في محاولة قتل في ملهى «لاميزون بلانش» في عام 2010، قبل أن ينجح في الإفلات من الملاحقة القانونية، لتتحوّل هذه الحادثة إلى نموذج لسياسة الإفلات من العقاب التي ستواكب مسيرته. فبعد 5 سنوات، عاد إسمه إلى الواجهة بعدما أقدم أحد مرافقيه على قتل المواطن جورج الريف بسبب إشكال مروري، فقيل أن حاول الطفل الأزعر إيّاه لمحاولة تهريب مرافقه من العدالة.
دخل الطفل الحيز العام من باب الزعرنة الواثقة بنفسها.
البلطجة الماليّة
كلُّ شيءٍ إذاً بات متاحاً للوريث الذي أصبح على رأس أحد أكبر المصارف في لبنان، مستفيداً من الهندسات المالية التي تشكّل الترجمة المالية لسياسة البلطجة والإفلات من العقاب. فكان قريبًا من رياض سلامة، وهندَس معه عملية ضمّ المصرف «اللبناني – الكندي» إلى مجموعة «سوسيتييه جنرال». ثمّ أصبح مصرفه ثالث مصرف يفاتح الحاكم بضرورة صياغة هندسات مخصّصة له لتحقيق أرباح كبيرة في عمليات فوريّة.
كرّت سبحة العمليات التي استفاد فيها الوريث المدلّل من علاقاته الملتبسة مع مراكز النفوذ، وخصوصاً حاكميّة مصرف لبنان، محوِّلًا المصرف إلى مغارة للعمليات غير المشروعة:
- تورّط المصرف- بعد الأزمة- في العمل في السوق السوداء، لشراء الدولار وشحنه للخارج، انطلاقًا من امتياز خاص أعطاه إياه رياض سلامة لشراء الدولار لمصلحة مصرف لبنان.
- فكّ التجميد عن وديعة بقيمة 254 مليار ليرة لبنانيّة، شهرًا قبل الانهيار، بعد سماح سلامة بذلك، مستفيداً من المعاملة التفضيليّة الخاصّة، فيما تحمّل مودعوه وسائر المودعين كلفة خسارة سعر الصرف لاحقًا.
- استفاد من قروض مصرف لبنان التي منحها سلامة للمصارف المفضلة لديه، والتي يشتبه باستعمالها لتهريب أموال النافذين إلى الخارج.
- استفاد من القروض المدعومة التي أعطاها مصرف لبنان للمصرفيين لتسهيل عمليات الاستحواذ على مصارف أخرى، ما أدّى إلى ورود إسمه في تقرير التدقيق الجنائي.
كلّ شيء إذاً مباحٌ للطفل المدلَّل الذي بات مقتنعاً أنّ العالم مَدينٌ له بمعاملة تفضيلية. فكيف لا يصدّق هذا الولد المغرور ذلك، وهو الذي أفلت من شتّى أنواع العقاب حتى الآن.
من وريث بلا مربى إلى عرّاب بلا مربى
تربّت أكثرية الطبقة السياسية والمالية اللبنانية على فيلم «العرّاب»، ولطالما طمح كلّ وريث في هذه الطبقة للتحوّل يومًا ما إلى «عرّاب». نشأ الطفل المدلّل ينتظر فرصته، وقد وفّرتها له الأزمة الاقتصادية. فبدأت أحلام المصرفي تكبر معه، وبدأ يرى نفسه كعرّابٍ لنظام جديد. بدأ يجمع السياسيين من كافة الأطراف، كمَن يجمع الطوابع، ويموّل حملاتهم الانتخابيّة في كل استحقاق. فهِم هؤلاء الدرس جيّداً، وباتوا يحاضرون خلال النقاشات الاقتصاديّة في المجلس النيابي، ويتدخّلون في عمل لجنة المال والموازنة دفاعًا عن مصالح اللوبي المصرفي. كان استثمارًا رابحاً لعرّاب لوبي المصارف، حيث لعب أولئك الدُّمَى دوراً كبيرًا في إسقاط خطّة التعافي المالي عام 2020، وفرملة التفاوض مع صندوق النقد الدولي يومها.
لكنّ العرّاب يدرك أنّه يحتاج إلى واجهة من «الاحترام الاجتماعي» الذي لا تسحقّه زعرناته. فبدأ يستثمر بالفنون والرياضة والأعمال الخيرية: وضعُ حجر أساس من هنا، تمويلُ فيلمٍ من هناك، إضاءةُ شارع من هنالك. بدا الطفل وكأنّه يكبر، مستفيداً من استثماره الأنجح: القطاع الإعلامي المأزوم. فعمل العرّاب على إنشاء إمبراطوريّة إعلاميّة: أسّس Ici Beyrouth، واشترى نداء الوطن (بعد تسريح موظفي قسم الاقتصاد، الذي عارض سابقاً التوجهات التي ينادي بها اللوبي المصرفي)، وموّل برنامج الأخوين غانم على محطة الأم. تي. في.، إضافةً إلى مجموعة من الدكاكين الإعلاميّة الصغيرة. داخل هذه الإمبراطوريّة الإعلاميّة، وجد العرّاب المتحدّث باسمه، الإعلاميّ الذي نجح هو الآخر بالإفلات من أيّ محاسبة على تملّقه المستمرّ للسلطة، من زمن الوصاية السورية إلى زمن الحرب الإسرائيلية.
بات للعرّاب أخطبوطُه السياسي والإعلامي، يستخدمه بمعاركه السياسية والاقتصادية، كما يجري الآن في معركة حاكميّة مصرف لبنان.
مهما كبر العرّاب، يبقى فاشيًّا صغيرًا
كعرّابٍ لنظام الأزمة، بات الطفل المدلّل في صُلب معظم محاولات النظام لإعادة ترميم نفسه. وهنا عاد العرّاب إلى جذوره العائلية المتطرّفة، لكي يطلق من خلال مؤسساته الإعلامية حملات كراهية، يراد منها إزاحة المسؤولية عن المصارف وتحويل فئات مهمَّشة إلى كبش محرقة. فصعد نجم جنود الرب، وهم تجمّع لزعران حيّ استخدموا الدين غطاءً للاعتداء على مجتمع الميم-عين واللاجئين السوريين. فكان هو وراءهم، مستعينًا بخطاب التطرّف المسيحي لحماية السلبطة المصرفية.
إلى جانب العرّاب، وقفت محطة الأم. تي. في. لتُطلِق أشنع حملات الكراهية، أكان ضد اللاجئين أو الشيعة أو «التغييرين»، واستنفدت كل إمكانياتها دفاعًا عن مصالح المصارف. ولم تجد اليوم إلّا إعادة تدوير أحد أقدم خطابات المؤامرة المعادية للسامية، أي صورة اليهودي المموّل للاضطرابات الاجتماعية، لكي تحارب بعض المنصات والناشطين. من عُمق العَفَن الفاشي، خرج مَوْتُورُو الـ«سوسيتييه جنرال» لكي يستفرغوا عنصريّتهم دفاعًا عن أرباح مموّليهم.
ربّما اعتقد الطفل المدلّل أنّ وقته قد آن. فالمراهقة عادت إلى الموضة، وهي تحكم العالم اليوم من البيت الأبيض. فالخليط بين السياسات الفاحشة لمصلحة الأثرياء والعنصرية ضد الأقليات، بات يشكّل برنامج الحكم للفاشية الصاعدة. وها هو الطفل المدلّل يزهو بنفسه في وسط هذا الصعود.
جوعٌ عتيق
مهما كان العالم متساهلًا مع الطفل المدلّل، فهذا لم يشفِ جوعه للسلطة والوجاهة. فهو قادم من قبو «الميزون بلانش» لينقذ نظامه المصرفي من ورطته المالية والأخلاقية. فأبناء هذا النظام الذين نُبِذوا من المدينة في خضمّ الأزمة، لم يهضموا هذا العقاب، وهم الذين لا يعاقَبون. حاول أحدهم استرجاع حقه بتملّك المدينة، فبدأ يُرسل من يعتدي بالضرب على صحافيّين وناشطين، قبل أنّ يتمّ إسقاطه بالانتخابات. فتمّ استدعاء الطفل المدلّل، ومعه الإعلامي المرموق ومرتزقة من السياسيين وجنود الرب والصحافيين المتكسّبين، ريثما ينجحون بكسر أيّ إرادة إصلاحية لدى الحكومة الجديدة.
لم ينتبه الطفل المدلّل أنّ الأمور قد تغيّرت. فهو يريد من الناس تكريسه عرّاباً عليهم بعد أن ساهم في إفلاسهم. لكنّنا لسنا هنا على مائدة غداء العائلة، أو في زواريب حيّه في الأشرفية، أو في أروقة إحدى شركاته. هذه المرّة، لن ينجح الطفل الأزعر، مهما صرخ وبكى وهدّد. هذه المرّة، آن لهذا الطفل أن يتأدّب.