تعليق هندسة الانهيار الاقتصادي
هيئة تحرير ميغافون

هَلْوَسات الـMTV وجوع المصارف 

27 آذار 2025

حملة وإخبار ونيابة عامّة

كسائر حملات التشهير والترهيب التي شاهدناها في الماضي، غالباً ما تكون البداية أقرب إلى مزحة، مزحة سمجة أكثر ممّا هي مزعجة. والمزحة بدأت مع إخبار قدّمه ثلاثة محامين انتهت وظيفتهم الأساسية مع تقديم هذا الإخبار الذي يتّهم «ميغافون» و«درج» بعدد من الخطايا الآتية من معجم الأنظمة القمعية: النيل من مكانة الدولة المالية، زعزعة الثقة بمتانة النقد الوطني، التحريض على سحب الأموال، النيل من هيبة الدولة، الاشتراك بمؤامرة، إضعاف الشعور القومي، تمويل حملات لضرب الثقة بالاقتصاد اللبناني.

بدا الأمر وكأنّه نكتة لا تحتاج إلى ردّ أو حتى إلى الأخذ على محمل الجدّ، حتى بدأت تتّضح معالم الحملة الأوسع. فبدأ الكلام ذاته يتكرّر على عدد من الحسابات على شتّى شبكات التواصل الاجتماعي، البعض منها وهميّ والبعض حديث الولادة لغايات تحريضية بحتة والبعض الآخر تابع لمؤسسات إعلامية تدور في فلك المصارف وإبنها المدلّل انطون الصحناوي. حملات التشهير لا تشتغل بالإقناع والمحاججة، بل بالتكرار، حتى تحوّل أيّ خرافة مكرّرة إلى حقيقة أو على الأقلّ إلى تشكيك.

في تاريخ 21/ 03/ 2025، دخل مصنع المؤامرات والهلوسات في النقّاش على الخطّ، لإعلانها حملة ترهيب وتشهير رسمية. فبثّت محطة الـMTV تقريرًا عن ميغافون تفضح فيه «المؤامرة» المستورة وراء انهيار الاقتصاد اللبناني في ما يشبه الهلوسة الإعلامية. وفي نبرة تخلط بين الغضب والردح المعتادة عند هذه المحطة، استفرغ التقرير عددًا من الكلمات التي أراد منها أن تكون فضيحة: ملايين الدولارات، سوروس، تخريب المجتمع، ملياردير أجنبي، تمويل خارجي، منصّات مشبوهة، مؤامرات… باتت القصة واضحة من النقّاش: هناك شخص يريد تخريب لبنان، وقرّر تمويل كل مَن يشاركه هذا الهدف، ولا أحد يقف في وجههم إلّا مصارفنا الوطنية القيّمة على هيبة الدولة والشعور القومي. 

أن تقرّر الـMTV أن تُهلوِس، فهذه مشكلتها. وأن يقرّر عدد من الإعلاميين المأجورين التطبيل للمصارف، فهذه شغلتهم. لكنّ الحملة التي بدأت مع إخبار، وصلت إلى القضاء. أو على الأقل، هذا ما اكتشفناه من المحطة المموَّلة وطنياً والساهرة على متانة النقد الوطني. فتمّ تحويل الإخبار الخرافي من قبل مدّعي عام التمييز القاضي جمال الحجّار إلى النائب العام الاستئنافي في بيروت زياد أبي حيدر. في بلد مصارفه مفلسة وودائع مواطنيه محجوزة وشبهات الفساد تحوم فوق أصحاب المصارف، لم تجد النيابة العامة الماليّة ملفّاً تفتحه إلّا البحث في مؤامرة النقّاش الكونية والتحرّك ضد منصّتين إعلاميّتين مستقلّتين. 

لم ينهَر الاقتصاد اللبناني، إذاً، جرّاء السياسات النقدية والهندسات المالية وتهريب الأموال والصفقات بين المصارف والحاكمية. انهار جرّاء تويت وبوست ومقال، موّلهم سوروس لأنّه كان زهقاناً يومًا ما في صيف الـ2019. مرّة جديدة، تنقذ الـMTV لبنان. 


مصارف تحتاج إلى بُعبُع

لهذه الحملة سياقٌ سياسيّ بدأت تتّضح معالمه. 

  1. هي جزء من حملة المصارف التي أوصلت مرشّحها كريم سعيد إلى حاكمية مصرف لبنان، بعد نجاحها في التسلّل إلى قصر بعبدا وضرب خطاب القسم، وفرضت حاكم جديد يراعي مصالح المصارف المأزومة التي ما زالت ترفض تحمّل أدنى المسؤوليات حيال الأزمة. فأطلقت وسائلَها الإعلامية وأدواتِها المأجورة لإسكات الأصوات المعترضة، ونجحت في إسقاط بعضها، تحت وطأة الابتزاز الإعلامي ومحاولة فرض رواية جديدة عن الانهيار، تظهر فيها المصارف كالحامي الأخير عن البلاد في وجه الخارج، خاصةً مع التفاوض المقبل مع صندوق النقد الدولي.
  2. لكن هناك سياق أوسع لهذه الحملة، يتجاوز المنصات الإعلامية المستقلة، ليطال الحكومة الجديدة، أو على الأقلّ، الشقّ الإصلاحي منها. فليس سرًا أنّ الـMTV وبعض القوى السياسية التي تمثلها، لم تكن تريد نواف سلام، بل حاربته ووزراءه بسلاحها المفضّل، أي التحريض والترهيب. فيُراد من الحملة تذكير من يريد الإصلاح بأنّ هناك حدودًا واضحة لما يمكن القيام به، حدوداً تحدّدها رغبات المصارف وبعض القوى السياسية التي لم تعد تخفي رغبتها بالسيطرة على البلاد، وذلك بعد انهيار خصمها السياسي.
  3. بعيدًا عن سعيد والحكومة، تأتي هذه الحملة في سياق التحضير للانتخابات النيابية المقبلة. فما كان يُسمّى بـ«المعارضة» في المرحلة الفائتة لم يعُد كذلك، والتناقضات التي كانت تحويها هذه التسمية انفجرت، ليتّضح أنّ مكونًا كبيرًا من «المعارضين» السابقين لم يكونوا إلّا مشروع سلطة إلغائياً، يرون هدفهم المستقبلي في القضاء على أيّ تهديد عليهم وعلى مشروعهم، سواء كان مصدره إصلاحيّين أو تغييريّين أو ببساطة أناساً قد يعارضون فكرة أنّ المصارف بريئة من الانهيار. 

من أجل تحقيق هذه الأهداف، وتماشيًا مع الخطاب العالمي الفاشي، بدأت فبركة «بُعبُع» جديد، يحاول إعلام المصارف وبوق النقّاش التسويق له، بعد انهيار الاصطفاف القائم حول سلاح حزب الله، بُعبُع يدعى «اليسار العالمي». فكيف يمكن إعادة تدوير المصارف من كونها المُتَسَبِّب بأسوأ أزمة مالية شهدتها البلاد والعائق الأساسي أمام أي إصلاح، إلا من خلال محاولة تقديمها كقلعة الصمود في وجه هجمة يسارية عالمية تريد الانقضاض على الاقتصاد اللبناني؟ مصارفنا بخطر، فهُبَّ يا شعب لبنان دفاعًا عنها في مواجهة اليسار العالمي القادم من الخارج. 


كيف نرّد على هَلْوَسَة؟

كيف نردّ على هذه الهلوسات والخرافات، أكان في التقرير التي بثّته الـMTV أو الحملة الموجّهة ضد بعبع لا وجود له خارج رأس ميشال المر وأنطون الصحناوي وبعض أصدقائهم في المصارف؟ 

الردّ في عالم الصحافة غالبًا ما يكون لتصويب بعض الوقائع بسبب عدم دقّتها أو الردّ على بعض الاستنتاجات. لكنّ ردّاً كهذا ينطلق من فرضية أنّ الطرف المقابل يتمتّع بأدنى شروط الأخلاق والمهنية. لكن إذا كان الطرف المقابل يعاني من هلوَسَة إعلاميّة يحاول من خلالها أن يستبدل قلّةَ مهنيّته وكسله الاستقصائي، معطوفَيْن على جنون عظمة يحرّكه جوعٌ لامحدود للسلطة، فماذا تقول له غير: انضبّ بقى.

فلو كانت الـMTV  تبحث عن الحقيقة، ما كان الموضوع يحتاج إلى الكثير من الخبرة والتحقيق. لكن حتى هذا الحدّ الأدنى من العمل الاستقصائي لم تقُم به الـMTV، فهي مؤسسة معتادة على الردح مدفوع الأجر، والذي لا يحتاج إلى صحافيين. 

كان يمكن بسهولة أن تكتشف الـMTV ملكية ميغافون الحالية بدلاً من الأكاذيب والأخطاء التي ساقتها، فقط لو جمعت كامل قدرات فريقها الاستقصائي وضغطت على الرابط هذا. لكن ربّما كان هذا يتطلّب مجهودًا كبيرًا لا يتماشى مع السياسة التحريرية للمحطة. كما لم تكن هناك حاجة للفريق الاستقصائي العابر للدول والقارّات الذي استعانت به الـMTV كما ذكرت، للكشف عن آليات تمويل ميغافون. هناك رابط آخر كان عليهم الضغط عليه، ليتعرّفوا عن الجهات المانحة التي تموّل ميغافون، والتي يفوق عددُها العشرة. لو فعلوا ذلك، لكانوا تعلموا أيضًا عن سياستنا حيال التمويل، القائمة على عدم حصرية الدعم المالي بجهة مانحة واحدة، والحفاظ على نسب متساوية من ميزانيتنا السنويّة لكلّ منحة، ورفض أي منحة تتدخّل في سياستنا التحريرية. لكنّ الدخول إلى رابطَيْن وقراءتهما هو عملٌ شاقّ وعصيّ على وحدة الاستقصاء في النقّاش والقيّمين عليها. 

بدأت ميغافون في عام 2017 كعمل تطوّعي من قبل عشرات الصحافيين والمصمّمين والمصوّرين، دامت لسنوات قبل مأسسة المنصّة. وتماشت مع إرثٍ صحفيّ عريق في هذا البلد، دفع الصحافيون ثمنه بدمائهم: فضح ومحاسبة كلّ شكل من أشكال التسلّط والاستغلال، والانحياز الكامل للمهمّشين والمظلومين، أينما كانوا، ومهما اشتدّت الهجمات عليهم. في لحظة ما، كانت الـMTV في هذا التراث، لما تمّ إقفالها من قبل النظام الأمني، بالتُّهَم ذاتها التي تسوّقها اليوم ضد منصّات مستقلّة. لقد دخلنا اليوم مرحلة «اكتشاف» أن معارضي البارحة ليسوا إلّا مشاريع تسلّط مستقبلية. 


معركتكم ضدّنا تُشرّفنا

لم نعارض سلطات الماضي مع تهديداتها لكي نرضخ لمشاريع التسلّط الجديدة. ولم نخُض معركةً ضدّ السلاح والمصارف، لكي نرضخ لطرف على حساب آخر. ولم نطالب بالإصلاح، لكي نقبل بأنّ الإصلاح ينتهي باستبدال فاسد بفاسد آخر.

تأتي هذه الحملة ومن ورائها المعركة حول حاكمية مصرف لبنان كأول تحدٍّ لـ«عهد الإصلاح». والإشارات حتى الآن غير مشجعة. فأنْ يكون الحاكم الأول لمصرف لبنان بعد رياض سلامة مدعومًا من المصارف، وأن يعود السجال الإعلامي حول الدفاع عن مصالح المصارف، فهذا يشير إلى أنّ «عهد الإصلاح» لم يبدأ بعد أو ربّما دخل مرحلة التفاوض والتراجع مع قوى الأمر الواقع الجديدة. 

كذلك من المريب أن تتحرّك النيابة العامة في وجه الإعلام، بناءً على خرافات كهذه. وهذه ليست المرة الأولى التي تُستعمَل فيها النيابة العامة في وجه الإعلام، وهي ممارسة مرفوضة لكونها محاولة للضغط على الإعلاميين. كما من المستغرب أن يكون وزير الإعلام غائبًا عن استغلال القضاء لقمع الحريّات الإعلامية. 

المسألة اليوم لا تتعلّق بمنصّتَيْن مستقلّتَيْن تواجهان حملة تشهير وتخويف. المسألة اليوم هي إسكات أيّ شاهد أو معترض على جريمة إفقار اللبنانيين وإفلاس الدولة واستيلاء المجرمين على ما تبقّى من فتات.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
قيل هذا الأسبوع 23 - 29 آذار 2025
بعبع الصين وروسيا: أميركا لا تمزح بشأن ضمّ غرينلاند
الحداد المؤجَّل
الخارجية الأميركية وقصف الضاحية: نقف بجانب إسرائيل
الكريكت في بيروت
29-03-2025
تقرير
الكريكت في بيروت
الاحتلال دمّر 600 منزل في جنين