قضية الأسبوع ما العمل؟
ميغافون ㅤ

6 ملفّات تحدّد طبيعة العهد الجديد

17 كانون الثاني 2025

القطيعة مع الماضي

شكّل انتخاب رئيس للجمهورية ومن ثمّ تكليف رئيس للوزراء صدمة إيجابية في البلاد. من جهة، هناك صورة الرئيسين وتاريخهما، ومن جهة أخرى، ثمّة إحساس دفين بأنّ هناك تحوّلًا ما كسر الشلل المسيطر على مؤسسات البلد. قدّم خطاب القسم تشخيصًا دقيقًا لمعالم الأزمة الراهنة، وإن بقي في العموميات، كما أكّدت تصريحات رئيس الحكومة المنحى الإصلاحي للعهد الجديد. 

لكنّ الصدمات الإيجابية لا تكفي لوحدها، والتجارب المخيبة للآمال مع «شخصيات إصلاحية» كفيلة لكي تفرض بعضًا من التروّي على أكثر المتحمّسين للإصلاح. فالعهد ينطلق في لحظة تخبّط إقليمي، وعلى أرض محروقة جراء الحروب والانهيارات، وفي ظل إعادة تشكّل سياسي داخلي. وهذا ما ينذر بصعوبات وتحدّيات ستواجه حكومة لن يطول عمرها أكثر من سنة ونصف قبل الانتخابات النيابية القادمة. رغم ذلك، هناك مسؤولية كبيرة على عاتق أوّل «ثنائي إصلاحي» يصل إلى الحكم منذ انتهاء الحرب الأهلية. فالأوليّات واضحة، من إعادة إعمار المناطق المتضرّرة جراء العدوان الإسرائيلي الأخير، إلى إطلاق عملية الإصلاح المالي والاقتصادي، مرورًا بالعمل لدرء الشرخ السياسي الحالي، وغيرها من الأمور. 

لكنّ هناك أولويّة سياسية، ضمنية، للعهد الجديد، وهي إطلاق سيرورة سياسية جديدة، تعيد تشكيل الاصطفافات السياسية حول معارك الإصلاح والمصالح، من خلال إشراك الرأي العام كحاضنة شعبية للعهد بهدف إعطاء القوى التغييرية فرصة في الانتخابات القادمة. 

سنة ونصف تفصلنا عن تلك الانتخابات التي ستُخاض جزئيًا حول شعارات العهد وممارسته. ولتحديد الموقف من العهد، هناك بعض الملفات والقضايا التي تشكل معيارًا أساسياً لتحديد مدى جديّة العهد في خوض معركة الإصلاح ومواجهة المصالح المتجذّرة في النظام. هذه الملفات ليست برنامجاً كاملاً، وقد لا تشكّل كلها «أولويّة» في المفهوم السياسي المباشر، ولكنّها تقدّم إشارة عن جديّة العهد الجديد ومفهومه للإصلاح. 


1. الأزمة الماليّة ومواجهة مصالحها المتجذّرة

عهدي أن لا أتهاون في حماية أموال المودعين
— الرئيس جوزاف عون، خطاب القسم

ستحدّد كيفية التعاطي مع الأزمة الاقتصادية والمالية مدى جديّة العهد في مواجهة المصالح المالية المتجذّرة في النظام من جهة، وقدرته على فرض خيارات غير شعبية، من جهة أخرى. حتّى اللحظة، اقتصر الكلام في خطابيْ قسم رئيس الجمهوريّة وتكليف رئيس الحكومة حول الملفّات الاقتصاديّة الإشكاليّة على بعض الوعود العموميّة والفضفاضة، ومنها على سبيل المثال الوعود بحفظ حقوق المودعين وإعادة هيكلة القطاع العام، وبناء الاقتصاد المنتج وخلق فرص العمل للشباب، وغيرها من العبارات التي لا تحدّد خيارات حاسمة في المسائل السجاليّة والحسّاسة. 

قد يكون هذا الاتجاه مفهوماً في بداية العهد. غير أنّ الرئيسَيْن سيكونان قريبًا أمام امتحان الانتقال من الشعارات والعناوين العامّة إلى الطروحات العمليّة والواقعيّة، ومعها سيكونان أمام الأسئلة الكبرى: هل سيتمكّنان من تحدّي المصالح المتجذّرة في القطاع المصرفي، عبر استكمال عمليّة التدقيق في أرقام وحسابات القطاع؟ وهل يمكن وضع معايير لتوزيع الخسائر، بما يحمّل رساميل أصحاب المصارف الشريحة الأولى من هذه الخسائر؟ 

سيكون الرئيسان أمام معارك كبرى إن قرّرا تحدّي هذه المصالح. غير أنّ التحدّي الأهم، يكمن في أنّ بعض الإصلاحات الماليّة المطلوبة قد لا يكون شعبيًا، كحال استحقاق تصحيح أجور العاملين في القطاع العام، وتأمين الموارد الضريبيّة المطلوبة لذلك، لتمكين الحكومة من استقطاب الكفاءات في مرحلة التعيينات. كما يتطلّب بعضها الآخر إعادة النظر في طبيعة السياسة الماليّة القائمة، بما في ذلك تخطّي مرحلة التقشّف الحادّ في الإنفاق العام. وهذا ما يفترض أن تتمّ معالجته عند إعداد موازنة العام الحالي.


2. الشرخ المجتمعي وإعادة ابتكار عقد اجتماعي جديد

عهدي أن نعيد إعمار ما هدمه العدوان الاسرائيلي في الجنوب والبقاع والضاحية وجميع أنحاء لبنان بشفافية، وبإيمان أن شهداءنا هم روح عزيمتنا، وأن اسرانا هم امانة في اعناقنا.
— الرئيس جوزاف عون، خطاب القسم

لم ينطلق العهد بعد حتّى انفجرت الأزمة مع الثنائي الشيعي الذي اعتبر تكليف نواف سلام لرئاسة الحكومة «طعنًا بالظهر»، وذلك بعدما عاند انتخاب جوزاف عون لرئاسة الجمهورية. ورغم الأولويّة التي أُعطيَت لإعادة الإعمار، وتطمينات الرئيس المكلّف للثنائي، تمسّك ممثّلو الشيعة بمفهوم تعطيليّ لـ«الميثاقية» كورقة ضغط في وجه تشكيل أي حكومة. هذا الصدام ليس إلّا ظاهر الخلاف. أمّا مضمونه، فمرتبط بالتحوّلات الضخمة التي طرأت على السياسة اللبنانية مع الحرب الإسرائيلية ومن ثمّ سقوط نظام الأسد، والتي أضعفت حزب الله، ومن خلاله الدور الشيعي في النظام اللبناني. فرغم التطمينات والوعود بالإعمار، كان واضحًا أيضًا تمسّك رئيس الجمهورية باحتكار السلاح بيد الدولة وبسط سلطتها على المعابر والجنوب والمربعات الأمنية، ما يعتبره حزب الله تعدّياً على «صلاحياته». 

ستحدّد كيفية التعاطي مع هذه المسألة المنحى السياسي للعهد الجديد وقدرته على الخروج من المفاهيم السائدة في السياسة اللبنانية والاصطفافات الإقليمية لتفادي انفجار سياسي داخلي. فبين المتحمّسين على القضاء على حزب الله، وموقف الثنائي المعاند لأي تنازلات للواقع الجديد، سيجد الرئيسان أنفسهما أمام معضلة تتطلب إعادة ابتكار منطق مختلف لمواجهة مسألة التمثيل الطائفي، كما ستتطلب قدرة على مواجهة الإملاءات الخارجية حمايةً للسلم الأهلي الداخلي. بكلام آخر، العهد أمام مهمة إعادة صياغة معالم عقد اجتماعي جديد.


3. الانتخابات ومهمّة تشكيل كتلة إصلاحيّة

هي أزمة حكم وحكّام وعدم تطبيق الأنظمة أو سوء تطبيقها وتفسيرها وصياغتها
— الرئيس جوزاف عون، خطاب القسم

ليس العقد الاجتماعي بين ممثّلي الطوائف وحسب، بل يتطلّب إطلاق سيرورة مختلفة تعيد تشكيل مبدأ التمثيل في مجتمعنا. من هنا، تكمن أهمية الانتخابات القادمة وقانونها. أضف إلى ذلك أن أيّ عملية إصلاحية تبدو شبه مستحيلة في ظل مجلس نيابي يهيمن عليه «حزب المصارف» الذي يتجاوز الكتل النيابية التقليدية، وتُقيده مصالح الأحزاب الرافضة لأي إصلاح بنيوي. في هذا السياق، يصبح احترام موعد الانتخابات النيابية في أيار 2026 شرطًا أساسياً لإطلاق سيرورة سياسية جديدة. لكنّ إجراء هذه الانتخابات وحده لا يكفي؛ إذ يستحيل إنتاج مجلس نيابي إصلاحي عبر قانون انتخابي مفصّل على قياس مصالح المنظومة القديمة. من هنا، تبرز الحاجة إلى قانون جديد يلتزم بالإصلاحات التي لطالما طالبت بها المنظمات الحقوقية، لضمان وجود كتلة إصلاحية قادرة على تحقيق التغيير المطلوب. ومن ضمن هذه الإصلاحات، تخفيض سنّ الإقتراع إلى 18 سنة، واعتماد الـ megacenters لرفع نسبة المشاركة وتحسين شروط مشاركة المغتربين في الانتخابات، وضبط الإنفاق الانتخابي لضمان نزاهة العملية الانتخابية.

أما الانتخابات البلدية التي تم تأجيلها لثلاث سنوات، فهي استحقاق لا يقلّ أهمية. هذه الانتخابات هي فرصة لتحقيق نماذج حكم إصلاحي ناجحة على مستوى الإدارة المحلية، خاصةً في مرحلة تحتاج فيها البلاد إلى مبادرات عملية للنهوض. لكنّ استمرار الاعتماد على قانون انتخابي بلدي قائم على مبدأ الأكثرية يعيق أي تمثيل حقيقي للأصوات الاعتراضية في المدن والبلدات. من هنا، تصبح الحاجة إلى تعديل هذا القانون وتطبيق مبدأ النسبية أمرًا ملحًا لضمان تمثيل عادل وإجراء الانتخابات في موعدها، سواء على المستوى النيابي أو البلدي. ستحدّد كيفية التعاطي مع مسألة الانتخابات مدى جديّة العهد الجديد في إطلاق سيرورة سياسية جديدة، تعيد تشكيل الحقل السياسي ديموقراطيًا.


4. التحقيق في جريمة المرفأ والعدالة المعلّقة

نعمل بكلّ طاقاتنا لإنصاف ضحايا انفجار مرفأ بيروت ولتحقيق العدالة لهم ولذويهم
— الرئيس المكلّف نواف سلام

لم ينتظر المحقّق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق بيطار، الكثير قبل أن يعيد إحياء التحقيق في الجريمة، الذي تمّت عرقلته ومحاصرته من قبل المشتبه بهم. فيجد العهد الجديد نفسه أمام مهمة تحقيق العدالة والمحاسبة، في وجه الاعتراضات السياسية والتهديدات الأمنية. لكنّ الدفاع عن هذا التحقيق ليس مجرّد واجب لإنصاف آلاف الضحايا والتأكيد على استقلالية القضاء في وجه التدخلات السياسية، بل إنّ كيفيّة التعاطي مع هذا الملف تحدّد موقف العهد الجديد من مسألة العدالة المعلّقة في لبنان، منذ انتهاء الحرب الأهلية وقانون العفو العام الذي شرّع فكرة تأجيل العدالة بإسم التوازنات السياسية.  

كما أنّ هذا الملف يشكّل مدخلًا لإصلاح القضاء، الذي شكّل أحد الشعارات الأساسية في خطاب القسم. فلإتمام العدالة في هذا الملف، يتوجّب على العهد الجديد: أولاً، إجراء التعيينات القضائية كاملةً وملء الشغور في مجلس القضاء الأعلى ورئاسات محكمة التمييز. ثانياً، إقرار التشريعات اللازمة للإصلاح القضائي، من خلال إصلاحات كاملة لقانون استقلالية القضاء وإجراء الإصلاحات الأخرى مثل منع عرقلة التحقيقات من خلال «التعسّف باستخدام الحق»، وإسقاط الحصانات كاملةً عن كل المدّعى عليهم أو المشتبه فيهم للمثول أمام المحقّق العدلي. ثالثاً، محاسبة كل المسؤولين في الدولة اللبنانية والمؤسسات المختلفة عن عرقلة التحقيق، على مدى 3 أعوام، من قضاة ووزراء وضباط أمنيين.


5. الحريّات السياسيّة من دون «ولكن»

أن نبني شراكات استراتيجية مع دول المشرق، والخليج العربي وشمال إفريقيا، وأن نمنع أيّ تآمُر على أنظمتها وسيادتها، وأن نمارس سياسة الحياد الإيجابي، وألا نصدّر لها سوى أفضل ما لدينا من منتوجات وصناعات…
— الرئيس جوزاف عون، خطاب القسم

من الطبيعي التخوّف على الحريّات السياسية والإعلامية مع وصول قائد للجيش إلى سدّة الحكم، انطلاقًا من تجارب سابقة، عوّض فيها القائد الذي بات رئيسًا ضعفه السياسي بقبضة أمنية. لكنّ الخطر على الحريّات السياسية والإعلامية لا يأتي فقط من الداخل الممتعض من النقد، بل أيضًا من خارج بات يصدّر سياساته القمعية إلى دول الجوار مقابل دعمه المالي. وقد جاء انتخاب عون بعد سابقة ترحيل معارض مصري إلى الإمارات، ما يُنذر مجدّداً بقمع في الداخل لإرضاء المموّل الخارجي. 

الدفاع عن الحريات السياسية والإعلامية ليس خدمة يقدّمها العهد لمجتمعه السياسي. إنّه واجب، وقد يشكّل العلامة الفارقة للبنان في محيط تقلّبت فيه الأيديولوجيات ولكنّه بقي قمعياً. ستحدّد كيفية التعاطي مع هذا الملف موقف العهد الجديد من طبيعة المجتمع السياسي الذي يريد العمل معه وحدود النقد الذي يتقبّله. 


6. الحريّات الفرديّة ومواجهة نظام الكراهية

أن امارس صلاحيات رئيس الجمهورية كاملة كحكم عادل بين المؤسسات هدفه حماية قدسيّة الحريّات الفردية والجماعية التي هي جوهر الكيان اللبناني.
— الرئيس جوزاف عون، خطاب القسم

لكنّ الحريّات في لبنان لا تُقمع فقط من قبل مؤسسات سياسية أو مصالح خارجية. هناك قمع اجتماعي، ينكبّ دوريًا على الأكثر تهميشًا في المجتمع، كما شهدناه قبل السابع من أكتوبر، في حفلة الجنون الاجتماعي التي طالت مجتمع الميم-عين، ومن ثم النازحين السوريين. استُعمِل سلاح «غضب الشارع» لمواجهة الاختلاف في المجتمع والضغط على أيّ خروج عن المعيار السائد، كما شكّل محاولة للنظام للتهرّب من مسؤولياته حيال الانهيار من خلال خلق كبش فداء يمكن أن يمتصّ الغضب الكامن في المجتمع. 

غالبًا ما يواجَه من يرفع شعار «حق الاختلاف» بأنّ مطالب كهذه تفرّق ولا تجمع في لحظة يحتاج العهد فيها لأكبر مروحة من الدعم، مع المطالبة بتأجيل هذه الشعارات لأجل غير مسمّى. لكنّ الدفاع عن «حق الاختلاف» ليس هديّةً من النظام، بل هو أساس الرؤية الاجتماعية التي تسمح بإرساء مجتمع أكثر انفتاحًا وتقبّلًا وسلميّةً. ستحدّد كيفية التعاطي مع هذا الملف موقف العهد الجديد من مسألة الاختلاف وحدودها، وقدرته على استعمال سلطته لمواجهة سلطات الأمر الواقع والنظام الأخلاقي السائد. 


الإصلاح ليس عمليةً تقنيةً، مهما أرادها منظّرو «اللاسياسة» أن تبدو كذلك. هي عملية سياسية بامتياز، هدفها الضمني إطلاق سيرورة سياسية جديدة، تغيّر شروط اللعبة التي أنتجت الأزمة، وإلّا فتنتهي كتصحيحات سطحية للنظام ذاته. للعهد الجديد فرصة، محدودة بالزمن، لإرساء عملية سياسية تعيد إنتاج أسس السياسة وحدود الممكن والمقبول فيها.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
قاسم: لن يتمكّن أحد من إقصائنا عن السياسة الداخلية 
اتفاق لإنهاء هجوم السلطة الفلسطينية على مخيّم جنين 
الإفراج عن 737 أسيراً فلسطينيّاً في المرحلة الأولى من صفقة غزّة 
الحكومة الإسرائيلية توافق على صفقة غزّة
حدث اليوم - الجمعة 17 كانون الثاني 2025
17-01-2025
أخبار
حدث اليوم - الجمعة 17 كانون الثاني 2025
قضية الأسبوع

6 ملفّات تحدّد طبيعة العهد الجديد

ميغافون ㅤ