نُحبّ الفقر في مجتمعنا. نَحتفي به. نحبّه، لا كواقع، بل كصورة، كمشهد. مشهدٌ يملك ما يكفي من السلطة لحجب الواقع.
خلال الانهيار بالأخصّ، تظهر اللامساواة بفداحة. تنتشر «مظاهر» الفقر. لكنّ طبيعة الاقتصاد نفسها، وأدواتها- ضمناً السوشل ميديا، تحرص على تحويل جرائم مثل الفقر إلى ظاهرة، يتفاعل معها المجتمع ضمن قناة التجميل- التفريغ- التطبيع.
هنا، مشرّدٌ يبيع كتباً تحت جسر الفيات.
طفلٌ يجلس على حافة مستوعب نفايات، يُفلفش مجلّةً.
بائعُ كعكٍ لا جبنَ لديه ليكفي أقراص السمسم التي يبيعها في البرد.
سريعاً، تجد هذه المشاهد حَيّزاً على مواقع التواصل الاجتماعي. نعم، تحويلها إلى ترند أتى بمنفعة على أفرادها، عبر مساعداتٍ خَيريّة، غالباً ما تكون مشروطة باعتبارهم مجرّد «أفراد»، صادف أنّهم فقراء. لكن الإشكالية في مكانٍ آخر.
يعيش تحت الجسر وبين الكتب... مشرّد برتبة «مثقّف»!
هكذا عنونت جريدة «النهار» مقالها عن محمد المغربي، المشرّد تحت جسر الفيات. زاره وزير الثقافة (كونه يبيع كتباً)، وأهداه: المزيد من الكتب! ثم أخذ معه صوراً تذكاريةً، معتبراً أنّ المغربي يأبى إلّا أن يُمارس الثقافة بأبهى تجلياتها حتى في أحلك الظروف العامة والشخصية.
هنا يأتي التعاطف مع الفقر ربطاً بالثقافة، وبلبنان الحلم، المثقّف، الـ أحّا. واو، ما أجمله المُشرّد المثقّف! أمّا المُشرّد الذي يختار النوم تحت الجسر بلا ثقافة، فهو قبيح، ومن علامات تدهور المجتمع وانحطاطه.
بالمنطق نفسه، ما أجمله الولد الذي يقرأ على حافة المستوعب. هو جميل إذ حمل مجلّة، لكنّه، لو اختار لمّ التنك فحسب، فهو قبيحٌ تشغّله مافيات بَيع الخردة.
هذا الشكل الأكثر فداحة لمنطق تجميل الفقر، والذي ينتج عنه منطق «إباحيّة الفقر». يصبح الفقر مادّةً نتهيّج عليها على مواقع التواصل الاجتماعي، ونستجدي الاستعطاف على ظهرها.
تعاطف كبير مع طفل سوري في لبنان يقرأ كتاباً داخل حاوية قمامة.
عنوان تقرير عن حسين. إباحيّة الفقر تستنجد بجملة من المعايير. فالتركيز هنا على أنّ حسين طفل. فلو كان بعمر الثلاثين، لما كان ليلقى الاستعطاف ذاته، حتّى ولو كان أشدّ فقراً. يخفّ الاستعطاف تلقائيّاً مع فقر الرجال البالغين، يزيد بالمقابل مع فقر المسنّين مثلاً، ولا سيّما المسنّات.
من ناحية أخرى، شُدّدَ على هوية الطفل. أمّا بائع الكتب، فهو مصريّ. ولو كان فلسطينيّاً، لكانت شريحة من اللبنانيّين قد حجبت تعاطفها معه، بل كانت لتحرّض ضدّه.
إباحيّة الفقر تحرّك مشاعرنا بمنطقٍ لا عقلاني، يجعلنا نتعاطى مع «شكل» الفقر، لا مضمونه.
بسبب [العاصفة] هبة… لاجئون بلبنان محاصرون في «الجحيم الأبيض»
عنوان تقرير عن المخيّمات السوريّة في لبنان بظلّ العاصفة الثلجية الأخيرة. من الروايات الأخرى لتفريغ الفقر من مضمونه، إعطاؤه طابعاً موسميّاً. خيمة اللاجئ أفدح مثال. فهي لا تنال حيّزاً إعلامياً إلّا خلال فصل الشتاء. في الربيع، تنتفي قباحة الخيمة. في الصيف، خلال الموسم السياحي، يصبح روّاد الخيَم «قنبلة موقوتة» في الإعلام، علينا ضبضبتها بعيداً عن نظر السائحين.
يستنجد النظام برواياتٍ تفرّغ الفقر من مضمونه. تُمَيّعه. تبحث عن كل شيء وعن لا شيء، فقط لئلّا تربط الفقر بطبيعة النظام نفسه. حتّى أنّ النظام نفسه يطلق بروباغندا لمحاربة الفقر، ويطلق قروضاً للعناية بالأسر الأكثر فقراً، من دون أن يقترب بأي لحظة من سبب الفقر. بل يطمح، كما نجح بالفعل، بأن يحوّل الفقر إلى مشهد.
الفقر كمشهد
في كل المجتمعات التي يُهَيمن عليها الاقتصاد بشكله الرأسمالي، أو ما مُسخَ عنه، يصبح كل ما يتعلّق بعلاقات الإنتاج (الفقر ضمناً) مجرّد مشهد.
نقل الفقر إلى المشهد يعفينا من مسؤولية التعاطي معه كواقع، ومع مسبّباته. بذلك، ينتهي واجبنا الاجتماعي تجاه الفقير عند كبسة اللايك، أو، كبسة المشاركة إن كنتُ مهتمّاً.
الدعاية والعبارات التي ترافق صوَر الفقر، والتي تعزّز حصره بالمشهد، لا تتعلّق فعلياً بالفقير. بل بمُراقب الفقير. أنا، نحن، من هم خلف الشاشات.
تواصُلنا مع مشهد الفقر يصبح بهدف إرضاء ذاتنا، وإشعار ذاتنا أنّنا أُناسٌ «خَيّرون»، لأنّنا اخترنا التعاطف عوضاً عن التجاهل.
نحتاج الفقير في يوميّاتنا. نحتاجه لنشعر أنّنا نحن، لسنا بفقراء. نحتاجه لنمتّع ذاتنا بفوقيّةٍ وهميّة.
بالمقابل، يحتاج النظام أيضاً إلى الفقير، لجملة من الأسباب. لكنّه بالأخصّ، يحتاج إلى «صورة» الفقير لتذكير باقي أفراد المجتمع بمصيرهم البائس إن تخلّفوا عن العمل أو تمرّدوا على قواعد الاقتصاد: إن لم تكونوا موظّفين صالحين تحت سقف النظام الذي يستغلّ قوّة عملكم، سينتهي بكم الأمر مثل «هؤلاء»، على مكبّ النفايات.
يلعب الفقر كمشهد دوراً تأديبيّاً للجماهير، على المستوى النفسي، وإن بشكلٍ لا واعٍ.
أفراد الطبقة الحاكمة ضمن النظام، يحتاجون أيضاً إلى الفقر كمشهد. فالتعاطف مع فردٍ فقير، يجعل من الفرد الغنيّ فاعل خير، ويحجب بالمقابل كل شناعات الاستغلال التي ارتكبها. بسَحب المعادلة إلى أقصاها، تصبح طبقات المجتمع العليا راعياً صالحاً لطبقاته المسحوقة، بالصوَر وبالدعاية وعلى الشاشات، في حين أن واقع الهرم الطبقي للمجتمع يُناقض هذا المشهد.
الواقع أنّ افتقار أدنى الهرم للثروة، مردّه مراكمة الثروة في الطرف الأعلى منه.
ليش في فقر؟ لأن في غنى.
هذا القول، بكل ما يحمله من تناقض ظاهر، متّسق تمام الاتّساق كواقع. وهنا الفرق بين الفقر كفقر، والفقر كمشهد؛ بين الفقر كجريمة، والفقر كظاهرة.
أيّ مقاربة للفقر لا تتطرّق إلى طبيعة النظام الاقتصادي- المحلّي والعالمي- ولا تتطرّق إلى معدّلات الاستغلال ومعدّلات تراكم الثروات في الضفّة المقابلة، ولا تتطرّق إلى ملكيّة وسائل الإنتاج في المجتمع، تُعَدّ مقاربات مغلوطة تصبّ في منطق تحويل الفقر إلى مشهد.
مقولة «الثروة تخلق الفقر» لا ينبغي أن تعكس أي تناقض، اللّهم، إلّا في مجتمعٍ يُبَدّي المشهد على الواقع.