المحاكمة والمجتمع
قد تكون القضية «أسوأ قضية اغتصاب في فرنسا»، حسب الإعلام الفرنسي. رجل، دومينيك بيليكو، متّهم بتخدير زوجته، جيزيل بيليكو، واغتصابها ودعوة آخرين لاغتصابها. استمرّت هذه الجريمة لعقد كامل من الزمن، بين عامَيْ 2011 و2020، وشملت أكثر من 72 مشتبهًا بهم، 50 منهم كانوا جالسين في قاعة المحكمة هذه، يختبئون وراء كمامات. بدأت تظهر التفاصيل إلى العلن مع قرار الزوجة جعل المحاكمة علنية لكي تساعد نساء أخريات تعرّضنَ للاغتصاب، ولجَعْل «العار يغيّر وجهته»، كما صرّح محاميها. المحاكمة مستمرة حتى 20 كانون الثاني المقبل.
تأتي هذه القضية في أعقاب موجة فضح التحرّش العالمية، والتي عُرفت بحركة الـ«مي تو»، لكن مع فارق مهمّ. فإذا كانت أكثرية عمليات فضح التحرّش قد طالت ممارسات في الحيّز المهني والعامّ، فإنّ «قضية جيزيل بيليكو» تسلّط الضوء على العنف والاغتصاب في الحيّز الخاص والحميميّ. كما تأتي هذه القضية بعد قيام ثورة مضادّة يمينية، تحاول العودة إلى قِيَم العائلة والأدوار الجندرية التقليدية في وجه الخطاب النسوي والتحوّلات الاجتماعية. «أسوأ قضية اغتصاب في فرنسا» حصلت في عمق هذه العائلة، في ضيعة صغيرة وتقليدية، في حميمية العلاقات الزوجية والأبوية.
تخدير العائلة
لذلك، ربّما، استوقفت الإعلامَ مسألةُ التخدير. فعمليات الاغتصاب التي استمرّت لسنوات، تمّ اكتشافها بالصدفة بعد حصولها. في عالم مهووس بوعيه عن ذاته، يأتي التخدير لكي يشكّك بهذا الوعي ويعيد طرح علاقتنا بالواقع من خلال تجربة الضحية، والتي وصفت هذه الجريمة كـ«خيانة»، لا خيانة العقد الزوجي وحسب، بل خيانة علاقتنا بالواقع أيضاً. ولهذه الخيانة تقنيات طوّرها الزوج لكي يستطيع الاستمرار بها على مدار سنوات، من الامتناع عن التدخين أو تفادي وضع العطر إلى تدفئة الأيدي قبل القيام بعملية الاغتصاب، تقنيات اتّبعها العشرات ووثّقها الزوج.
أمّن التركيز على التخدير «استثنائية» هذه الجريمة، وجعلها حالةً خاصةً غير قابلة للتعميم إلّا بحالات قليلة. لكن هناك تخدير آخر، ربّما كان الأهمّ، سمح باستكمال عمليات الاغتصاب هذه على مدار السنوات. وهو تخدير العائلة وحميميتها، الذي جعل من المستحيل التصديق بأن الشرّ غالبًا ما لا يأتي إلّا في شكل القريب والحميم. فتبيّن أن الزوج صوّر ابنته وزوجة ابنه عاريتَيْن إيضًا، كما صوّر بنات أخريات في أماكن عامة. فلنستمع إلى زوجة ابنه، التي اعتقدت أنّها تعرفت إلى «العائلة المثالية» و«المُحبّة». أما الضحية، فوصفت زوجها الذي أُغرِمت به في عمر العشرين بأنّه رجل لطيف ويعتني بها. اليوم، بدأت تسمّيه «موسيو بيليكو».
التخدير ليس كيميائيا فحسب، هو عاطفيّ أيضًا، ويدعى العائلة.
الرجل ورجاله
اتّجهت الأنظار نحو «موسيو بيليكو» وفق الشخصنة التي يحبّها الإعلام ومعه مجتمع ما زال يرفض المسؤولية، إلّا إذا كانت فردية. فهو يمثّل الشرّ الاستثنائي، هذا الزوج والأب والجدّ الذي خان قدسيات العائلة وجسد أقرب الناس إليه لكي يغذّي ملفّ الصور والفيديوهات على كومبيوتره، ملف سمّاه هو «انتهاكات». بدأت تظهر معالم رواية أخرى، نفسية أكثر، لتفسير أعماله. فهو اغتُصِب في عمر التاسعة، كما روَتْ زوجته، وكان شاهدًا على انتهاكات أخرى قام بها والده. استثناء آخر، نفسيٌّ هذه المرّة.
لكنّ الرجل ربّما كان أقل أهمية من الرجال الـ72 الذين شاركوا في عمليات الاغتصاب. فكما كتبت جوي سليم، تمثّل هذه العيّنة مختلف شرائح المجتمع الفرنسي. فبين هؤلاء نجد رجل الإطفاء والصحافي والكهربائي والمتقاعد والممرّض... كما تراوحت أعمارهم بين 26 و74 عاماً، في ما يصوّر المغتصب بأنّه قد يكون أيّ رجل وكلّ رجل. هنا تنهار التفسيرات الفردية التي تحاول اعتبار الشرّ فعلاً محصوراً باستثناء فرديّ أو مرض خاصّ لتصبح المسألة اجتماعية وسياسية، حيث يبدو فعل الاغتصاب نتيجة طبيعية لمجتمع ذكوري. ما مِن أفراد في هذه القضية، فقد فقدوا دورهم كأفراد عندما لم يبلّغ أحد منهم الشرطة عمّا حدث على مدار عقد من الزمن. تلفون واحد كان أنقذ حياتي، تقول جيزيل بيليكو، ما مِن أحد منهم قام به.
«موسيو بيليكو» الذي ما زال أبًا
في محاولته فهم لغز الزوج، لم يجد الإعلام الغربي إلّا صورة «الوجهين» أو الشخصية المنفصمة. فهناك الوجه الصالح، المتمثّل بصورة الأب والزوج، ووجه الشرّ الذي يخرج في الليل لكي يقوم بـ«انتهاكاته». وهذا فحوى عنوان كتاب ابنته، «توقفت عن مناداتك أبي»، والذي تفضح فيه جزءا من انتهاكاته، وكأن صفة «الأب» وما تنطوي عليه من علاقة حميمية لا تتماشى مع أفعاله الشنيعة. لكن ماذا لو كان هذان الوجهان وجهاً واحداً، وجه العنف الذكوري، الذي يحصل في أكثرية الحالات تحت غطاء الحميمية العائلية، أو حتى لكونه نابعاً من هذه الحميمية العائلية. يمكن طرد «موسيو بيليكو» من المجتمع وعائلاته، وسحب صفاته كأب وجدّ وزوج، والبحث في ماضيه عن انتهاك قد يفسّر «انحرافه»، لكنّ هذا لن يلغي حقيقة أن هذه الجريمة نابعة من عمق المجتمع، من رجاله الطبيعيين ومن عائلاته المُحبّة.