يستدعي تحليلُ البنية الطائفية البحثَ بالعلاقة بين السياسة واللاوعي، باعتبار اللاوعي جمعياً أساسًا، أي أنّ اللاوعي (بتحديده الفرويدي) هو أصلاً نقطة التقاء الآخر بالذات، أو قل إنّ اللاوعي هو المفصل الذي يتشكّل منه الفصل بين الداخل والخارج، الأنا والآخر.
اللاوعي ليس لاوعياً فردياً، وليس لاوعياً جماعياً، إنما هو الترابط والتقاطع بين الأنا والآخر. اللاوعي هو منظومة تقوم على فكرة أن الداخل (الخاص، الأنا) هو في أساسه لا ذاتي، والفرد ليس سوى الموقع الذي تتمظهر فيه أنساق الجماعة. الأنا دائماً آخر.
الأنا إذاً هي أصلاً وبالأساس مُستلَبة، بقدر ما هي صورة متخيَّلة تتبنّاها الذات في اللاوعي.
فالأنا هي صورة متماسكة تستحوذ على الذات، صورة في المرآة، تبدو وكأنها تأتي من الخارج مباركةً برغبة الآخر الذي نتوق لإرضائه، وتمتلك الذات. وإذا هُدِّدَت صورة الأنا التي تطابقت مع الصورة النرجسية للذات، تستنفر كل وحدات المقاومة للدفاع عن نزوة الأنا وتوقها لرغبة الآخر. هذه العملية التي تنطوي على الإسقاط (projection) والإجتياف (introjection) هي الجدلية التي تبنى عليها الهوية، على التضاد (بين الأنا والآخر)، وهي دائماً جدلية جماعية.
القلق يؤرّق الحداثة، وليس لبنان فحسب. فلبنان ليس إلا عارض من أعراض الحداثة بأكملها.
لكن يجدر الإشارة هنا أن الحداثة على الأقل وللمرة الأولى في تاريخ البشر، كشفت لنا بأن الآخر قد مات أصلاً. فمِن أهمّ ما أنتجه قتلُ الملوك والثورات الاجتماعية التي ترافقت مع الثورة العلمية الحديثة، هو الاكتشاف بأنّ لا شيء في جسد الملك يحدّد ملكيّته: الملك ملكٌ لأنّنا رغبناه كذلك، والملك لم يكن ملكاً أصلاً.
لكن مع كسر العلاقة الصنمية (الفتيشية) هذه بين الأفراد، تكرّست علاقةٌ صنمية جديدة: بات المال والقيمة الرأسمالية سيّداً جديداً نعبده ونسعى لتراكمه. فيتماهى إنتاج فائض القيمة مع منطق اللذة. لا تنتج اللذة بالتماهي مع رغبة الآخر سوى أهواء ورغبات جديدة، فكيف أتأكد من رغبة الآخر أبداً وقطعاً؟
نتمكن من خلال الربط بين ماركس والتحليل النفسي النظري من بلورة أدوات لفهم بنية الواقع الرأسمالي وكيفية تشكّل أسس السلطة الحديثة ضمن إطاره. والطائفية في لبنان هي أحد أشكال السلطة الحديثة. يجدر بنا الإشارة هنا بأن التقاطع بين الماركسية والفكر البنيوي شكّل الخزان الفكري الأساسي لمهدي عامل، وحسين مروة، ويمنى العيد وآخرين في القرن الماضي. ويبقى حتى اليوم تحليل مهدي عامل للبنية الطائفية للدولة اللبنانية التحليل الأكثر تماسكاً وتعقيداً بقدرته على فهم الواقع الطائفي الذي يتشكل حوله المجتمع اللبناني.
يقول عامل إنّ الطائفية في لبنان ليست إلا أداة من أدوات الدولة الطائفية البرجوازية، وإنّ الطائفة هي علاقة سياسية تطمس أو تموّه التناقض الطبقي في المجتمع اللبناني. الطائفية، في نظر عامل، هي أيديولوجية (غير قمعية) من أيديولوجيات الدولة. فالأدوات القمعية للدولة تتركز في البوليس والأمن وغيرها من الأدوات... أما الطائفية، فهي لا تقمع المواطنين بالقوة المباشرة، إنما تُؤجّج عواطفهم ومشاعرهم.
هنا نستطيع إضافة التحليل النفسي لتحليل عامل: ذلك أنّ الطائفية تعمل من خلال إطلاق العنان للعواطف الجياشة، الخوف والقلق حول الجماعة والالتفاف حول السيّد (وهنا نعني السيّد من جدلية السيّد والعبد عند هيغل) أو الأب من أجل الدفاع عن مُخيلة الجماعة.
مقاربة السياسة من منظور التحليل النفسي لها تبعات متعددة:
أولاً، الطائفية بنية إيديولوجية تتمظهر في الواقع الاجتماعي من حيث الممارسات الفعلية (أجهزة الدولة بكل أشكالها القمعية وغير القمعية، وكل ما ينظم الحياة الاجتماعية من قوانين وأعراف وتقاليد، أهمها الأسرة وتشكيلاتها المختلفة عبر الطوائف). إذًا، ليست الطائفية بنيةً تخفي وراءها واقعاً آخر، بل تتجلى كعلاقة سياسية غير واعية (وهنا نقتبس بتصرّف من مهدي عامل) تحكمها مجموعة دالات (signifiers) يتحدّد من خلالها نسق رمزي (symbolic)، تحتكم إليه مجموعة لذّات (enjoyment- jouissance)، تتحكم بنا كأفراد في هذا المجتمع.
ثانياً، بما أنّ اللاوعي محكوم بمنطق اللذّة، وتنحجب عنه إمكانية الرغبة خارج منظومة اللذات الحاكمة، يجدر بنا أن نسأل: أيُّ لذّات تعيد إنتاج الطائفية في لبنان؟
يربط هذا السؤال السياسة باللذّة. فاللذّة هي إشكالية سياسية، ويجب علينا أن نبلور تحليل «للاقتصاد السياسي للّذّة». تحمل الكلمة العربية للسياسة هذه الدلالات، فهي مشتقّة من كلمة ساس، والسيس بالأساس ينطوي على معنى الاستدراج والإقناع. ويرتبط فيه أيضاً معنى السوس: أن يقع السوس في الشيء. السوس كائن غريب يتطوّر من داخل الشيء ليتآكل من الداخل. فالسوس يقع بالشيء (كاللذّة)، كما الحاكم يسوس الشعب. السياسة إذن مصدر ساس، وهي إدارة شؤون البلاد من خلال تآكل المجتمع من الداخل.
الطائفية ليست إلا علاقة فك ارتباط داخلي: أنا وأخي، ثم ابن عمّي ثم جاري ثم ثم ثم... من الآخر الصغير للكبير. إن خلفية هذا الترابط الأخوي، من مقاربة نفسية، هو القتل الرمزي للأب. فالإرث بين الأخوة لا ينحصر إلا بقتل الأب. ينتج عن هذا القتل الرمزيّ الرابطُ الأخوي، ذلك أنّ حبّ الأخ والجار هو مثل حبّ الذات: ينطوي حبّ الذات دائماً على كبت أو قمع الكره للذات.
فالنرجسية الطائفية هي رفض الإختلاف الفعلي، الإختلاف الذي تنطوي عليه أيُّ هوية أصلآ. فالذات دائماً في علاقة اختلاف مع نفسها، أحبُّ الجار والآخر كي لا أواجه مقدار كرهي لنفسي، وبذلك أحبّ الآخر كما أحب نفسي فعلاً. فيصبح السؤال السياسي هنا هو: كيف أدرك أنّ كره الآخر هو رفض لمواجهة كره الذات: تلك السوسة التي في داخلنا جميعاً؟
تنوجد الجماعة ويصدر قانونها باتفاق ضمني بين الأفراد على أنّ الأب قاصر، غير قادر. فالأب يجب أن يُقتل من أجل أن يعيش قوياً. يقوم منطق المخيلة الجماعية على هذا التناقض الأساسي: قتل الأب من أجل أن يحيا. فبقتل الأب نتحمل جميعاً دَيناً رمزياً لا يُرَدّ، وما من هندسة مالية قادرة على سداد مُستحقاته.
الدَّيْن قصةٌ قديمة عند البشر، والدَّيْن دِينٌ يصعب نقده. فهو كالسلطة الصمّاء لا يسمع ولا يمكن مطالبته بشيء، فهو لا يُعطى شيئاً سوى بإحتواء المكان الفارغ الذي يتمترس فيه الأب. ما نقوله هنا هو أن اسم الأب ليس أكثر ولا أقلّ من دالّ يلقى وظيفته في تمكين الوهم الضروري للأنا. وهذا الوهم قوامه وعتاده هو الآخر. الأنا والآخر في كباش أزلي: ماذا يرغب مني الآخر؟ كيف ألبّي رغبة الآخر؟ كيف أحقق رغبة الآخر؟ كيف أحرص على الرمز؟ كيف أملأ النقص في الآخر كي لا يكون ناقصاً أبداً؟ هذا الامتلاء في الآخر، الاعتقاد بأنه واحدٌ موجود أصلاً هو مصدر القلق... القلق القلق الذي يجتاحنا جميعاً.
يظهر الانتماء الطائفي في لبنان على أنه أيديولوجية لاوعية ترتكز على الرغبة برغبة الآخر، السيّد والمرشد والزعيم. أي أن الزعيم هو فوق كل إعتبار لأنّ الذات استحوذت عليها صورة متناسقة تتمكّن من خلالها من تقديم نفسها (الأنا) لخدمة الآخر. للطائفية بنية نفسية مُنحرفة: أنا ألَبّي رغبة الآخر بالومى وبالإشارة، الدالّ وحده (العلم والشعار وصورة الزعيم) يحرس الهوية ويُمكّن الفرد من العيش ضمن وهم وخيال مُقنِع، ويُخفي حقيقة الاستلاب التي يعيشها كل فرد أصلاً كذاتٍ مُفكرة.
الطائفية إذاً هي ممارسة إجتماعية لا تبنى على مستوى إيماني ومُعتقدي بل على مستوى خيالي واهم: فالوهم وبنية الخيال تؤسّسان لتشكيل الواقع الاجتماعي الذي نعيشه.