تعليق سوريا
منار شربجي

أخطاء سياسيّة مهّدت لمجازر الساحل السوريّ

12 آذار 2025

شهد الساحل السوريّ، منذ الخميس الفائت، كمائن أسديّة أعادت إحياء شبح النظام وأودت بحياة مئات الشبّان. لكنّ ردع الفلول لم يكن نظيفاً. ترافقت معه، وبحجّته، مجازر طائفيّة دمويّة وإعدامات ميدانيّة قتلت مئات المدنيّين العلويّين في بيوتهم وساحات بلداتهم. إذا جردنا تسلسل الخطوات التي اتّخذها أحمد الشرع منذ تعيين نفسه رئيساً للجمهوريّة، نجد أنَّ إخفاقات الإدارة الجديدة صبّت كلّها في تهيئة الظروف الملائمة لارتكاب مجازر طائفية. هذه الجردة هي من باب تفعيل النقاش السياسي المفتوح مع السلطات السوريّة، والذي غيّبه حكم الأسد طيلة خمسين عاماً. لا يأتي انتقاد الإدارة الجديدة من باب خلفيّتها الإسلاميّة أو حتّى ماضيها الفصائلي، بسبب محدوديّة ذلك النقاش. ينبع الانتقاد من كونها الإدارة الجديدة، ومن تقديمها لنفسها على أنّها إسقاطٌ لإرث الأسد. ولأنّنا لا نزال نمتلك كل الأمل ببناء سوريا لنا جميعاً، علينا أن نخاطب ونحاسب أي شكل من أشكال السلطة.
إذاً، أخفقت الإدارة الجديدة بأربعة تحدّيات أساسيّة منذ تسلّم المرحلة الانتقالية. سمحت هذه الأخطاء بوقوع المجازر الطائفية.


أوّلاً: مسار المحاسبة

تعتزّ الإدارة الجديدة بأنّها اتّبعت نهج التسامح مع رجال نظام الأسد، بحجّة الحفاظ على السلم الأهلي. نحن لا نريد التسامح. نحن نريد محاكمة جلّادينا. إنَّ عمليّات التسوية العشوائية وعدم تحديد الإدارة الجديدة لأي آلية محاسبة، عزّزت الرغبة بالانتقام لدى المجموعات المتطرّفة. تتحدّث هذه الفئة، التي تشمل مدنيّين وعسكريّين، عن معركةٍ حرمهم منها الجولاني، معركة الثأر الطائفي. يستخدم هؤلاء سرديّة المظلومية السنيّة لتبرير سفك دماء العلويّين وغيرهم من مكوّنات الشعب السوري. يردّدون «وين كنتوا آخر 14 سنة؟»، «ليش كنتوا ساكتين؟»، «نسيتوا الكيماوي؟». يرمي هؤلاء تهمة الفلول حتّى على معارضي وضحايا الأسد الذين يسمّون المجازر ضدّ العلويّين باسمها. وبينما تحمل هذه العبارات والمشاعر حدّاً من الحقيقة والأحقية، بتنا ندرك بعد الحقبة الأسدية أنَّ دوامة العنف الدمويّة لن تتوقّف إلا إذا أوقفناها بأيدينا. السكوت عن جرائم الأسد لا يبرّر قتل المدنيّين، وتهمة «البيئة الحاضنة» لا تحلّل الدم، والانتماء المذهبي لا يحوّلنا إلى مذنبين أو بريئين بشكلٍ تلقائي. الانتقام ليس محاسبة، الانتقام الطائفي هو استمرارٌ لإرث الأسد وازدهارٌ للكراهية التي زرعها في نفوسنا، وهذا ما سمح الشرع بحدوثه. 

إنّ تجاهل إدارة الشرع لمأسسة المحاسبة ووضعها ضمن أولويات المرحلة الانتقالية سمح بارتكاب المجازر ضدّ المدنيين العلويّين. نحن لا نريد التسامح، ولا نستطيع أن نسامح، وأمانةٌ علينا ألا نفعل ذلك.

نريد محاكمات علنيّة عادلة لمن أغلق أبواب السجون على أهلنا، لمن قتل أحبّاءنا ورمى جثامينهم في مقابر جماعية، لمن غيّب الآلاف منّا، ومن دمّر بيوتنا وطردنا من بلادنا وحرمنا من عوائلنا ومدننا. إنَّ هذا «التسامح» يضيّع الدم الهائل الذي قدّمناه لتحرير سوريا من حكم الأسد. هذا «التسامح» لا يمكن له أن يشتري رضى أي طائفةٍ كانت، ولم يمنع حمّامات الدم. لكنّه، على العكس، سمح بتمادي فلول النظام وتقويتهم، وفتح لهم مجالاً كبيراً للتخطيط والتنسيق ومحاولة الاستفراد بحكم الساحل.


ثانياً: غربلة الفصائل المسلّحة وتأمين المناطق الحسّاسة

صرف أحمد الشرع أشهراً في التحضير لمعركة ردع العدوان. تحالف مع فصائل من جميع الأطياف استعداداً للمعركة الكبرى. خلع لقبه الجهاديّ، وأتى إلينا بزيٍّ رسميّ وكرافات وشعارات تقدّميّة وتطمينات ليقنعنا بأنّه يستحقّ فرصةً لتسلّم زمام الإدارة الانتقالية. كان أحد أبرز مبرّرات وصوله إلى القصر أنّه هو الرجل الوحيد القادر على ضبط الفصائل، وأنَّ كلمته مسموعة بينها، وأنَّ انخراطها في مؤسسات الدولة سيمنعها من ارتكاب الانتهاكات التي اعتادت ارتكابها في الشمال السوريّ.

لكنّ هذه الفصائل لم تخلع زيّها المتطرّف كما فعل الشرع. بايعته وآمنت بقيادته وانخرطت في تشكيلات الجيش الجديد بزيّها القديم. أن يحاجج الشرع اليوم بأنّ هذه الفصائل هي خارج سيطرته وأنّه لم يستطع ضبطها ضمن تعاليم وزارة الدفاع هو ببساطة أمرٌ غير مقنع. يزيح هذا التهرّب تورّط الإدارة الجديدة بسفك الدم العلوي، بعدما تعهّدت بطيّ صفحة المجازر.

لا بدّ أنَّ الشرع يدرك منذ تسلّمه الإدارة الجديدة أنَّ الفصائل الموالية له تحلم بارتكاب هذه المجازر، وأنّها إذا اقتحمت الأحياء العلويّة، لن تخرج من دون إعدامات ميدانيّة وتشبيح وقتل عشوائي وإذلال. لو أرادت إدارة الشرع الجديدة فعلاً منع وقوع هذه «التجاوزات»، لما تساهلت بتأمين المناطق التي قد تُستهدف بحجّة الثأر. كان يمكن لإدارة الشرع أن تنسّق مع وجهاء البلدات الساحليّة منذ سقوط النظام لتسليم السلاح، وليس بعد وقوع المجازر. لكنَّ أجهزة الشرع فضّلت التعامل مع هجمات الفلول المتكرّرة كحوادث منفصلة ومتفرّقة، بدلاً من وضع خطّة شاملة لمواجهة أي تهديد من قبل ضبّاط الأسد.


ثالثاً: مراجعة جديّة لعهد الأسد

كان يمكن لمؤتمر الحوار الوطني أن يكون فرصةً للسوريّين من مختلف التجارب والخلفيّات والتضحيات أن يتحدّثوا ويواجهوا سويّاً الماضي والمستقبل. كان يمكن للشرع، بصفته رئيس المرحلة الانتقالية، أن يقدّم مراجعةً صادقة للحقبة الأسديّة، وأن يعترف بدوره ودور الفصائل المشابهة لهيئة تحرير الشام خلال تلك المرحلة أيضاً. كان يمكن له أن يقدّم خطاباً جامعاً يسمّي الحقد باسمه، ويشير إلى أنَّ المرحلة القادمة بنفس صعوبة المرحلة البائدة. 

لكنَّ الإسراع بعقد المؤتمر والاستعجال بالتحضير له، سخّف من دوره وميّع جدّيته وجعل منه نشاطاً أشبه بالمسرحيّة. لا نزال نستغرب اليوم من السرعة التي عُقد فيها المؤتمر، وكأنّ ورشةً من يومٍ واحد كافية للتعافي من حكم الأسد. بالحقيقة، نحن نحتاج سنين طويلة كي نتعافى من عقليّة الاستبداد والانصياع والخوف، ونحتاج وقتاً أطول للتفكير بشكلٍ واقعيّ بمعاني السلم الأهلي والعيش المشترك وتحقيق العدالة. لعلّ أقسى تحدٍّ نواجهه اليوم هو أنّنا غير قادرين على التحدّث مع بعضنا بعضاً كسوريّين، من دون المزايدات والمظلوميّات والنزعة الطائفية الانتقاميّة. كان يفترض أن تلعب استحقاقات المرحلة الانتقالية هذا الدور، لكنَّ الإدارة الجديدة فضّلت استرضاء المجتمع الدولي، بدلاً من التحديق بعمق الجرح السوري.


رابعاً: تسمية المجزرة

حاول الشرع امتصاص النقمة بعد المجازر. شكّل لجنة تدّعي الاستقلال للتحقيق «بأحداث» الساحل، ولجنة للحفاظ على السلم الأهلي. وكأنَّ لجنةً واحدة كفيلة ببناء السلم الأهلي، وكأنَّ السلم الأهلي هو مسألة أحاديّة البُعد. إنَّ التعامل مع استحقاقات المرحلة الانتقالية بهذه السطحيّة سيميّع على المدى القريب والطويل مفهوم العدالة المجتمعية والقانونيّة، وسيضيّع حقّ جميع السوريّين الذين قُتلوا قبل 50 عاماً و14 عاماً و5 أيّام.

لم يقل الشرع هذه مجزرة. لم يسمِّها باسمها. لم يدلّ عليها. لم يعترف أنّها انتقامٌ طائفي وحقدٌ عزّزه دهرٌ من الظلم والاعتقال والقتل. ربّما يكون هذا الحقد ردّة فعلٍ طبيعية، لكنّ تفريغه لا يمكن أن يكون بالانتقام الوحشيّ من المدنيّين الأبرياء، بل يجب أن يفرَّغ بآليات محاسبة جديّة وتعويضات للضحايا وجبر الضرر وكشف الحقيقة والعمل الجدّي على تحقيق العدالة الانتقالية، والذي يبدو أنَّ إدارة الشرع ستقضي عليه.

عندما نقول إنَّ علينا التمسّك بلحظة الثورة السوريّة، لا نقول ذلك من باب الحنيّة والتقديس للّحظة التي غيّرت مسار حياتنا. علينا التمسّك بلحظة الثورة السوريّة لأنّها جمعتنا للمرّة الأولى، ولأنّها كانت ثورةً سوريّة، وليست ثورةً سنيّة، ولأنّها كانت رفضاً شاملاً للعقليّة الأسديّة قبل النظام الأسدي. علينا العودة اليوم إلى تلك اللحظة كي نستوعب أين نجحنا وأين أخفقنا، وكي ننظر ونؤشّر بوضوح إلى أنَّ إسقاط الأسد غير كافٍ للتعافي. علينا العودة إلى تلك اللحظة كي نتمسّك بالعدالة الانتقالية التي هي أملنا الوحيد اليوم.

الرحمة لأرواح الشهداء، كل الشهداء، شهداء الأمس واليوم.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الحوثيّون يعيدون حظر السفن الإسرائيلية 
تعليق

أخطاء سياسيّة مهّدت لمجازر الساحل السوريّ

منار شربجي
أهالي الساحل يعبرون النهر هرباً من المجازر
11-03-2025
تقرير
أهالي الساحل يعبرون النهر هرباً من المجازر
حدث اليوم - الثلاثاء 11 آذار 2025
11-03-2025
أخبار
حدث اليوم - الثلاثاء 11 آذار 2025
اتفاق الشرع - قسد: لماذا الآن؟
11-03-2025
تقرير
اتفاق الشرع - قسد: لماذا الآن؟
مفاوضات حول الحدود، والاحتلال يُفرج عن 4 أسرى لبنانيين