إن كنت تعجز عن محبّة نفسك، فكيف لك أن تحبّ غيرك، بحقّ الجحيم؟
روبول
بهذه العبارة يختم روبول كل حلقة من برنامجه، «مسابقة روبول للدراغ» أو كما تعرف بـ«روبول دراغ رايس» الذي يستقبل مجموعةً من فنانات الجرّ (دراغ)، لتفوز إحداهن باللقب في نهاية الموسم. لا يمكن نكر تأثير هذا البرنامج على مجتمعنا العربي، إذ شكّل بطريقة أو أخرى «الكوميونيتي» من خلال المصطلحات والأفعال والقيّم وبالتالي هوية هذه الفئة من المجتمع وكيفية مناصرتها والدفاع عنها.
يقترح هذا المقال الانطلاق من هنا، لتقييم شهر الفخر الأخير في لبنان، وفتح نقاش داخل «المجتمع»، أو الكوميونيتي كما نقول. نقاشٌ عن محبّة ذاتنا كـ«مجتمع»، قبل فتح نقاش محبّة الآخرين.
أساليب المعركة وانعكاساتها
مع بداية شهر الفخر، عُلقَّت لوحةٌ إعلانية تضمّ صفوفَ وردٍ يحمل ألوان علم الفخر، وهي ترمز لقيمٍ يُفترض بها أن تُكوّن أُسس «المجتمع» وهي: الجنسانية (الزهريّ)، الحياة (الأحمر)، الشفاء (البرتقالي)، الشمس (الأصفر)، الطبيعة (الأخضر)، الفن (الأزرق)، التجانس (الكحلي)، الروح (البنفسجي).
بعد فترةٍ وجيزة شوّه «جنود الرب» اللوحة وأزالوا جزءاً كبيراً منها. في اليوم التالي، تمّت الدعوة إلى تظاهرة أمام وزارة الداخلية باتجاه ساحة النجمة. على أثر هذه الدعوة، انتشرت التهديدات من قبل جنود الرب أيضاً، وما يشبههم، ما أدّى إلى إلغاء المظاهرة الاعتراضية في اليوم عينه.
خَي، التغت!
لم تُقَل هذه العبارة أو تُسمع فقط بين الأفراد الهوموفوبيّين في المجتمع، بل أيضاً داخل مجتمع الميم-عين نفسه.
لماذا؟ لأسبابٍ عدّة، منها أنّ هذه الدعوة لم تَأخذ بالاعتبار الظرف الاجتماعي والسياسي المُعاش، وتم التغاضي تماماً عن الوضع الأمني الحسّاس المُنعكس على جميع أفراد «المجتمع»؛ المُنعكس بمستويات مختلفة. إضافةً إلى ذلك، لنفترض أنَّ المظاهرة حصلت واحتشد بعضٌ من أعضاء «المجتمع» أمام وزارة الداخلية، من يضمن أنّ الأشخاص الذين قرّروا عدم دعم هذا الشكل الاحتجاجي لن يتمّ وصمهم وإقصائهم من قبل المجتمع نفسه، بذريعة «التخاذل والتقاعس»؟
العبرة هنا أنّه من المفترض أن تكون أشكال الاحتجاج والمقاومة أكثر حسّاسةً تجاه الواقع، عوضاً من أن تكون مبنيّة على ردّات الفعل. ذلك أنّ أفراداً عديدين من المجتمع اضطروا أن يتقَوقعوا وأن يختبئوا خوفاً من أي نوع من «المواجهة» مع ظاهرة «جنود الرب» التي شكّلت نوعاً من التهديد لـ«المجتمع»، إضافةً إلى من اضطروا خوض مواجهات لم تكن بالحسبان في الوقت الراهن. أشخاص عدة رفعوا الصوت تجاه ما يحصل من خلال مناشدة الجهات المعنية، ولكن كان الجواب أنّ هذه الأصوات المرفوعة لا تمثل «الكوميونتي» ولكن تمثّل أصواتهم كأشخاص فقط.
أفراد المجتمع ليسوا جميعاً محميين أو مدعومين ولا يمكنهم/ن الخروج من الاعتقال بسلاسة. كما أنّهم في حالاتٍ عدّة، وبكل بساطة، لا يمكنهم الظهور بشكلٍ علني– الأمر الذي سيخلق صورةً مغايرة عن الجزء من «المجتمع» الذي تظاهَر، وحجم «المجتمع» وشكله بالفعل، خاصّةً وأنّ مجتمع الميم-عين واقف أصلاً على صوص ونقطة.
علاقات القوة بين الفرد والسلطة
أفعال المواجهة والاحتجاج والمقاومة ضرورية، لكنّها تأخذ أشكالاً مختلفة باختلاف أشكال النزاعات. ومع هذه الاختلافات، يتغيّر ما يجب أخذه بالاعتبار: تقاليد السكان المعنيين، والوضع الاجتماعي، والوضع السياسي العام، ودرجة العنف التي يمكن أن يلجأ لها الخصم…
فالتغيير حاصل لا محال، لكن ما الذي يحدّد طبيعة وديناميكية هذا التغيير؟ نحن. نحن كـ«مجتمع»، علينا الأخذ بالاعتبار علاقات الهيمنة التي تجتاحنا وحجم القوى المحدّدة لمسار السلطة. لذلك نرى السلطة تتضامن في ما بينها عندما تخوض معاركها ضدّنا، ولكن، هل يمكن طرح مفهوم التضامن بين الفئات التي تحارب هذه السلطة؟
بناء مجتمع مُتضامن لنواجه السلطة
الواقع اليوم، واقع المجتمع و«المجتمع»، يخلق أقليّات مهمّشة داخل «المجتمع» الذي يُعتبر أصلاً بين الأقليّات المهمّشة.
وقد يكون من الطبيعي أن تتكوّن تكتلات تشبه بعضها بعضاً داخل إطار واحد، ولكن هل يبقى من الطبيعي أن تَحدّ هذه التكتّلات من فرص النقاش؟ ومِن فتح مسارات لطرح طروحات مغايرة لأفعال الدعم والاحتجاج؟ وهل يصير أن تحدّد فئة واحدة من هذه الفئات هوية «مجتمع» بأسره، وتحدّد ما هو مقبول وما هو مرفوض؟ وما هي المعايير والاعتبارات التي على أساسها يُعتبر هذا الشخص أو ذاك «منا وفينا»؟ وكيف نَحدّ من تطبيق سياسة تهميش وإقصاء أفراد ذي وجهات نظر مغايرة، داخل «مجتمعنا» نفسه؟
ففي «مجتمعنا» أيضاً، تنحصر أسس النفوذ (كرأس المال الفعلي والاجتماعي) وأماكن السهر والمؤسسات والجمعيات والتكتلات، مع مجموعة معيّنة من الأشخاص تستثمر هذه الأسس لتعزيز موقعها الآمن. السؤال يُطرح هنا، مَن يعزز هذا الموقع الآمن، وعلى حساب من؟ ومن يخوّلهم تحديد هوية المجتمع؟ وماذا عن هؤلاء الأفراد غير المحميين، والذين يحسبون ألف حساب إذا قرروا الانضمام إلى حشد المظاهرة؟
لطالما كانت الشعارات طُعماً مغرياً لتسويق مدى دعم تكتلات المجتمع الميم-عين، والحق يقال أنها تنجح في جذب الدعم والمناصرة من قبل بعض أفراد المجتمع الذين يخضعون لمعايير موضوعة من قبل هذه التكتلات. ولكن ماذا عن هؤلاء الذين لا يخضعون لهذه المعايير، والذي يطرقون باب المساعدة ويقابلهم الرفض مراراً وتكراراً؟
العائلة المُختارة
تُدقّ هذه الأبواب بعدما أَغلَقت عائلاتهم أبواب المنازل في وجوههم، تُدَقّ على أمل أنّ عائلةً أخرى ستقبلهم كما هم. عائلة أخرى قالت أن ذراعيها ممدودة لنا، باختلافنا وأوجه شبهنا، برضوخنا وتمردنا عمّا فُرض علينا من محاولات لتشكيل هويتنا ومن نحن كأفراد، ولمن ينبض قلبنا ومن ذراعَيّ من نريد أن نُحتَضَن. من هنا تبدأ محاولات البحث عن «العائلة المختارة» التي نسلّم جدلاً أنها بيئة حاضنة لنا ولاختلافنا، ولكن للأسف: لا. للأسف أنّ هذه العائلات المختارة غالباً ما تستغل هشاشة الوضع لتطبّق علاقات هيمنة جديدة، تشبه العلاقات التي نقول أننا سئمنا من سلطتها.
المصدر واحد، آليات التطبيق مختلفة. إن الممارسات الاجتماعية والسياسية من قبل القائد لحشد مناصرين والتي تُمارَس في الوقت الحالي ما هي إلا امتداد للسلطة الذكورية والنظام البطريركي ولكن بتطبيقات «تليق» بمجتمع الميم-عين. لكن من قال أن معايير معينة تحدد مدى انتساب الفرد إلى هذه المجموعة، ومن قال أن أشخاصاً معيّنين هم المسؤولون والناطقون باسم هذا المجتمع، ومن قال أن فنّاً معيّناً هو الفن المحدّد لطابع المجتمع الفني والثقافي؟
ثقافة مجتمع الميم-عين حاليًا لا تشبه المحتوى المعاش، والتطبيقات لا تشبهنا جميعًا ولكننا جميعًا ننتمي إلى هذا المجتمع، ولنا الحق في أن نكون. إن خلق مجتمع رديف للمجتمع الذكوري بمبادئه وقيمه لن يحارب المجتمع الذكوري القائم حاليًا. فالعين مش بالعين، وتطبيق مبدأ العين بالعين سيبقينا أسرى لحالة الضحية التي نحن فيها اليوم، بينما تقع على عاتقنا جميعاً– كأفراد ومجموعات– مسؤولية العمل للخروج من هذه الحالة.