أعلن مصرف لبنان يوم أمس أنه أرسل كتاباً إلى وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني، يؤكّد فيه تعاونه الإيجابي مع شركة التدقيق الجنائي «آلفاريز آند مارسال»، والتزامه بكامل أحكام القانون الذي أقرّه المجلس النيابي في نهاية السنة الماضية، والمتعلّق برفع السريّة المصرفيّة لغايات التدقيق الجنائي. لكن حتّى اللحظة، ما زال وزير المال ينفي تلقيه هذه المراسلة رسميّاً، علماً أنّها مطلوبة من قبل شركة التدقيق لتكون ضمانة لالتزام المصرف المركزي بتلبية طلبات الشركة، قبل مباشرتها العمل على التدقيق الجنائي مجدداً.
لكن بمعزل عن مصير الكتاب الرسمي والسجال الدائر حوله، ثمّة ما يكفي من مؤشرات للدلالة على أنّ هذه المراسلة لن تكون سوى مناورة جديدة في سلسلة المناورات الهادفة لتطيير هذا المسار، أو على الأقل تفريغه تدريجيّاً من أهدافه الأساسيّة.
فمراسلة المصرف المركزي أعادت ربط تعاونها الإيجابي مع «آلفاريز آند مرسال» بقانون رفع السريّة المصرفيّة الأخير.
وذلك رغم تأكيد هيئة التشريع والإستشارات منذ البداية أن التعاون مع الشركة لا يستلزم بالضرورة هذا الربط، لكون الحسابات الموجودة لدى مصرف لبنان غير معنيّة بمبدأ السريّة المصرفيّة المنصوص عنها في قانونَي النقد والتسليف والسريّة المصرفيّة. وقد تجاهل مصرف لبنان منذ البداية هذا الرأي القانوني، رغم إعلان نقابة المحامين ووزيرة العدل تأييدهما لهذه المقاربة بالتحديد.
ربط هذا القانون إجراء التدقيق الجنائي في مصرف لبنان بالتدقيق في سائر المؤسسات الحكوميّة والصناديق والمصالح المستقلّة وغيرها، وبشكل متوازٍ.
بمعنى آخر، بات إجراء التدقيق الجنائي في مصرف لبنان يستلزم الذهاب نحو عقد جديد موسّع، يتم إقراره في حكومة المحاصصة السياسيّة القادمة، ويسمح بإجراء التدقيق في جميع مؤسسات الدولة المليئة بما يخشى أقطاب الحكم من كشفه. علماً أن رئيس المجلس النيابي نبيه بري يحاول منذ مدّة إطلاق سجال محلّي حول نوعيّة المؤسسات الحكوميّة المطلوب البدء بتدقيقها، في محاولة لخلط أوراق مسار التدقيق الجنائي وتغيير وجهته. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن توسيع نطاق عقد التدقيق الجنائي على هذا النحو، حتى لو شمل المصرف المركزي، يمكن أن يفضي إلى تغيير نطاق عمل الشركة داخل المصرف، كون تركيز عملها لن يقتصر على البنود التي شملها عقد التدقيق السابق.
جواب مصرف لبنان بالأمس حمل لغماً آخر على صلة بالقانون الذي ربط تعاونه به، له صلة بالحسابات التي يطالها القانون.
فنصّ القانون الذي شمل حسابات مصرف لبنان والمؤسسات العامّة، تغاضى عن قصد عن ذكر حسابات المصارف لدى المصرف المركزي، علماً أن رياض سلامة ما زال يعتبر حتّى اللحظة أن عبارة «حسابات مصرف لبنان» لا تشمل حسابات المصارف التجاريّة الموجودة لديه. لا بل إن الحاكم اعتبر في عدة مقابلات سابقة أنّه سلّم أساساً شركة التدقيق الجنائي في المرحلة السابقة جميع «حسابات مصرف لبنان». هذا اللغم في جواب مصرف لبنان سيمثّل خلال المرحلة المقبلة أبرز النقاط التي يمكن أن يستعملها الحاكم، مع العلم أن أهم المعلومات التي طلبتها «آلفاريز آند مرسال» وأكثرها حساسيّة ترتبط بحسابات المصارف في مصرف لبنان، وليس حسابات المصرف المركزي نفسه.
باختصار، ستخضع عمليّة التدقيق الجنائي مجدّداً إلى مسار طويل من التجاذب السياسي بعد تشكيل الحكومة، خصوصاً وأنّ صياغة عقد جديد بنفقات إضافيّة ستستلزم إقرار العقد من قبل حكومة مكتملة الصلاحيّات. وحتى بعد عبور هذا المطبّ، ستكون الألغام المتعلّقة بطبيعة الحسابات التي شملها قانون رفع السريّة المصرفيّة حاضرة لعرقلة التدقيق مجدداً، تماماً كما تمّت عرقلة التدقيق خلال الفترة الماضية.
وبانتظار استعمال كلّ هذه الأوراق بعد تشكيل الحكومة الجديدة، سيستمرّ سلامة بلعب لعبة عض الأصابع مع حكومة دياب، من خلال فتح الملفات التي تربكها أو تحاصرها، رداً على كل خطوة تقوم بها الحكومة في ما يخص التدقيق الجنائي. وعلى هذا النحو، يمكن فهم تضييق مصرف لبنان الخناق على عمليّة تمويل عقود صيانة الكهرباء مثلاً، وتحريكه لملف طبيعة هذه العقود وطريقة تحديد التكاليف فيها، في محاولة لفتح ملفات مضادة لملف التدقيق الجنائي.