ان القتيل قد قتل، والقاتل، مجهولًا كان ام معروفًا، أنهى جريمته فعليًا، واكتمل فعل القتل.
لربما هكذا نظن، ونعتقد أيضًا ان كل من اختلف مع لقمان سليم لا بل حتى عاداه، يعتبر ان للموت، والقتل خصوصًا، قدرة على انهاء النقاش واسكات الطرف الآخر نهائيًا.
لكن فعل القتل لم يكتمل، فهو بات مادة للتفاعل. وحتى لو لم يكن حزب الله هو من أقدم على الاغتيال، فإن متابعته وتفاعلات مؤيديه الالكترونية مع الحدث تشير الى ان هناك ارتياباً مصدره جهتان: الجهة الاولى تعنى بإبعاد التهمة عنه. أما الثانية، فتسعى للتأكيد على حقيقة ان لقمان يستحق ما حلّ به.
وفي هذا السياق، فإن الجمهور الالكتروني الذي يتعمّد ان يُفهِمَنا انه وحلفاءه غير مسؤولين عن جريمة الاغتيال، ويعوّل على القضاء والتحقيقات لتبيان الحقيقة، لم يكلّف نفسه عناء ان يظهِر أقلّه احتشامًا واتّزانًا في التعامل مع حدث اغتيال خصم سياسي.
الحال اشبه بمن ليس بإمكانه تمالك نفسه تجاه ما قد يعرّيه من الخارج والداخل. فهو في الوقت عينه يريد الابتعاد والمحافظة على مسافة تبقي حزبه بريئاً من التهمة. ولكنّ إغواء الشماتة والتخوين قوي جداً. وجدير بأن يبقي هذا التوتر قائماً، وليس عن عبث.
بالطبع، عندما نقول «جمهور»، لا نشمل جميع من ناصروا الحزب واختلفوا مع لقمان (الأفضل التوضيح هنا، كي لا تنهمر تهم التنميط من يساريي المحور كالعادة)، انما عينة من إنفلونسرز المحور ومتابعيهم، الذين يتصرّفون بمنهجية ووضوح، وضمن نمط متكرر، وانطلاقاً من أن كل عينة من شريحة بإمكانها ان تطلعنا على كيفية تفاعل مختلف الناس مع احداث كهذه.
ما ينبغي التركيز عليه هو هذه «الموضة» التي تمثّل بلا شك اوج التنافر الثقافي والهوياتي في هذا البلد. فكوننا مأزومين منذ الأزل، لا يعني ان حروب الثقافة تمر علينا بالخفاء او انها لا تتمظهر. فحملات الإلغاء لمن يعارض ويخالف تحصل، لتحديد من له شرعية سياسية بالوجود. فشهدنا مثلًا حملات «إلغاء» وتخوين للنائب أسامة سعد لتباين موقفه مؤخراً ولاستنكاره جريمة اغتيال سليم. تهدف هذه الحملات الى اقصائه سياسياً والضغط المستمر لقيادة الرأي وصناعته.
لكن تلك الحملات تمتد أبعد من أحقية الوجود السياسي لتطال الحق بالوجود. فالسخرية والشماتة بالقتل ليستا محاولة لإسقاط الشرعية السياسية عن الضحية فحسب، بل أيضاً الشرعية الإنسانية، وبالتالي تهميش الضحية لتبرير قتلها.
اللافت في الامر ان هذا التعاطي امتد الى عائلة لقمان سليم وأقاربه، وتمثّل بتجريد كامل للقتيل وعائلته من الصفات البشرية، تمهيدًا لتشريع الاغتيال، بغض النظر عن الفاعل. فنجد تعليق البعض على فيديو قديم مقتطع لشقيقة لقمان، تتحدث فيه عن الموت والاموات، واساطير بعض الحضارات التي تقول بأكل الميت لأسباب روحية وعقائدية. فإن نبش الفيديو، وجعله نقطة انطلاق لتوليد وخلق الاهانات وسرديات تتماشى مع ثنائية «الأخيار» ضد «الأشرار» البدائية، وتعويم الصورة بمقومات تسعى لتأييد هذا المنطلق، قد تفضي رمزيًا إلى لاوعينا وثقافتنا المتمايزة عن تلك الاساطير- أي «أن من يأكل بشراً ميتاً، هو وحش لا يؤسف عليه، وإنّ افعاله المناهضة لفكرنا، ما هي الا تبلور لهذه الطبيعية اللابشرية»، وقد ألصقت هذه السردية بلقمان وعائلته، وهذا بالطبع مجرّد مثال واحد.
وكأنه بهذا، يُخلق المعنى، الذي يفرش الأرضية ويحوّل لقمان الى ضحية «خرجُها» القتل. وبالتالي، يدافع الحزب عن نفسه أوتوماتيكيا تجاه التُّهم التي وجِّهَت إليه. فالولوج الى الأرشيف، والبحث فيه عن مواد لنشر وانتقاء ما يمكن استخدامه في هجمة مرتدة، هي سمة من سمات تفاعل الجماعات الهوياتية مع محيطها في هذه الأيام.
لم يكتمل فعل القتل إلّا بتبريراته.