انتهت لحظة 17 تشرين. أصبحت مشهدية الانتفاضة العارمة والساحات الممتلئة من الماضي. ليس بسبب الكورونا تحديداً، رغم أنّ السلطة استفادت من التعبئة العامة لفضّ ما تبقّى من خيم في الساحات. فـ«الشارع» كان قد تبدّل والزخم قد انطفأ منذ أواخر 2019، ودخلت الأمور في مسار سياسي واجتماعي تمكنت قوى السلطة من إعادة التموضع فيه عبر احتواء جزء من «الشارع» والانقضاض على جزء آخر منه.
انتهت المرحلة الأولى من الانتفاضة في 11 شباط، يوم نالت حكومة التكنوقراط الثقة رغم الاحتجاجات ورفض «الشارع» لها.
لكنّ انتهاء «لحظة» أو «مشهدية» أو «مرحلة» 17 تشرين لا يعني انتهاء الصيرورة الثورية، ولا يشير إلى عودة إلى الوراء، بل على العكس تماماً. الانتفاضة التي اندلعت في 17 تشرين دفعت بالصراع الاجتماعي قدماً، سرّعت حركة «الشارع»، قَوْلبت المخيال والوعي السياسي، كسرت بعض الأعمدة في النظام، وكثّفت وتيرة التاريخ في لبنان. على الرغم من عدم تمكّن هذه الانتفاضة من تحقيق قلب تامّ للموازين، شكّلت 17 تشرين نقطة تحوّل أساسية في تاريخ لبنان لا يمكن تجاهلها أو محوها. فكان التراجع في حركة الشارع والتبدّل في وتيرته أمراً طبيعيّاً ومتوقّعاً، ومن الصعب جداً أن يبقى أيّ شارع في زخمه الأوّل لفترة طويلة. جاءت أزمة كورونا لقمع القليل المتبقّي من هذا الشارع.
في هذا السياق، ومع بداية الخروج من الحجر الكوروني، جاءت دعوات في الأسبوع الفائت للعودة إلى الشارع يوم 6 حزيران. احتدم النقاش بين مجموعات الانتفاضة حول الموقف من المشاركة: رفض البعض هذا التحرّك نظرًا إلى أنّ القوى الداعية والشعارات المرفوعة لا تمثّل توجّهات الثورة، فيما رأى البعض الآخر أنّه من الضروري عدم «ترك» الشارع والعودة إلى الساحات. بعيداً من التشنّج الذي رافق هذه الخيارات، يبقى السؤال الأساسي هو: إلى أيّ «شارع» نعود؟
تبدو الدعوة للعودة إلى «شارع اللحظات الأولى»– مع ما تحمل تلك الدعوة من نوستالجيا لأيّام الثورة الجميلة– نابعة من نظرة أو مفهوم دائريّ للتاريخ، ورغبة في أن يعيد هذا التاريخ نفسه بمحاولة لإعادة افتعال مشهد لا يمكن تركيبه من جديد مهما تضافرت الجهود. فحركة التاريخ تسير قدماً، تدفع بنا من مرحلة إلى أخرى، في حين تتعمّق الأزمة الاقتصادية، ويتفاقم الشرخ الاجتماعي، وتتصاعد الثورة المضادة، وتتحوّل يومياتنا في مدن لبنانية عاشت فرحاً وأملاً استثنائياً أيام الانتفاضة، واستيقظت في اليوم التالي على أسىً ووجع وإرهاق لا يقلّ استثناءً. في هذه الظروف، يبدو من الضروري لكلّ حالم بالعودة إلى تلك الأيام الأولى من الانتفاضة أن يقتنع بأنّ تلك المرحلة انتهت إلى لا عودة، وأنّ التتمّات لا تشبه بالضرورة البدايات.
أمّا الدعوة للعودة إلى «شارع المرحلة الثانية» التي دخلنا بها، فهي أكثر موضوعية إذ تعترف بمضيّ الماضي، ولكنّها– في هذا الظرف تحديداً– تبدو أكثر إشكالية.
التنبّه لأهمية حركة الشارع لاستكمال النضال امر بديهي. لكنّ اعتبار أنّ «الشارع» يتّسع لكل الأصوات بالتزامن، أو أنّ لا صوت يعلو في «الشارع» فوق صوت النضال الثوري، هو ضرب من الخيال. فالشارع جزء من مشهد أوسع محكوم بعلاقات القوّة وتناقضاتها. لذلك، يصبح الشارع مساحة صدام بين قوى الثورة والثورة المضادة في المرحلة الأولى. أمّا المرحلة الثانية، فتتّسم أكثر بصدام بين قوى «الثورات» المختلفة من جهة– فتفرز وتقسّم الشارع وهذا أمر ضروري وجيّد– ومن جهة أخرى، بصدام بين قوى الثورات المضادة المختلفة التي تأخذ شكل الاشتباكات الطائفية والمناطقية لإعادة تدوير النظام القائم وإعادة تموضع قواه الأساسية.
في مرحلة كهذه، يصبح التمسٌك بالحراكيّة مهما كانت الظروف ومهما كان التوقيت خيارًا سياسيًا غير صائب. فالتزامن في التحرّك مع قوى تختلف جذرياً عن التوجّه الثوري هو تمييع للمسار التاريخي الذي يحتاج إلى تعميق الشرخ مع التيارات الراكبة موجة الانتفاضة، ورصّ الصفوف مع التيارات الأقرب إلى التوجّه الثوري التغييري. كما أنّ هذه المرحلة تحتاج إلى ابتعاد عن نزاعات قوى الثورات المضادة، وعدم الانسياق إلى هذه اللعبة في الشارع.
ووفق قراءة كهذه، لا يعود التمسّك بالشارع، ولا بالحراكيّة العمياء، أمراً أساسيّاً. فالانسحاب إلى مساحات نضالية أخرى، والتحرّك في ظروف وشروط مختلفة، يبقى خياراً متاحاً لاستكمال المسار الثوري.
في النهاية، الشارع ليس فقط مساحة جغرافية أو مجرّد «مكان» نعود إليه لإيفاء الغرض، إنّما هو أيضاً– وربّما أساساً– مساحة سياسية محكومة بزمنيّة وتوقيت يحدّد معالمه وجدواه.