يوميات اللغة
سارة مراد

إلى ضمير إيتيل المتكلّم

30 تشرين الثاني 2021


أن تكوني كاتبة هو أن تكوني مقيّدة لطاولتك، أن تنتظري موجةً صديقة، وعندما تصل إليك، أن تركبيها، ثمّ ترصفي على ورقة أو على الشاشة سلسلةً من الكلمات، وأن تقنعي نفسك أنها بغاية الأهمية، حتّى وإن كنتِ تدركين أنّه مع وتيرة التحوّلات، سيقضي الزمن على كلّ ما نفعله أو نقوله قبل نهاية القرن. لكن دعينا لا نغرق في الاكتئاب. فعلينا أن نقطّر وجعنا ونسكبه بعناية على جميع أنواع الأسطح حتى ساعة العجز الكامل.
إيتيل عدنان، In the Heart of the Heart of Another Country 

إيتيل، يصعب عليّ التكلّم عنك بلغةٍ لم تكتبي بها، وبلغةٍ ألهمتِ عودتي إليها. يصعب عليّ، فدعيني أبدأ من هنا إذن، من فعل العودة الذي جسّدته كتاباتك لي.  
 
وصلت إليك، إلى طفولتك ومراهقتك في بيروت الثلاثينيات والأربعينيات، من فيلادلفيا، من مكان غربتي الأولى عن بيروت. شكّل نصّك، Growing Up To Be a Woman Writer in Lebanon، نقطة انطلاق فكريّ لي، في السنوات الأخيرة لدراستي في الولايات المتّحدة، وبداية توغّلي في بحثنا كنساء عن سرديات تؤرّخ وجودنا وتوثّق النضالات الفردية والمشتركة، الفكرية والسياسية، التي شكّلت مخاض تحرّرنا. 
 
في سردك للذات الكاتبة - في كتابتك عن ذاتك المتحوّلة وعن السياقات التاريخية والحميمة التي جعلت منك كاتبة - تعودين إلى ماضيك لتروي لنا، نحن قارئاتك، كيف وصلتِ إلى فعل الكتابة، وهو فعل تحرّرك الأول. وجدتُ في هذه العودة، في سردك لماضيك كحالة ترحال بين اللغات، خيطاً يصلني بك، يبيّن لي الامتيازات والفرص والصدف التاريخية التي تقودنا إلى عالم اللغة الذكوري - في الصحافة والفن والسينما والأدب والشعر - الذي لطالما أقصانا.
 
حثّني نصّك على مراجعة علاقتي مع اللغات التي سكنتُ فيها، ثمّ هجرتها. وجدت في عبورك اللغوي من اليونانية إلى الفرنسية إلى الإنكليزية إلى الرسم - في عدم وجود لغة أمّ تعبّرين بها عن نفسك - وصفاً لحال أجيال من الفتيات والنساء - وأنا واحدة منهن - يكتبن بلغة غريبة عنهنّ دون أن يشعرن بالغربة. كما شجّعني النص على الكتابة الذاتية، على استرجاع ضمير المتكلّم الذي كنت قد تخلّيت عنه منذ بداية دراستي الأكاديمية. 

عرفتك أولاً، إذاً، باللغة الإنكليزية، ومن باب السرد الذاتي، ومن خلال الكتابة عن الكتابة. لكن لماذا كتبتِ هذا النص؟ ولمن؟
 
علمت من صديقتك الباحثة والأستاذة الجامعية سعاد جوزيف أنك كتبتِ هذا النص لتلقيه في الكلمة المفتاحية في اجتماع Association for Middle East Women's Studies عام 1986 في بوسطن، وهي رابطة أكاديمية كانت قد أسّستها سعاد في منتصف الثمانينيات. طلبتْ منك أن تتحدّثي عن سيرتك الفكرية. في مطلع حياتها المهنية، وجدت سعاد فيك المرشدة والحكيمة التي كانت تبحث عنها. ووجدتْ في مسيرتك العمق والامتداد الفكري الذي كانت تحتاج إليه كامرأة ومفكّرة لبنانية-أميركية. أرادت منك أن تشاركي مسيرتك هذه مع زميلاتها اللواتي كنّ أيضاً يبحثنَ عن نسلٍ ونسبٍ فكريّ أكثر وداداً ورأفةً. أتخيّلك تقرئين نصّك في قاعة المؤتمر، متوجّهةً إلى حضورٍ من الباحثات والكاتبات والتلميذات والأستاذات. يمكنني القول إنّها كهربت الحضور في هذا اللقاء، تكتب لي سعاد، أتذكّر أنني فقدت القدرة على الكلام. أردت المزيد. لم أرد منها أن تتوقّف عن الكلام. وكأنّها اكتشفت كم كنت أشعر بالجوع، فقدّمت لي بعض الطعام لعلّني أستكين. ولكنّ الطعم زادني جوعاً
 
أدركتُ مع الوقت أن اللغة لم تكن مجرّد أداة للتعبير بالنسبة إليك. فاللغات تحمل طعم التاريخ، تاريخ من ينطق بها. في إحدى آخر مقابلاتك المسجّلة في آذار 2021، تقولين: اللغة هي أداة تفعل بنا. اللغة ليست حيادية، بل هي في علاقة تواطؤ مع التفكير. نحن لا نفكّر بنفس الطريقة في كل اللغات

تفهمين إذن، إيتيل، صعوبتي في الكتابة عنك وفي ترجمة أفكار وأحاسيس وصور ولّدتها كتاباتك بلغةٍ أخرى، لغة إمبراطورية العصر التي اعتنقناها نحن الاثنتين كي نتكلّم مع بعضنا بعضاً. سمحتِ لهذه اللغات أن تفعل بك، كي تنسجي علاقتك مع الأمكنة، مع ماضيها وحاضرها وروحها، مع شوارعها وجبالها وبحارها، مع شموسها وأقمارها. لا حياد في اللغة لك، بل اشتباك دائم مع الواقع المتغيّر ومع الذات المتكلّمة. في اللغة، وجدتِ نفسك، أنفاسك، خلقتِها، جدّدتِها. سيستغرق الأمر حياةً أخرى لرواية كلّ شيء، تكتبين في كتابك In the Heart of the Heart of Another Country، فماذا فعلتُ؟ تنقّلتُ من مدينةٍ إلى أخرى، سافرتُ من ذاتٍ إلى أخرى، ومن ثمّ حاولتُ التعريف عن نفسي من خلال الكتابة…
  
أنا أيضاً، إيتيل، وصلت إلى نصّك في حالةٍ من النقص، بحثاً عن شيءٍ ما. وصلت في لحظةٍ كنت أحاول فيها أن أفهم شعوري بالذنب لكتابتي بلسانٍ أجنبي وباليقين أنّني فقدتُ القدرة على الكلام، على التفكير والتعبير، بالعربية. وصلت في لحظةٍ لم أعد أعرف فيها مع من أتكلّم، ومن أين. فأخرجني نصّك من حالة ارتباكٍ ووحدةٍ لغوية. وجدتُ في كلامك ما يواسيني، وفي ضميرك المتكلّم دعوةً لعودةٍ إلى الذات، إلى كل الأشياء التي خسرناها في وصولنا إلى الكتابة. 
 
إيتيل، لعلّ أجمل ما يولّده الفقدان هو اللغة التي نخلقها للتعبير عنه. ولعلّ أحلى ما في رحيل الآخرين هو عودتنا إليهم. ولعلّ أجمل ما في كتاباتك أنها لن تتوقّف عن الكلام. دعينا لا نغرق في الاكتئاب، فالموج آتٍ. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
وليد جنبلاط في سوريا
جيش الاحتلال يحاصر مستشفى كمال عدوان ويهدّد بإخلائه
الاحتلال يجرف بساتين الليمون في الناقورة
سينما متروبوليس تعود
الجيش اللبناني تسلّم 3 مواقع عسكرية لمنظّمات فلسطينيّة دعمها الأسد
«ريشة وطن»، جداريات سوريا الجديدة 
21-12-2024
تقرير
«ريشة وطن»، جداريات سوريا الجديدة