يسود اعتقاد شائع أنّ كل ما يشهده اللبنانيون اليوم من كوارث ونكبات ذات طابع نقدي ومالي، ومنها انهيار سعر الصرف وتعقد أزمة الودائع، ناتج عن تداعيات مباشرة لحالة الانهيار الاقتصادي. وبالتالي، فإنّ مسؤوليّة السلطات النقديّة السياسيّة اليوم تنحصر في فشلها في الإعداد لخطة اقتصاديّة معقولة، وفي انشغالها بالسجال والخلافات على الحصص الوزاريّة في عزّ الأزمة.
لكنّ دراسة ما يجري على المستوى الاقتصادي تدلّ على أنّ هذه التطورات لم تنجم عن تعقيدات الأزمة نفسها كما كانت الحال منذ سنة، بل عن قرارات مدروسة ومنظمة ومقصودة من ناحية تداعياتها، تذهب إلى تدفيع اللبنانيين ثمن بعض جوانب الأزمة، لحماية مصالح هذه المنظومة الممتدة بين النظامين السياسي والمالي.
أرقام البنك الدولي تشير إلى أن ما تلقّاه لبنان من تحويلات من الخارج بلغ حدود الـ6.9 مليار دولار سنة 2020، وهي قيمة كانت كافية لتغطية عجز الميزان التجاري خلال السنة الماضية، أي الفارق بين صادرات لبنان ووارداته.
علماً أن هذا العجز شهد انخفاضًا كبيرًا خلال السنة الماضية نتيجة الظروف الإقتصاديّة المتردية، وبسبب ارتفاع كلفة الاستيراد بعد الانهيار الكبير في سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
وبذلك، يمكن القول أن انهيار سعر صرف الليرة، لم ينتج فعلاً عن شح بسيط في الدولارات، نتيجة حاجة البلاد للاستيراد وغياب التدفقات النقديّة الخارجيّة كما يتم تسويق الأمر في بعض وسائل الإعلام.
مَن يريد أن يبحث عن أسباب انهيار سعر الصرف، يستطيع أن يسأل عن عمليّة إعادة رسملة المصارف أوّلاً.
فيوم صدر التعميم 154 الذي طلب من المصارف تأمين سيولة في المصارف المراسلة بنسبة 3% من الودائع المدولرة لديها، احتوى التعميم أيضاً على بنود غريبة تطلب «حثّ» عملاء المصارف على اعادة جزء من الأموال التي قاموا بتحويلها في السنوات الماضية إلى النظام المصرفي اللبناني. في ذلك الوقت، أثارت هذه البنود استغراب الجميع لعدم واقعيتها، خصوصاً وأنّ مصرف لبنان لم يملك أي موجب قانوني يفرض على المودعين إعادة أموالهم إلى نظام مصرفي منهار ومتهاوٍ.
لاحقاً، اكتشف الجميع أن هدف هذا البند في التعميم كان التعمية على الآليّة الفعليّة التي ستلجأ إليها المصارف لتأمين هذه السيولة: امتصاص الدولار من السوق الموازية. بمعنى آخر، انقلبت الآية وتحوّلت عمليّة اعادة الرسملة إلى مسار لتعويم سيولة النظام المصرفي، على حساب المعروض من الدولار في السوق المحليّة، وعلى حساب سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
وفي كل الحالات، من حق اللبنانيين أن يسألوا عن غاية هذه العمليّة المكلفة على صعيد قيمة عملتهم المحليّة، خصوصاً وأنّ المصارف تؤمّن هذه السيولة في حساباتها في الخارج، بغياب أي ضمانات تضبط طريقة استعمال هذه السيولة وتمنع استعمالها لحساب قلة صغيرة من اصحاب الودائع.
على مدى الأشهر الماضية، كان مصرف لبنان يتوسّع في خلق النقد عبر:
- الهندسات الماليّة الجديدة التي هدفت لتعويم السيولة لدى المصارف اللبنانيّة، للسماح لها بتكوين المبالغ المطلوبة في عمليّة زيادة الرساميل.
- السماح للمصارف بشراء الدولار النقدي من السوق السوداء مقابل شيكات مصرفيّة، علماً أن هذه الدولارات المصرفيّة سيتمّ سحبها لاحقاً بالليرة.
- خلق النقد لسداد ديون الدولة للمصارف بالليرة، وسداد الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة.
كل ذلك يقودنا للقول:
- ما نشهده اليوم من جحيم لم يعد نتيجة للتعقيدات التي صاحبت انفجار الأزمة الماليّة في تشرين الأول من سنة 2019.
- ما نشهده اليوم هو تداعيات مباشرة لرفض التعامل مع أزمة الدين العام عبر التفاوض على أصل واستحقاق السندات المقومة بالليرة اللبنانيّة، لحماية رساميل المصارف ومصالحها.
- ما نشهده اليوم هو نتيجة لرفض معالجة أزمة الودائع، عبر الاعتراف بالفجوات الموجودة في الميزانيات المصرفيّة ومعالجتها.
- ما نشهده اليوم هو نتيجة أيضاً للحلول البديلة التي ذهب إليها حاكم مصرف لبنان لشراء الوقت، بينما عرقلت المنظومة السياسيّة أي إمكانيّة لإيجاد معالجات يمكن أن تمس بمصالح النافذين في النظام المالي.
أمّا أهمّ ما في الموضوع، فهو أن مسؤولية السلطة السياسيّة لم تعد التغاضي عن التعامل مع الانهيار لانشغالها بتحاصص المناصب الوزاريّة، بل تبدأ مسؤوليتها من عرقلتها لجميع الخطوات المطلوبة للمعالجة الفعليّة التي يمكن أن تصبّ في مصلحة عموم اللبنانيّين من أصحاب الدخل المحدود. وفي مقابل ذلك، بقيت الساحة خالية لحاكم المصرف المركزي، ليرسم الحلول التي تتناسب مع مصالح المنظومة المتقاطعة مع مصالح المصارف وأصحابها.