تعليق مصر
رشا عزب

بوتيك القاهرة الخديوية 

إحلال طبقي وهدم وشعب أليف

18 كانون الأول 2025

عبرنا من الممرّ الصغير الذي يربط منطقة سينما راديو بعدّة شوارع داخلية بوسط البلد، وتوقّفنا فجأةً عند مشهد المكوجي داخل الفاترينة. ابتسم الرجل مضطرّاً، مثل من يؤدّي دوره على المسرح، توقّفنا لثوانٍ وارتبكنا، قالت صديقتنا السبعينية: مش عايزة أمشي من هنا تاني، كان ماله شارع طلعت حرب؟
كنتُ أعتقد أنّنا حصلنا على جرعةٍ كافيةٍ من الصدمة حين شاهدنا المشهد على الانترنت، لكنّ وقعه الحقيقي كان أكثر إرباكاً  وإيذاءً ممّا توقّعنا. الرجل المسنّ يقف داخل الفاترينة، ونحن المارّة، لم يسعنا حتّى أن نبادله الابتسامة، من وطأة الارتباك.

أستخدم هذه الممرّات منذ سنوات، كطرقٍ آمنةٍ وطيّبةٍ لعبور وسط البلد من بطنها، تختصر المسافة والجهد، من دون اللجوء إلى شوارعها الرئيسية العمودية المزدحمة. ولكن للاستثمار المتوحّش رأيٌ آخر. ظلّت هذه الممرّات الجزءَ الأكثر وداعةً من الشوارع الغارقة بنيون الإعلانات، الممرّات كمساحة للتنفّس في بركان ضجيج وسط البلد. صارت الفاترينات للعرض أيضاً، ولكنّها هذه المرّة لن تعرض الأحذية والملابس، بل سوف تعرض البشر! ستحصارك المدينة المزيّفة.

إحلال أو هدم

الآن فقط وسَط القاهرة يتغيّر بقسوة. نركب القطار المتاح أم نتجاهله تماماً، ونجلس على الرصيف في حالة تأمل وحسرة إجبارية. الطرق المفتوحة تؤدّي إلى اتّجاهَين:

  • الاتّجاه الأوّل، هو حيث يُحتَفَظ بالمباني القديمة التي يعود تاريخ بعضها للقرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر. لكنّنا لن نصبح سكّان هذه المباني، ولن يعيش فيها سكّانها الأصليون، فقد أُعدَّت عملية طردهم بعد إقرار قانون الإيجار الجديد، وخلال سنوات معدودة سوف تُخلى هذه المباني. ثروةٌ عقاريةٌ ضخمةٌ في انتظار الدولة والملّاك وشركات التطوير العقاري التي بدأت بالفعل عملية الإحلال الطبقي لمناطق وسط القاهرة، مع دخول رؤوس أموال لا تعرف سوى مضاعفة قيمة الاستثمار. وحينما افتُتحت النسخة الجديدة من هذه المباني، أُطلق عليها كلّها اسم «فندق بوتيك». لم يقترب منها السواد الأعظم من روّاد وسط البلد السابقين، الطلبة والحرفيين والموظّفين وسكّان الأحياء الشعبية المتاخمة لوسط البلد. أصبحت هذه المباني قبلةً للأغنياء والسائحين وسكّان الكمبوندات في «إيجبت المتخيّلة»، وهي اللفظة المقابلة لسكّان مصر الشعبيين. فهم يعيشون في أحياء ذات أسوار، مُهندسة للعزلة، ويقضون إجازاتهم في صورةٍ مزيّفةٍ مصطنعةٍ لوسط البلد. يبدو أنّهم غير قادرين بعد على ممارسة الحياة العادية، ولو خرجوا من الأسوار.
  • الطريق الثاني هو الهدم. وهو ما يحدث فعليّاً في الأحياء القديمة المتاخمة لوسط القاهرة. ففي الامتداد العمراني للقاهرة الخديوية (تصل حدودها من ناحية الشمال إلى العبّاسية ونهاية شارع رمسيس، وجنوباً إلى أحياء مصر القديمة والعاصمة الأولى للقاهرة، الفسطاط)، تمتلئ هذه المناطق بمبانٍ يعود تاريخ بعضها إلى مطلع القرن الماضي، ومن المفترض تصنيفها آثاراً أو مبانيَ ذات طابعٍ معماريٍّ مميّز. لكنّها بالحقيقة تقع فريسةً لمقاولي الأحياء الذين يتعاونون مع الملّاك لتفريغ المباني من السكّان وهدمها لبناء أبراج كريهة. ونظراً لوقوعها في مناطق لها قيمة سوقية كبيرة، استُهدفت من قبل الدولة وشركات الاستثمار العقاري، وطُرد منها عشرات آلاف الفقراء الذين كانوا يعيشون في هذه المناطق. لم يرضَ النظام أن يعيش فقراء بجوار النيل، أو في مبنىً عمره يتجاوز مائة عام في ضواحي وسط البلد. هُجّروا قسرياً وتحت وطأة التهديد الأمني والسلاح إلى مناطق نائية بعيدة عن كل ما يعرفونه في مدينتهم. تغرّبوا، وضاعوا.

التغيير العنيف الواقع فعليّاً الآن يركّز على تغيير البنية السكّانية للعاصمة الأكثر ازدحاماً في أفريقيا: القاهرة. وهذا التغيير كان وما يزال هدفاً للنظام السياسي في مصر منذ سنوات. قبيل الثورة، حينما كانت تحكم عائلة مبارك، عُرف المخطّط باسم القاهرة 2050، وشكّل هذا المشروع الواجهة الحضارية لمشروع توريث جمال مبارك للحكم. ذلك أنّ كلّ حاكم يمرّ على القاهرة، تصيبه الحمى وتصيبنا اللعنة. كلّهم يريدون ترك بصمتهم الشخصية فوق القاهرة، بينما يرزح شعبها الذي يُقدّر بـ26 مليون شخص تحت وطأة الفقر والاستبعاد والتهميش. كلّنا أسرى خيالات القائد، وما يؤكّد أنّ مآرب الدولة العميقة في مصر لا يتمّ التراجع عنها بسهولة، أنّ مشروع التوريث لنجل مبارك فشل بينما مشروع العزل الطبقي للقاهرة، سارٍ وبقوّة؛ بل بطريقةٍ أسوأ، وأكثر قسوةً وفداحةً ممّا تخيّل الجميع.

عزلٌ مضاعف: طبقيّ وسياسيّ

ظلّ أساس المشروع تفريغ الفقراء والمستأجرين من العاصمة القديمة، لتصبح واجهة الحضارة الجديدة الموعودة، حضارة الإسمنت المسلّح والبيوت الزجاجية الزرقاء. بعض المنازل التي هُدمَت في بولاق ومثلّث ماسبيرو، وعرب يسار تحت قلعة محمد علي، يعود بناؤها للقرن الثامن عشر، لكن هذا لا يهم. المهمّ هو التخلّص من كل البؤر البشرية التي يمكن أن تُؤَجّج الغضب والاحتجاج في السنوات المقبلة. عجينة السكّان التي أفرزت ثورة يناير، تمّ تفكيكها تماماً خلال العقد الماضي. فبعد أن خرجت الطبقة الوسطى والأفندية وشباب الفيسبوك وتويتر يوم 25 يناير، هُزموا وعادوا إلى المنازل، بعد أوّل كسحة للشرطة في ميدان التحرير. ثم خرج سكّان الأحياء الشعبية المتاخمة لوسط البلد في 28 يناير، وظلّ هذا اليوم هو يوم الثورة الحقيقية الكاسحة. فُتحت المواجهة مباشرةً بين الشعب والسلطة التي هُزمت بضربةٍ قاضية وخلال ساعات معدودة. أُحرقَت كلّ مقارّ الاستبداد في العاصمة القديمة! هذا هو الدرس الذي لم تنسَه الدولة العميقة في مصر. ولذلك كان أوّل الدروس بالمقابل، تفريغ هذه المناطق السكنية التي خرج منها المحتجّون، وإبعاد كل مقرّات الدولة إلى الصحراء مع رقابة أمنية عالية، لكسر عملية حصار المؤسّسات الحكومية كما جرى في أحداث ثورة يناير.

إذاً إنّها عملية ممنهجة لخدمة النظام وحمايته من الشعب إذا غضب. وعندما تبني الدولة عاصمةً جديدةً في الصحراء، يحتارون جميعاً في تسميتها أو وصفها. فمنحوها فقط صفة العاصمة الإدارية، للتأكيد على أنّها عاصمة الدولة، بينما عاصمة الناس يُعاد هندستها عبر سياسات أمنية وسياسات ربحية فقط.

ومن تاريخ القاهرة، نتوسّل الرجاء، حيث يغيّر التفاعل البشري دائماً خطط الحكومات والأنظمة. مَن كان يتصوّر أنّ القاهرة الخديوية التي يريدون إحياءها، تأسّست لخدمة الخديوي ورجاله من الأعيان والأجانب، وكان دخول المصريّين لهذه الضواحي الجديدة الفاخرة، لخدمة كل هؤلاء فقط، ثمّ جاءت إرادة الجمهور ووقعت التفاعلات البشرية غير المحسوبة، وصارت أحياءً للناس، رغم أنف الخديوية القديمة وبشاعة بوتيك الخديوية الحديثة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
ساعر: أمنيتنا التطبيع مع لبنان
هدم كنيسة السيّدة في الخيام 
قانون الفجوة الماليّة: مكائد المصارف وشروط الصندوق
18-12-2025
تقرير
قانون الفجوة الماليّة: مكائد المصارف وشروط الصندوق
تعليق

بوتيك القاهرة الخديوية 

رشا عزب
المباحث الجنائية تستدعي ناشطي مغارة الفقمة 
17-12-2025
تقرير
المباحث الجنائية تستدعي ناشطي مغارة الفقمة 
حدث اليوم - الأربعاء 17 كانون الأول 2025
17-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الأربعاء 17 كانون الأول 2025