المشهد واضح هنا. عسكر يجوب شوارع مدينة منكوبة، خلت من جماهير تشرين المليونيّة. شعب مخطوف في أرضٍ محروقة، تنهشها قوى المال والسلاح. مدينة مدّمرة ومحاصرة، يحاول سكّانها الهروب منها حتى ولو موتًا. إنّه نظام احتلال.
استباح نظام الاحتلال كلّ شيء. خرج عن اللعبة السياسية عندما أعلن حربه الاقتصادية علينا. ولم تعد تعنيه نتائج الانتخابات الفائتة أو المقبلة، ولا مراعاة أيّ رأي عام. توحّدت أحزابه المتصارعة لكي تحمي بعضها بعضاً، ولم تعد تأبه بإخفاء بنية النظام الطبقيّة وملامحه الاستبداديّة والمافيويّة. مع الانهيار، أعلن النظام حربه علينا، وقرّر المضي فوق جثث ضحاياه الذين سقطوا بحراً وجوعاً وتفجيراً وقهراً، غير آبهٍ بالمآسي التي يخلّفها وراءه.
لم نعد في صراع سياسيّ على الشرعيّة. أصبحنا في حرب وجودية ضدّ نظام يقتلنا ليحمي مصالحه.
لم تعد تكفي بعد اليوم البدائل الإصلاحيّة والانتخابيّة والأخصّائية، ولا حتّى الرهان على الخارج لإسقاط هذا النظام. فسقطت معادلة «الزعران والأوادم» التي أوهمت البعض بأنّ النظام مكوّن فقط من نخب فاسدة، يمكن استبدالها من خلال الأطر الدستوريّة. كما سقطت سردية «البديل السياسي» التي تجاهلت بنية النظام الماديّة والاقتصاديّة المتجذّرة في مجتمعنا عبر قنوات زبائنية وشبكات حماية مرسّخة في الخوف والابتزاز الدائم بالحرب. سقطت تلك الخيارات اليوم، ولكنّها كانت كفيلة في السنة الفائتة بإضعاف الديناميّة الثوريّة وعزل الثورة عن محيطها.
لم يعد هناك بديل للتحرّر من نظام الاحتلال سوى المقاومة.
لن ينجح بعد اليوم خيار بلورة البدائل ضمن شروط لعبة النظام. فالبديل بات يتطلّب استبدال البنى التحتيّة والشبكات الاجتماعيّة للنظام وكسر هيمنته الاقتصادية والسياسية والثقافية… وبناء واقع آخر. بعد جريمة 4 آب، رفع شبّان شعار «نحن الدولة» وهم متسلّحون بمكانسهم لكي يرسموا ملامح مجتمع مقاوم أدار ظهره لركام النظام، وقرّر استبداله حجراً بعد آخر. ورغم سطوة المنظّمات غير الحكوميّة على الأحياء المنكوبة وسرديّة طائر الفينيق الحقيرة وعنصريّة الكثيرين في العمل الإغاثي، برزت في شوارع الجعيتاوي والكرنتينا ومار مخايل وغيرها، أشكال من العمل التضامني القاعدي، باشرت بإعادة ترميم علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية وتحريرها من سطوة النظام.
المجتمع المقاوم هو الذي يستبدل وحشيّة الرأسمالية وذلّ الزبائنية باقتصاد محلّي تعاوني بديل، ينحاز للعمّال ويكرّس التضامن. المجتمع المقاوم هو الذي يسقط الديمقراطيّة التوافقيّة المزيّفة ومركزيّة العاصمة، ويخلق أطراً تشاركيّة حقيقيّة في الأحياء والقرى. المجتمع المقاوم هو الذي يحرّر النقابات والبلديات من سطوة النظام، وينتج إعلاماً وفنّاً وثقافةً تتحدّى السرديّات المهيمنة. المجتمع المقاوم هو الذي يستعيد حقّه في الحلم والخيال السياسي، ويبتكر لغة سياسيّة وأدوات مقاومة جديدة. المجتمع المقاوم هو 17 تشرين جديد في كلّ لحظة وفي كلّ مصرف وشارع وبيت ومقرّ حكومي وشاشة تلفزيون…
يحتّم تحوّل المعارضة السياسيّة الى مقاومة فعّالة تغييراً جذرياً في الاستراتيجيات والأداء. فالاعتراض المعتاد بات يكرّس حالة الشلل والإحباط، في خضوعه لإيقاع الأزمات وردّات الفعل الموسمية. فبدل الخضوع لزمن النظام، فلنبنِ مؤسسات سياسيّة ونقابيّة متينة تستطيع الاستفادة من 17 تشرين مقبلة لفرض تغيير جذري. وبدل الإصرار على إظهار توافق مزيّف رغم خلافاتنا السياسيّة العميقة، فلنتجرّأ بإبراز تمايزنا السياسي مع العمل على بلورة إجماع ثوري حقيقي.
وأخيراً، فلنتمسّك بالشارع، لأنه منذ 17 تشرين، أعاد الحياة إلى أجسادنا الكئيبة، ولو للحظات.