فكرة طوفان الأقصى
سمير سكيني

«نسج الخيال ودرب المستحيل»

الواقع والخيال بين حماس وإسرائيل

5 تموز 2024

1. علاقة الواقع بالخيال، من جهة إسرائيل

مطلع نيسان 2024، انسحب الجيش الإسرائيلي من محيط مجمّع الشفاء الطبّي، بعد تدميره كلّياً. وانكشفت، مع عودة أهل المنطقة، جرائم حرب مهولة: مقابر جماعية وجثث متحلّلة، بعضها مكبّل اليدَين؛ معدّات طبّية أُحرِقَت عمداً، كذلك المنازل المجاورة…

جاء ذلك بعد أربعة أشهر على اقتحام المستشفى مرّةً أولى، بذريعة أنّ لحماس أنفاقاً تحته. على أي حال، نمط الدمار الذي انكشف بعد الاقتحام الثاني، ينفي بالواقع أن يكون تدمير المستشفى مرتبطاً بأنفاق حماس أو مقاتليها. حتّى أنّ إسرائيل لم تلجأ لمثل هذه التبريرات. كان هدف الحملة بديهياً: التهجير والإبادة.

رغم ذلك، حاولت إسرائيل (والأهمّ: مناصروها) تجاوز هذه البداهة.
وإذ ظهرت هذه البداهة بفعل الواقع الذي تلا الاقتحام، فإنّ تخطّيها لا يصير عبر نفيها، بل عبر تخطّي هذا الواقع، أي تفسيرها بما هو خارج الواقع.

في تقريرٍ عن الموضوع، على شبكة «سكاي نيوز»، يعلّق المحلّل العسكري شون بيل: «حماس نفَت أن تكون قد استخدمت المستشفى كغطاء. لكن يصعب تخيّل أن يكون الجيش الإسرائيلي قد أمضى أسبوعَين وهو ينظّف المنطقة بهذا الشكل لو لم يوجد شيءٌ هناك».

اللافت هو أنّ الإدانة موجودة بالتعليق نفسه: «الجيش الإسرائيلي قد أمضى أسبوعَين وهو ينظّف المنطقة بهذا الشكل». هذا هو الخبر، هذا هو الواقع. لكنّ نفي الإدانة، أي تجاوز الواقع، لم ينفِ الواقع. لم يقل أحد: «إسرائيل لم تنظّف المنطقة». بل تمَّ تجاوز الواقع بواسطة خديعة من خارجه: «يصعب تخيّل أن يكون الجيش الإسرائيلي… لو لم…».

هكذا يبرّر العقل الإسرائيلي محطّةً إباديةً، فقط لأنّ مخيّلته عجزت عن قبول السبب الواقعي لمثل هذا الاقتحام، من دون وجود حماس مثلاً— بل أكثر: من دون وجود «شيء» هناك. بترتيبٍ آخر: لتبرير الواقع الإبادي، لا ينظر المحلّل إلى الواقع، بل «يتخيّل شيئاً» هناك، حتّى لو لم يكن.


وقائع الاقتحام الأوّل لمستشفى الشفاء لافتة بدورها. لتبريرها، سلفاً، عرض الجيش الإسرائيلي نموذجاً ثلاثي الأبعاد عن قاعدة مزعومة لحركة حماس تحت المستشفى. طبقاتٌ من الأنفاق، مكاتب وكراسٍ، أسلحة ومقاتلون، حتّى عَلم الحركة موجود. مهّد الاحتلال حملته على هذا الأساس المُفتَرَض، من دون أن يقدّم بعد الاقتحام أي دليل واقعي يُلاقي مزاعمه.

أُمَيّز هنا بين «الكذب»، وبين «تجاوز الواقع» (بالخيال مثلاً). هذا النموذج المفترَض ليس كذباً فحسب. ليس بروباغندا فحسب. هو يُخاطب المتفرّجين على مستوى الخيال، يجعلهم يتخيّلون قاعدة لحماس تحت المستشفى، من خلال تقديمه لهم سنداً بصرياً أوّلياً.


ضمن المنطق ذاته، في 2 نيسان 2024، استهدفت مسيّرة إسرائيلية موكباً يتبع لمنظّمة «المطبخ المركزي العالمي»، وقتلت فريقاً من 7 أشخاص. كانت تبِعات الاستهداف كارثية: علّقت المنظّمات الإنسانية أعمالها، ثم انقضَّت إسرائيل على القوى المحلّية التي حاولت متابعة المساعدات، إلى أن بلغت المجاعة درجةً غير قابلة للعكس.

إذاً كانت التبِعات كارثية. ضربةٌ واحدة حقّقت أهدافاً كثيرة لإسرائيل، كما هو بديهي. مجدّداً، تتدخّل المخيّلة الإسرائيلية لتجاوز البداهة وتبرير الواقع الإبادي، ويُصاغ الخبر كالتالي: «مسيّرة للجيش الإسرائيلي تقصف موكب المطبخ المركزي العالمي ثلاث مرّات، مستهدفةً عنصراً مسلّحاً من حماس، لم يكن هناك».

مرّة جديدة، الإدانة حاضرة بالنفي نفسه. «المسيّرة تقصف». ثم الخبر يؤكّد: «مستهدِفةً عنصراً مسلّحاً من حماس»، وها هو المتفرّج يقتنع بمشروعية الاستهداف. ثم هوووب، تعود من جديد المساحة الخارجة عن الواقع: «… تبيّن أنّه لم يكن هناك». هكذا، رُدَّت محطّة إبادية أخرى لا إلى «خطأ» فحسب، بل إلى «تهيُّؤٍ»، «تخَيُّلٍ» تَبيَّنَ في مرحلةٍ لاحقة فقط أنّه لم يكن حقيقة.


مثالٌ أخير، هو متابعة العالم توظيف إسرائيل للعنف الجنسي كسلاحٍ حربي، لتبرير الإبادة بحقّ الفلسطينيين. ثم تابعنا كيف أنّ هذه المزاعم دُحِضَت تِباعاً. لكنّ اللافت، إن دقّقنا بالمزاعم، هو أنّ بعضاً منها لم يكن واقعياً بالأساس. بعض الشهادات المزعومة لا تتضمّن اغتصاباً بالأساس، بل تتخيّله، ويصبح هذا التخيّل تُهمة، لتصبح التهمة حقيقةً تُتيح القتل.

الأسيرة الإسرائيلية المُفرَج عنها، ميا شيم، تصف فترة الأسر كالتالي: «ثمّة إرهابي ينظر إليك 24/7، يغتصبك بعينيه». هكذا، قرّرت شيم ماذا يفعل المسلّح: يغتصبها— بعينيه. بل أكثر، قدَّرت شيم أنّه كان يتّجه إلى اغتصابها بالفعل، «لكنّ زوجته كانت في الخارج مع الأطفال، ولهذا السبب فقط، لم يغتصبني». مرّة جديدة، لا يتضمّن الواقع أي عنفٍ جنسي، إنّما تفترض الرهينة وقوعه، بواسطة مخيّلتها، ويتلقّى العالم هذا التهَيّؤ على أنّه الواقع.


يمكن توسيع علاقة الواقع بالخيال من جهة إسرائيل وفق مقاربةٍ أخرى: لقد لجأت إسرائيل، خلال هذه الإبادة، إلى أشكالٍ من القتل «لا يمكن تخيّلها». وهي عبارة كثُر تكرارها في غزّة، على ألسنة أهلها، كما تكرّرت على ألسنة المُتابعين من خارج غزّة. لقد خرّبت إسرائيل الواقع بشكلٍ لم نألفه من قبل، ما يجعل «من الصعب» تخيّل أشكال الدمار إن لم نرَها بعيننا. 

ومع ذلك، علينا أن نتخيّل. رغم هوله، ما يحدث في غزّة لا «يفوق الخيال». هذا ليس انتقاصاً من الفظاعة، ولا ادّعاءً بمعرفة خبايا الإبادة. ثمّة أشياء لا نعرفها؟ أكيد. لكنّ ما يحدث لا يفوق الخيال، بل يدفع الخيال إلى أقصى حدوده. يفتح هذه الحدود. يرغمنا على مواجهة الإبادة من داخل جمجمتنا، وليس بالعَين فقط، ليس على شاشاتنا فقط.

بالمحصّلة ووفق المقاربتَين، يلجأ العقل الإسرائيلي إلى ميدان الخيال بهدف تخريب ميدان الواقع أكثر، أو بهدف تبرير هذا التخريب إن كان سببه الفعلي بديهياً.


2. علاقة الواقع بالخيال، والخيال بالواقع

علاقة الواقع بالخيال من جهة إسرائيل أُحادية على الدوام. تمشي باتّجاهٍ واحد. الواقع أمامنا، معلوم، وإسرائيل توظّف الخيال لتخريبه. يوظّف الاحتلال كل مَلَكات العقل بخدمة التخريب. لا أكثر، لا أقلّ.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ تخريب الواقع لا يقف عند الأحياء، بل يطال الموتى أيضاً. شاهدنا، في هذه الإبادة، تعمّد الاحتلال تخريب معظم مقابر قطاع غزّة. غالباً بذريعة البحث عن رفات أسراه. بالحقيقة، هذا التصرّف الواقعي للغاية، يجد جذوره في عالم الخيال.

ترتكب إسرائيل عنفاً خاصّاً بحق الشهداء الفلسطينيين. توسّع الباحثة سنابل عبد الرحمن هذه النقطة في مادّةٍ عنوانها «مقاربات للتحرّر الفلسطيني: الواقعية-السحرية كأدب مقاومة»، وتستند إلى دراسةٍ للأكاديمية نادرة شلهوب-كيفوركيان. تُشير الأخيرة إلى «الرعب والفزع اللذان تختبرهما الدولة الإسرائيلية، في ما يتعلّق بـ«عودة» الفلسطينيين الموتى أو أشباح الشهداء». يُغذّي هذه الفكرة تقليدٌ طويل في الأدب المقاوم، يجعل من الأشباح شخصيات أساسية في الروايات الشعبية. نتجاوز الواقع، ويدخل ميدان الخيال كوسيلة تحثّ الفلسطينيين على تغيير هذا الواقع باستمرار. بالمقابل، «تخاف إسرائيل الفلسطينيَ «الحَي-الميت»، تحديداً لاعتبارها بأنّه قادر على الوجود في العالم المادّي، وقادرٌ على المقاومة».
تفزع إسرائيل من هذا الخيال، وتحرص على منعه من أن يصبح حقيقة: تدمّر القبور؛ تخرّب جثث الشهداء؛ ترميها في مقابر جماعية حتّى التحلّل؛ تقتل بشكلٍ يُخرج الجثّة من أشكالها المعلومة؛ تحتجز الجثّة…

هذه المقاربة تكثّف علاقة الواقع بالخيال وعلاقة الخيال بالواقع، وتكثّفهما ربطاً بالطرفَين: المقاومة، والاحتلال.


3. علاقة الواقع بالخيال، من جهة حماس

قد يتّخذ فعل المقاومة نفسه أشكالاً «خيالية». 7 أكتوبر مثلاً. ألم يكن ضرباً من الخيال— للوهلة الأولى؟ من اللافت التفكير بعلاقة الواقع بالخيال (والخيال بالواقع) من ناحية المقاومة الفلسطينية، عموماً، وحركة حماس خصوصاً. ألم يصف الناطق باسم الحركة، أبو عبيدة، المعارك التي يخوضها إخوته على أنّها «أسطورية، تبدو من نسج الخيال ودرب المستحيل»؟

في مقالٍ عنوانه «فلسطين تتكلّم عن الجميع»، تصف الأكاديمية جودي دين مشهد المظليّين الفلسطينيين الذين تجاوزوا الجدار الفاصل بـ«المنعش». ثم تتتبَّع مثالاً يكشف كيف يتكثّف الخيال المقاوِم: الطائرة الورقية. تُلاحق دين فكرة «المظلّات» الفلسطينية: من عملية العام 1987، إلى كثافة حضور الطائرات الورقية بين أطفال غزّة، ثم البالونات الحارقة المُرتَجلة خلال مسيرات العودة 2018، فمظليّي حماس وطائرة الزواري، وصولاً إلى حضور الطائرة الورقية حتّى في رثاء الشهيد رفعت العرعير لنفسه: «كي يبصر طفلٌ في مكانٍ ما من غزّة [...] / طائرتي الورقية التي صنعتَها أنت / تحلّق في الأعالي / ويظنّ للحظة أنّ هناك ملاكاً / يُعيد الحب».

هذه المشاهد الرمزية، «الخيالية»— (أضعها بين مزدوجين بما أنّها عَين الواقع)، تولّد انطباعاً في ما بيننا بأنّ تجاوز الاحتلال ممكن. الاستحالات والحتميات التي يكرّسها الاحتلال، هي بالحقيقة قابلة للتخطّي. هنا، اللجوء لما يتجاوز الواقع اليومي، يساهم بزعزعة الواقع اليومي نفسه، وقلب الوضع القائم الذي يسعى الاحتلال إلى تأبيده.

المُخيّلة تُحرِّر، تفتح ثغرةً بالجدار الفاصل. أو ربّما ترفع من فوقه.


عبْر مَثَل الطائرة الورقية، تسحب جودي دين عمل الخيال / الواقع على عدّة عقود. لكن يحدث أحياناً أن تتبلور هذه العلاقة بمجرّد جزءٍ من الثانية. بتاريخ 25 أيار 2024، تمكّنت كتائب القسّام من أسر 3 جنود إضافيّين. أعلن أبو عبيدة الخبر بخطابٍ له أهمّيةٌ عسكرية، وأُخرى معنوية.

وقد راعى أبو عبيدة هذا الجانب، وحرص على تحفيز خيال المستمعين، بطرفةٍ خطابيةٍ وجيزة، إذ أعلن أنّ المقاتلين انسحبوا من مكان العملية، «بعد أن أوقعوا…» يصمت أبو عبيدة، ويُعيد الجملة: «بعد أن أوقعوا جميع أفراد هذه القوّة بين قتيلٍ وجريحٍ وأسير» من الطريف الملاحظة أنّ في الخطاب المنشور على يوتيوب، عبر قناة «الجزيرة»، لحظة الصمت هذه هي الـmost replayed، اللحظة الأكثر مشاهدةً.

هذا الصمت اللحظَوي، ألا يخاطب المخيّلة بالتحديد؟ بعد أن أوقعوا ماذا؟ احتمالات كثيرة يتخيّلها المرء بجزءٍ من الثانية، قبل أن يقدّم أبو عبيدة الخبر اليقين، لا سيّما أنّ هذه كانت (على ما أعتقد) المرّة الوحيدة التي يصمت فيها الناطق في منتصف جملته، ثم يعيدها من بدايتها.

وقد انتشر فيديو يعبّر عن هذه اللحظة بالتحديد، حيث يجلس عددٌ من المستمعين أمام تلفازٍ في غزّة، وعند لحظة الصمت يشدّون على كراسيهم، يقفون نصف وقفة، مشدوهين — يُعلَّق الوقت لحظة — وما إن يستكمل أبو عبيدة كلمته حتّى ينفجر هتاف الجالسين. 


بعد دقائق على هذا الإعلان، نشرت كتائب القسّام لحظات من العملية، تُظهر جثّةً تُسحب في نفق. هذا كان جندياً يسير في شوارع جباليا، يتسلّل إلى فتحة النفق، ثم هوووب: «بلعته الأرض». وتذكّرت، عند مشاهدة الفيديو، خطاباً سابقاً لأبو عبيدة (16 تشرين الأوّل)، قبل الاجتياح البرّي، يقول فيه إنّ «رمال غزّة ستبتلع أعداءها».

التحذير الذي اعتبره المُحتلّ مجازاً، أو ضرباً من الخيال، جعلته المقاومة حقيقةً، واقعاً.

تزامنت هذه العمليات في جباليا مع عملياتٍ نوعية أخرى في رفح. نشرت القسّام بعض المشاهد، ويظهر فيها ثلاثة مقاومين، يخرجون من نفق، يفخّخ مقاومان دبّابتَين، ويرمي الثالث دبّابةً ثالثةً بقذيفة ياسين 105. استغرق ذلك كلّه 24 ثانية. أثخنوا بالمحتلّ، ثم يقول أحدهم «انزل انزل انزل»، ويعودون إلى نفقهم سالمين.

«انشقّت الأرض وبلعتهم».


وقد تكون الأمور على هذه البساطة بالفعل.
المقاومة تعني أن تجعل المجاز حقيقةً، وتجعل الواقع ضرباً من الخيال.

في الأمثلة المذكورة، انجذابنا نحو الواقع سببه أنّ الخيال ساهم بفهمنا هذا الواقع. ما شاهدناه لم يكن «الواقع العادي»، إلّا أنّه كان واقعياً للغاية. في هذه الإبادة، وما سبقها، طوّعت إسرائيل المخيّلة للواقع، فيما طوّعت حماس الواقع للمخيّلة: فتحت حدوده، كي نرى الاحتمالات التي لها أن تأتي.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
إسرائيل تدمّر مبنى المنشية الأثري في بعلبك
جماهير «باريس سان جيرمان»: الحريّة لفلسطين
مطار بيروت يعمل بشكل طبيعي
فكشن

الدني بتهزّ، ما بتوقاع

عمر ليزا
37 شهيداً في عدوان يوم الثلاثاء 5 تشرين الثاني 2024