عُقدت قبل يومين القمّة العربية لمناقشة إعادة إعمار غزّة، حيث اقترحت مصر مخطّطاً وافق عليه الحاضرون، واعترضت عليه الولايات المتّحدة وإسرائيل. التعليق السهل هو أنّ هذه خطوة إيجابية سياسياً، لا سيّما وأنّها جاءت ردّاً على «ريفييرا غزّة» التي اقترحها ترامب. (هذا، بصرف النظر عن أنّ هذه الدول العربية نفسها صمتت تجاه الإبادة، أو تواطأت معها، أو حتّى هيّأت شروطها. سنفترض أنّ هذا موضوعٌ آخر).
اللافت أنّ نقاشات *إعادة الإعمار* ارتكزت إلى سؤال الحكم والسلاح وحماس وإسرائيل، من دون نقاشٍ يُذكر لسؤال الإعمار نفسه. وكأنّها مجرّد مسألة عرضية: هكذا، نضع بعض المباني هنا، بعض المباني هناك، نرمي الناس فيها، ويلّا، على الأقل لم يُهجَّروا من غزّة. عدا عن أنّ هذا «التكاتف» العربي المفاجئ نصرةً لغزّة، والمتأخّر، يوحي بأنّه لم يأتِ من باب التضامن مع أهل غزّة أنفسهم، بل من باب الخوف من تداعيات تهجيرهم إلى البلاد العربية. لكن حسناً، هذا نقاش آخر.
قد يجد البعض أنّ هذا الجانب ثانوي الآن، عقب «انتهاء» الإبادة وضغط نتنياهو لتجديدها والضغط الأميركي الرهيب لتهجير أهل غزّة. لكنّ الفكرة تكمن في أنّ التنظيم المُدني سلاحٌ سياسيٌ، وأنّ العمارة لا تأتي من خواء، بل تُترجِم توجّهاً سياسياً محدّداً للغاية، وأنّ اعتماد الدول العربية لمخطّط كذلك المطروح، هو– برأيي– استكمال للإبادة. هذا مخطّط يُحقّق، بجانبه العمراني، رغبات إسرائيل السياسية. ولا مبالغة إن قلنا أنّه يُترجم معظم النقاط التي تمسّك بها نتنياهو ثم تخلّى عنها أثناء مفاوضات وقف الحرب.
في ما يلي بعض المقتطفات من الخطّة، بجانبها المعماري، وسنرى تأويلاتها في السياسة. حتّى وإن افترضنا حسن النية، وحتّى وإن قلنا إنّ الأولوية اليوم هي للإسكان أيّاً يكن شكله [كذا]، وحتّى لو نزعنا الجانب السياسي عن الموضوع، يبقى هذا المخطّط بأفضل أحواله مشروع سنة أولى لطلّاب العمارة، وفي أسوأ الأحوال، مشروعاً انتخابياً لحاكمٍ جديدٍ لا يرى الناس.
1. المزارع كمساحة عازلة
في مفاوضات الهدنة، تمسّك نتنياهو ببقاء قوّاته داخل قطاع غزّة في شريطٍ حدودي عازل طوله 1.1 كيلومتر، بذريعة تأمين مستوطنات غلاف غزّة. مع الإشارة إلى أنّ عرض قطاع غزّة يتراوح من 10 إلى 6 كيلومترات، أي أنّ الـ1.1 كيلومتر تُقارب خُمس عرض القطاع. نسبة مُعتبَرَة! من جهتها، وتحت ستار «التنمية الخضراء»، أنشأت الخطّة المصرية شريطاً زراعياً على طول حدود القطاع، وظيفته الفعلية أن يكون «منطقةً عازلة»، لا مساكن فيها، مجرّد مساحات زراعية، يسهل مراقبتها وتأمينها عسكرياً من قبل إسرائيل. اللافت أنّ هذه العقلية العربية يقابلها، من جهة إسرائيل، إنفاق إضافي على مستوطنات غلاف غزّة، لا من باب هوس «التطوير العقاري»، بل تحديداً لاعتبارات سياسية - عسكرية تتعلّق بشدّ الخناق على غزّة.
يُشار إلى أنّ هذه «المنطقة الزراعية» هي تحديداً المناطق التي صبّ الاحتلال جامّ غضبه عليها ومحاها (بيت حانون مثالاً). عملياً، تقول الخطّة لسكّان هذه المناطق: «لن تعودوا إلى منازلكم، سنستكمل نحن تهجيركم القسري، لكن على الأقلّ داخل القطاع نفسه. سندفعكم إلى الحدود البحرية، لا مساكن لكم على الحدود مع أراضيكم المحتلّة». هذه الأراضي لن تقع حتّى في حقل الرؤية.
فوق تهجيرهم من فلسطين التاريخية إلى قطاع غزّة، يعزل هذا الشريط أهل غزّة مرّة جديدة عن عمقهم الفلسطيني. المساكن تُكدَّس في غرب القطاع، وكأنّ القيّمين على الخطّة كانوا قاب قوسين أو أدنى من رمي أهل غزّة في البحر.
2. المدن منزوعة الهوية
مستحيل أن تكون هذه غزّة.
الأمر بهذه البساطة، لا داعي للّجوء إلى نظّريات العمارة. أعني حقّاً، انظروا إلى هذه المدينة المُفترَضة، هل تتّسع لمحلّ فلافل؟ من «طرائف» إعادة إعمار وسط بيروت، مثلاً، أنّ المصمّم لم يشمل متاجر مناسبة كي تكون محلّ فلافل أو فرناً للمناقيش. تخيلوا، عاصمة عربية، أو غزّة، بلا محلّات فلافل؟ لكن هيّا، فلنفنّد هذا المخطّط المقترح لتلك التجمّعات السكنية المكدّسة في غرب القطاع.
أ. غزّة الغريبة عن محيطها
الانطباع الأوّل هو أنّنا لا نعرف ماهية هذه المدينة. هل هي في أوروبا؟ هل هي في شرق آسيا؟ ما المنطق الذي يجعل المباني تصطف بهذا الشكل في غزّة؟ ما «هوية» هذا المكان؟ غريب أن يسكن الناس في مكانٍ لا هويّة له، خاصّة إن كان الحديث عن أهل غزّة. غريب أكثر، أن يشبه المخطّطُ العام لغزّة، المخطّطَ العام لنيو-برازيليا أو المخطّط العام لبرشلونة. غريب أن يقترح أحدهم تصميم غزّة بشكلٍ يشبه مدناً في الاتّحاد السوفياتي أكثر ممّا تشبه بيروت أو دمشق أو حتّى الضفّة الغربية. غريب أكثر، عزل التصميم المُدني الغزّي لا عن محيطه العربي وحسب، بل كذلك عن موقعه المتوسّطي.
ب. غزّة الساقطة عسكرياً
العمارة سياسة. والسياسة، بشكلٍ أو بآخر، امتداد للعسكر. وبعض المخطّطات المُدنية بطبِعها «مُقاومة». تحديداً العشوائيات، أو الأحياء الشعبية متعدّدة التفرّعات. مُدن احتضنت مقاوميها، «أخفتهم» عن أعين المستعمر والمحتلّ، ومنحتهم نوعاً من السند العسكري «الجغرافي»، مقابل التفوّق العسكري التكنولوجي الذي يتمتّع به الغازي. انظر: حي القصبة في الجزائر، كومونة باريس، جنوب لبنان، أو حتّى الضفّة الغربية التي تتعرّض للتطهير العرقي اليوم.
المدينة الواردة في المقترح المصري لإعادة إعمار قطاع غزّة تجد جذورها في عقلية البارون الفرنسي هوسمان. مدينته (باريس) تتّسم بمبدأ بسيطٍ للغاية: بفضل الأزقّة الضيّقة وتعرّجات الشوارع، تمكّن الثوار الفرنسيون من الانقضاض على القوى النظامية والفرار منها بسهولة. ردّاً على ذلك، شقّ هاوسمان الطرقات بشكلٍ مستقيم وواسع: مستقيم، كي يكون مكشوفاً من أوّله وإلى آخره؛ واسع: كي تمرّ فيه الدبّابة. ولا عجب أن تُشَقّ الطرقات بهذا الشكل في غزّة الجديدة، بعدما غرقت قوّات الاحتلال البرّية في وحول القطاع.
ج. غزّة منزوعة السلاح
عطفاً على ما ورد، يصعب تخيّل أي نشاط عسكري في مدينة المقترح المصري. يصعب أن نحدّد موقعاً تُطلق منه الصواريخ، كما يصعب أن نتخيّل مقاتلي القسّام وهم يخوضون المعارك في مدنٍ كهذه. بصرف النظر عن نقاشات نزع سلاح حماس ونقاشات الحكم في اليوم التالي. نتكلّم عن العمارة البحتة: هذا المخطّط العمراني، يترجم موقفاً سياسياً منحازاً للقضاء على المقاومة في غزّة.
بيد أنّ المشكلة، أو ربّما ما كان مقصوداً من طرف المصمّمين، هو أنّهم صمّموا خطّة تضمن أنّ هذه المدينة سوف تكون منزوعة السلاح، وتضمن، في الوقت نفسه، أنّ هذه المدينة سوف تكون قابلة للسيطرة الإسرائيلية بشكلٍ أسرع ممّا مضى. افترَض المصمّمون أنّ حماس انتهت، من دون أن يلتفتوا لواقع أنّ الخطر الإسرائيلي ما زال داهماً في كلّ حين. أعني، فقط انظروا إلى المخطّط وتخيّلوا «خرائط الإخلاء» في جولة الحرب المقبلة: كم سيكون الإسرائيليون ممتنّين لمصمّمي هذه المدينة.
د. غزّة مرهونة الموارد
من الحسنات القليلة لهذا المخطّط، هي زيادة المنشآت الخدماتية وتوزيعها بشكلٍ أكثر عدالةً، مثل نشر الجامعات بشكلٍ أقرب إلى طلّاب كافّة محافظات القطاع، أو زيادة المستشفيات المركزية في المحافظات (6 في رفح مثلاً، بدل اثنين في ما سبق). ولكنّ خريطة أخرى تظهر توزيع الموارد والبنى التحتية بشكلٍ «إشكالي». محطّات توليد الطاقة الشمسية، ومحطّات توليد الطاقة من الرياح، ومحطّات معالجة مياه الصرف، وخزّانات الرَيّ، مزروعة جميعها على الحدود الإسرائيلية، بما يشبه الترجمة المعمارية لخطاب غالانت الشهير، حول محاصرة القطاع وقطع كل الموارد عنه مع بداية الإبادة.
3. الجغرافيا كمؤشّرٍ للتاريخ
مشكلة المخطّطين العمرانيين أنّهم يتعاملون مع العمارة كمساحة حصراً. لا كزمن. لا كإنسان. الجغرافيا، ومع أنّ عنصرها هو المكان، إلّا أنّها في الوقت نفسه مؤشّرٌ على التاريخ. من دون مبالغة، تكاد تكون غزّة، أكثر مدينة يتكثّف فيها تقاطع العنصرين.
خريطة غزّة السابقة على الإبادة هي في الوقت نفسه تاريخ النكبة. يمكن للهواة حتّى أن ينظروا إليها، وأن يحدّدوا تلقائياً عدداً من «المراكز»، التجمّعات، التي تبدو في الظاهر عشوائية، ولكنّها في الحقيقة نقاط الهجرة الأولى إلى داخل قطاع غزّة. إليها هُجّر الفلسطينيون قسراً من الأراضي المحتلّة عام 1948، وعليها نصبوا خيامهم الأولى قبل أن تصبح منازل من الاسمنت الركيك. حتّى أن تسميات المدن والقرى الغزّية ما زالت تحمل مفردة «المخيّم». كانت غزّة آخر ما يدلّ على النكبة الفلسطينية ويقع تحت السيطرة الفلسطينية في الوقت نفسه.
والآن نعود إلى المخطّط المصري: ما الرابط بينه وبين النكبة؟ هذا السؤال، المتعلّق بالماضي، هو سؤال محوري في أي مخطّط يتعلّق بمستقبل القطاع.
أمّا التصميم المُدني في الحالة المصرية، فهو يقطع الصلة بين الشعب الفلسطيني وأبرز جوانب قضيّته: العودة. يمكن على سبيل المثال وضع هذا المخطّط بموازاة قرار تصفية وكالة الأونروا. عملياً، هذا المخطّط يُصفّر تاريخ قطاع غزّة. يخلق غزّة بلا تاريخ.
غزّة بلا تاريخ إطلاقاً. لا أقصد تاريخ النكبة وحسب. أعني تاريخ الإبادة أيضاً. ضمن المخطّط، لا يوجد أي مؤشّر عمراني على أنّ إبادةً وقعت هاهنا، في هذا العام. ولا أي ذكر، في الصفحات الـ91، ولو لمعلمٍ واحدٍ يتعلّق بالإبادة. عَرَضياً، في الصفحة 46، تحت بند «مراحل إعادة تدوير الركام الخرساني»، يذكر المخطّط أنّ المرحلة الأولى تتعلّق بإزالة المخلّفات العسكرية من بين الركام، فيما تتعلّق المرحلة الثانية بـ«فصل واستخراج المعادن / المواد الكيميائية / الرفات». بلا مؤاخذة، عند تطرّق المقترح لعدد شهداء العدوان الإسرائيلي، يذكر أنّ «47 ألف فلسطيني فقدوا حياتهم»! ولا حتّى يقول «قُتلوا» مع تجهيل الفاعل.
4. الجرّافة المصريّة مرّت من هنا
يمكن تفنيد هذا المخطّط أكثر بعد. في جانبٍ منه، مثلاً، يقترح ردم البحر، وإنشاء منطقةً جديدةً مكتسبة، بفضل الردم، داخل البحر. في جانبٍ آخر، يقضي تماماً على منطق العمارة الأفقية الذي تتّسم فيه غزّة (ومدننا عموماً)، حيث استغرقت وقتاً كي تتشكّل، وفق النمط المُسمّى بـ«الزحف الهادئ للمعتاد». يستبدل المخطّط ذلك بعمارةٍ لها هيئة عمودية، تقضي على هذا المزيج الريفي- المديني للقطاع، وتقضي على تاريخٍ من العلاقات الاجتماعية المُشكّلة بحسب شكل المدينة. وربّما هذه هي علّة المخطّط القصوى. أنّه لم يأخذ العلاقات الاجتماعية الغزّية في الحسبان، بل أسقط عليهم مدينةً تبدو «منظّمة» على الخريطة فقط.
دمّرت الدبّابات الإسرائيلية القطاع، فقط لتأتي جرّافات السيسي وتستكمل المهمّة. الجرّافات نفسها التي أهلكت مصر بمشاريع البنى التحتية الضخمة والمدن الإدارية. الجرّافات التي دمّرت كل المقابر التراثية المصرية وكل الحدائق العامة وعوّامات النيل وتاريخ مصر الشعبي.
عند اقتراح المخطّط إنشاء المنطقة البحرية المكتسبة، يذكر أنّ 90٪ من الرمال المطلوبة، سيتم نقلها من الشواطئ المصرية. وهذا ما يحيلنا إلى جانب أوسع من المشكلة الفلسطينية - الإسرائيلية الواردة في المخطّط، وهي المشكلة الفلسطينية- العربية: في أنّ العرب ينظرون إلى إعادة إعمار غزّة كمطلق أي مشروع تطوير عقاري آخر، وفرصة للاستثمار القريب، الذي لا يدرّ المصلحة الاقتصادية وحسب، بل يحسّن أيضاً الوضعية الدبلوماسية للأطراف التي تقود العملية. وهنا، أعود إلى مطلع المقال: لا أعلم إن تصدّت هذه القمّة حقّاً لـ«ريفييرا ترامب»، أو أنّها حاولت منافسته، واقترحت بدورها «ريفييرا العرب»، كبديلٍ لقطاع غزّة الذي يعرفه ناسه ويسكنونه.