الانفجار لن يحدث اليوم. ما زال الوقت مبكراً... أو أنّ الأوان قد فات.
فرانز فانون
منذ البداية، كان ذلك مستحيلاً. منذ الصرخة الأولى، منذ الأناشيد الأولى. كنّا نعرف ذلك. حذّرونا قائلين: إنّ هذا جميل إلى حدّ لا يُصدَّق. بالفعل، كان ذلك جميلاً جداً وصحيحاً إلى أبعد حدود. عدم احتمال اندفاعنا وحجمه، اشتعال يومياتنا، وفجأة انفتاح مجال الممكن. منذ البداية، شكّكنا بأنّ الأفق لن ينقشع، وبأنّ استقالة السلطة التنفيذية أو غيرها لن تكون كافية على الرغم من اتّساقها.
منذ الصرخة الأولى، عرفنا أن أجنحتنا مهدّدة، يهدّدها أعداؤنا الكثر والمختلفون بقدر ما نهدّدها نحن. كنّا نعرف أعداءنا، كلّ واحد منهم، تَعلّمنا أن نفهم بشكل أفضل وأن نفكّك طريقة عملهم، والآلية والتداخلات التي تحرّكهم. وعلمنا أنّه رغم كلّ ما يفرّق بينهم، لا شيء يوحّدهم أكثر من حرصهم الشديد على عدم فقدان صلاحياتهم المختلفة (التي قد تكون ضئيلة بالنسبة للبعض).
منذ البداية، يتشاجرون ويتصالحون على حسابنا. لا شيء يفلت من نهمهم، حتّى أتفه الأمور الإدارية وأصغر الفرص. أصغر ركن في البلد، إمّا خاضع لسيطرتهم، وإمّا مُهمَل تماماً ويفتقر لكلّ أنواع الخدمات (لا أجرؤ على القول «الخدمات العامّة» لأنّها أقرب إلى الوهم).لا يفتقدون وسائل القمع، بجميع أشكالها، أكانت شرعية أم غير شرعية.
لا يلفّ أيُّ غموض اتحاد اللصوص والمجرمين هذا. حتى بخلافاتهم، حفظنا عن ظهر قلب أكاذيبهم القديمة وبراعتهم في إلقاء اللوم على الآخرين، الأجانب منهم خصوصاً. وكما هو متوقّع، استفادوا إلى حدّ بعيد من هذا الوباء، أكانوا متولّين القيادة بشكل مباشر أم غير مباشر، أم زاعمين أنهم أصبحوا الآن من المعارضة. وفيما يعتكفون في معاقلهم، يفرضون بأقوى الأشكال هذا الشباك الأمني، الذي هو الكفاءة الوحيدة الفعلية التي تتحلّى بها هذه الدولة الدمية والميليشيات شبه الرسمية المختلفة.
هذا التفاوت الكبير من جهة السلطات، نجده حتماً في «صفوف» انتفاضة 17 تشرين. إنّه تفتّت حقيقيّ. كذلك كنّا نعرف جيّداً أنه عندما ستحين أزمنة الشكّ والتردّد والتعفّن التي لا مفرّ منها، ستقوم قوى المضايقات التي ليست مباشرة في الحكم الآن، باغتنام الفرصة للتسلّل ولمحاولة ابتلاع الانتفاضة، وحتى لكسرها وتحويرها، وستحرّك بيادقها ومطالبها التي ليست ببديل على الإطلاق، بل مجرّد الجانب الآخرالمرتّق لهذا الإفلاس المحلّي– الإقطاعي، الرعوي، (هناك دائماً مطالبون جدد بالعرش، الرئيس وزمرته هم خير مثال)، الأبوي، الطائفي، الزبائني، وما إلى ذلك- هذا الاقتصاد التجاري على اختلاف صيغته، الذي أقل ما يُقال عنه إنه كان مخرّباً في هذا البلد.
بالطبع، ساهم الحجر والتعبئة على نحو واسع في ذلك، ما أدّى إلى تعطيلنا. لكن حتّى في زخمنا، لم نستطع أو لم نعرف كيف نتجاوز غضبنا ونخطو الخطوة اللازمة والأساسية كي نتطلّع أكثر إلى الأمام. هنا يجب ألّا نرشق أحداً بالحجارة، لكن لربما يجب أن نرشق أنفسنا بالتأكيد. هذه الثورة على الذات التي لم نستطع ولم نعرف كيف نصنعها بعد.
داهمنا الوقت، لأن الخصوم دفعونا وأجبرونا على الاكتفاء بردود فعل متتالية، ولأننا عبيد لعصرنا وسرعته، ولضرورة تأمين خبزنا اليومي، فصعب علينا الاعتراف بأن الهدف لم يكن وليس إيجاد الأجوبة الفورية، بل هو المساءلة العميقة والدائمة على كافة المستويات. فلتكن مساءلة من كل الأطراف، بشكل جوهري، فردياً وجماعياً، بصوت خافت وبصوت عال، مساءلة كل ما يشكّلنا ويشكّل طموحاتنا، من دون تعليق أعمالنا المختلفة، بل على العكس تماماً! كل شيء يولد من الفعل، إنها البادرة الأولى. ويشهد على ذلك بطريقة أو بأخرى كل حيّ، كل قرية، كل مدينة، كل منطقة، حيث اندلعت الانتفاضة وتستمر رغم كل شيء، مهما اختلف حجمها.
هذه الخطوة الحاسمة الناقصة ليست ذات طابع استراتيجي، أي تحالفاً ظرفياً بين مختلف الحركات والمجموعات، وهي بالتالي تحالف تكتيكي قصير الأمد من جديد. يحتّم علينا حجم الكارثة ضرورة التخلّص من الثوابت ومن الاقتراحات الجاهزة، من مزاميرنا القديمة، بهدف التوصّل إلى أشكال جديدة من التنظيم وطرق مختلفة لتصميم النضالات التي نتولاها بتعدّدها وتكاملها، من دون أي هيمنة ومع الحرص الدائم على الدفاع عن الحياة بكاملها وفي تعقيدها الغنيّ. لا يمكن لمشروع بديل وحقيقي أن يولد أو أن يتطوّر بشكل مختلف. لقد حزم العديدون أمتعتهم وبلع الكثيرون غضبهم الذي تحوّل إلى مرارة وأدار البعض السكين صوب أنفسهم.
فليكن يقيننا الوحيد هوية خصومنا الثابتين.
لم نكن مستعدين؟ حتى ولو كنّا جاهزين، لا نكون مستعدّين تماماً.
لكن ماذا لدينا لنخسره؟ إنه دائماً وإطلاقاً، إما الآن أو أبداً.