لم يترك رياض سلامة خطوةً يمكن أن تضغط على سعر الصرف بشكل سلبيّ إلّا وفعلها: أصدر تعميمَيْن لسحب الودائع الدولاريّة بالليرة، ففتح بذلك الباب أمام إغراق السوق بليراته المطبوعة بسخاء، بعدما أوقفت المصارف كلّ السحوبات بالدولار التي كانت تمدّ السوق بجزء ضئيل من الحاجة للعملة الخضراء. ثمّ خنق آخر مصادر الدولار في الأسواق حين قرّر مصادرة دولارات التحويلات القادمة عبر شركات تحويل الأموال. وأصبح عملاء هذه الشركات يتلقّون التحويلات بالليرة بدل الدولار، فتحوّلت التحويلات إلى مصدر إضافي من مصادر ضخّ السيولة بالليرة في الأسواق.
أدّى كلّ ما قام به سلامة في تعاميمه إلى نتيجة واحدة: تحليق سعر الصرف الفعلي عالياً في الأسواق، وانخفاض في المقابل للقيمة الشرائيّة لمداخيل الغالبيّة الساحقة من اللبنانيّين.
ثمّة تحليلات تعتبر أنّ سلامة حاول من خلال هذه الخطوات مفاقمة الوضع المعيشي، بهدف الضغط على حكومة حسان دياب، وربّما تفجير الشارع في وجهها لإسقاطها، خصوصاً بعد بروز التباين الواضح بين خطط رئيس الحكومة وتوجّهات سلامة النقديّة ومصالحه. وقد يكون حاكم المصرف المركزي قد ذهب بهذا الاتجاه بعدما نسج تفاهماتٍ سياسيّة تحميه، مع قوى تملك الهدف نفسه في ما يتعلّق بحكومة دياب. ويمكن من هذه الزاوية فهم تكتّل جبهة عريضة ضمّت حتّى رئيس المجلس النيابي لرفض المسّ بسلامة.
لكنّ إجراءات سلامة لا تستدعي بالضرورة اللجوء إلى نظريّات مؤامراتيّة. فكلّ هذه الإجراءات تصبّ فعلاً في خانة حماية مصالحه كحاكمٍ للمصرف المركزي، ومصلحة القطاع المصرفيّ الذي يرعى سلامته. فسحب الودائع بالليرة يحرّر المصارف من التزاماتها بالدولار تجاه المودعين. وبموجب هذه الآليّة نفسها، ستحرّر المصارف التجاريّة المصرف المركزي من قيمة مماثلة من التزاماته لها بالدولار. أمّا مصادرة دولارات التحويلات، فتستهدف تعزيز احتياطات البنك المركزي بالعملة الصعبة. تبدو الإجراءات إذاً مربحة له، ومربحة للمصارف، بينما يدفع المواطن الثمن جرّاء تدهور سعر الصرف.
سواء تعلّق ما قام به سلامة بعمليّة تآمر خبيثة تستغلّ تناقضات النظام السياسي، أو كان ذلك لخدمة موقعه ومصالحه كحاكم للمصرف المركزي، يبقى أنّ سلامة تاجر فعليّاً بجوع اللبنانيّين من خلال هذه الخطوات.
في المقابل، كانت السلطة، وتحديداً العهد ورئيس الحكومة، يقومان بعمليّة إتجار لا تقلّ وقاحة عن ألاعيب سلامة النقديّة. فقد خرج رئيس الحكومة، بعد اجتماع حكومته، دون أن يعلن عن أيّ خطّة أو قرار إزاء أخطر أزمة نقديّة تطال المستوى المعيشيّ للّبنانيين. لكنّه أسرف في التساؤل حول الواقع النقديّ وقرارات مصرف لبنان، وكأنّه متفرّج غير مسؤول عن قرارات تنفيذيّة أدّت إلى جزء كبير من هذا الواقع.
بالتأكيد، كان رئيس الحكومة يحاول بذلك الخطاب رمي كرة النار على سلامة، وتوجيه الغضب الشعبي باتّجاهه. وكان واضحاً أنّ التيار الوطني الحر ورئيس الجمهوريّة يجاريانه في هذا المسار، على أمل أن تكون هذه المناسبة فرصة للإطاحة بالحاكم واسترداد «موقع مسيحي» لطالما أراد التيار السيطرة عليه.
لكنّ خطاب دياب تناسى أنّ حكومته هي نفسها الحكومة التي فشلت في تعيين نوّاب للحاكم، كان يُفترض بهم أن يشاطروا سلامة صلاحية إدارة الملف النقدي من خلال المجلس المركزي لمصرف لبنان. وحكومته هي التي أبقت منصب مفوّض الحكومة في مصرف لبنان شاغراً، وهو الشخص الذي يُفترض أن يمارس مهامّ التدقيق في المصرف بدل الشركات التي يريد دياب استقدامها. وأخيراً، فشلت حكومته في تعيين لجنة الرقابة على المصارف، وهي الجهة المسؤولة عن الرقابة على القطاع المصرفي.
نحن إذًا أمام طرفَيْن يلعبان بالشأن النقدي ويتاجران بجوعنا في زمن الانهيار. ويبقى مفتاح المعالجة الوحيد للشارع المنتفض استرجاع السلطة نفسها. فالحاكم ليس إلا موظّفًا يعمل ضمن تقاطع المصالح مع السلطة التي تعيّنه وتجدّد له، ومتى استرجع اللبنانيّون المنتفضون القرار السياسي تصبح محاسبة الحاكم وتغييره مجرّد تفصيل.