نشر موقع ميغافون مقالين لغسان سلهب بعنوان «اقتراح لإدارة ذاتية» 1 و2. في المقالين، تداول الكاتب فكرتَيْن مميّزتين. لكن قبل مناقشتهما، لا بدّ من الحديث عن طبيعة هذه «الثورة» وأهدافها. علينا الاعتراف أوّلاً أنّ الانتفاضة حتى الآن لا تريد أن تُسقط السلطة، بل تريد استبدالها بنظام انتخابي واستبدال الزعماء الذين استفادوا من هذا النظام. ويعتمد أسلوب هذه «الثورة» على أداة الدولة- الدستور لإعادة برمجة الدولة وليس لإسقاطها مع الزعماء الذين استرزقوا منها. لذلك، تبدو تسمية ما يحصل في لبنان ثورةً أمراً خاطئاً. لا يخفّف هذا التحليل من أهمية الأحداث، لكنّه يرشدنا إلى النقطة الثانية والأهمّ. فبما أنّ هذه الانتفاضة ما زالت ضمن الإطار القانوني، فإنّها لا تحتاج إلى التنظيم الانضباطي أو المسلَّح الذي نراه بالثورات الجذرية. فما الذي سيحرص على نجاح الانتفاضة لبنانياً بغياب هذه الأداة السياسية والعسكرية، خصوصاً وأنّ السلطة لديها هذا الانضباط الممتدّ عبر المؤسسات الخاصة (كالمصارف، والجامعات، والمستشفيات، إلخ)، وستتحول الى الفريق المعارض عند نجاح الانتفاضة. هنا تأتي أهمية فكرة الإدارة الذاتية.
في مقالتَيْه، يعرض غسان سلهب فكرتين. الأولى هي إقامة منصّة إلكترونية تجمع كل المعطيات والتحركات اليومية لـموارد المجموعات المختلفة التي نعرفها... على اختلاف أنواعها، الرسمية وغير الرسمية، والتي تعمل في ميادين مختلفة، في أي قطاع كان، في كل أنحاء البلاد. هذه المنصة تسمح لنا من دون أي هرمية أو مركزية بتأمين الحاجات في هذه الحالات الاستثنائية الطارئة. الثانية تقترح إنشاء مجالس عامة مختلفة… حيث يقوم كل مجلس من هذه المجالس بانتخاب مندوبين عنه، يقوم دوره على طرح المطالب والمقترحات في اجتماع عام يضمّ كلّ المندوبين المختارين. من ابرز اقتراحات غسان أنّ المندوبون هم مبعوثون وممثّلون، وليسوا على الإطلاق «منتخبين»، وإذا تصرّفوا كمنتخبين يحتكرون حق التمثيل، يجب استبدالهم فوراً بانتخاب مندوبين آخرين. تبدو لنا هذه الأفكار خطوطاً عريضة للإدارة الذاتية، ولكنها تعتمد على بيروقراطية لا تناسب الوضع الطارئ الحالي في لبنان. ففي ظل الأزمة الاقتصادية، لا وقت للتنسيق على مستوى وطني بين مندوبين. وإقامة منصة إلكترونية وطنية ليست لازمة لإيجاد حلول محلية وأسئلة حول إعادة توزيع الموارد. لذلك، يجب على المجالس أن تكون معنية بالشؤون المحلية تحت إطار طوارئي ومؤقّت يعكس مستوى تجاهل السلطة. يمكن هذه المجالس أن تنتخب ممثلين لاتخاد قرارات حاسمة باسم الشعب كدعوات للامتناع عن دفع الضرائب أو تأميم مصالح محلية لتأمين الأكل والشرب والسكن والدواء للأكثر تضرّرًا. يمكن لكافة المجالس التعاون سويًا، إن اضطرّت لذلك، لكنّ الأولوية تبقى لتلبية الاحتياجات المحلية وليس لابتكار نظام وطني شامل. تكمن أهمية إقامة المجالس المحلية بعزل الانتفاضة عن أخطر أسلحة السلطة، أي الوقت. كما تعزّز الانتفاضةَ في مواجهة قوى السلطة بعد تحوّلها إلى قوة معارضة تهدف إلى إيقاف الانتفاضة أو استقطابها لمصالحها عبر الانتخابات، أو التضليل، أو العنف. كذلك تعكس المجالس قيم «الثورة»، وهي اللامركزية وعدم وجود أي قائد فردي يتكلم بإسمها. كما تسمح، عبر محليتها، أن تضمّ عناصر من الجيش والدرك إلى أركان الثورة وإضعاف هذه المؤسسات من الداخل بدلاً من مواجهتها كمؤسّسة موحّدة. أخيراً، ستنتج الإدارات الذاتية انفجاراً بالإبداع الفني والمناشير السياسية لمواجهة الدولة كونها تخلق مجالاً واسعاً للمناقشة خارج إطار المعارضة التي تحصر الفكر بردود الفعل. لكلّ هذه الأسباب، وإذا أردنا حماية «الثورة» واستكمالها، علينا أن نتّجه نحو الإدارة الذاتية. وقد بدأت مدينة طرابلس تعرض مبادئ الإدارة الذاتية بمواجهاتها المباشرة للمصارف والبلدية. ولكن لنتخيّل ما يمكن أن يحصل إذا نفت طرابلس المواجهة واستبدلتها بالإدارة الذاتية، أي بدلاً من مواجهة البلدية، تؤسّس بلديتها الخاصة، بلدية الثورة، وبدلاً من مقاطعة المرفأ وإغلاقه، تستولي عليه وتديره لمصلحة الثورة. والآن لنتخيّل أنّ كلّ مدينة وقرية في لبنان أنشأت لجانها الثوريّة على هذه المبادئ الديموقراطية المباشرة واللامركزية. عندها فقط، سيمكننا أن نسمّي هذه الانتفاضة باسم الثورة. وعندها فقط، ترجع السلطة، بكاملها، إلى الشعب.