اتّسعت الأراضي اللبنانية، في الأسابيع الأخيرة، بضعة أمتار مربّعة. وخسر البحر، بالمقابل، بعضاً من موجه بعد ردمه قرب شاطئ الدامور والقاسمية والناقورة، فضلاً عن ردم مجرى نهر الكلب، وتعدّيات أخرى لم تُفضَح بعد.
مع دخولنا موسم الصيف والسباحة، عاد ملف الأملاك العامة إلى الواجهة، لناحية خصخصة هذا الملك، لكن أيضاً لناحية الدفاع عنه عبر حملاتٍ أهلية واكَبَت وواجهَت وانتقلت من منطقةٍ إلى أخرى لتواجه مُخالِفاً تلوَ الآخر.
المواجهة الأهلية
انتصارات تحرير الشاطئ الصغيرة ما كانت لتكون لولا المتابعة الحثيثة من قبل روّاد المساحات العامة وأهل المناطق أوّلاً، بالتنسيق مع الجمعيات المعنية بهذه القضايا ووسائل الإعلام التي تتبنّاها. فمع تقاعس الحكومة، ورغم سلبطة المستثمرين، قرّرت جماعة من الناس أن تنظّم حملات المواجهة، ثمّ نسّقت هذه الحملات في ما بينها بشكلٍ عابر للمناطق.
بدت لافتة، مثلاً، تغريدة لجمعية «الجنوبيون الخضر» تتصدّى لقضم شاطئ الناقورة، وعلى التغريدة إشارة لحملة «أنقذوا كفرعبيدا». بدا لافتاً قول ماغي نجم، إحدى المعنيّات بحملة «أنقذوا شاطئ أبو علي»، أنّ اتّصالاتٍ وردتها من مناطق أخرى، منها الدامور، بعد نجاح الحملة في تحرير شاطئ أبو علي.
خلقت هذه الجهود حيوية سياسية محلية، ومساحة جديدة للتشبيك بين الناس والاشتباك مع السلطة، بالتزامن مع انسداد الأفق أمام المعارضة السياسية على المستوى الوطني. فتح ملف الأملاك العامة حيّزاً للمواجهة أتى بثماره على الفور، وقد يأتي بثمارٍ إضافية في محطّاتٍ مقبلة، منها الانتخابات البلدية. فللبلديات دور أساسي في حماية هذه المساحات، إلّا أنّ المجالس الحالية تواطأت مع المتعدّين عوض الدفاع عن مصلحة المنطقة.
هذه خلاصة المشهد: مجموعة من الأهالي يرفضون أن تكون مساحات الترفيه حكراً على الأغنياء، يرفضون أن تُهجَّر الفقمة، ويصرّون على أن تبقى لهم مساحاتٌ هي بالأصل لهم، مساحات يجتمعون فيها؛ ويؤدّي غيابها إلى ضرب الالتقاء العابر للطوائف والمناطق والطبقات بين الناس. فمنطق الخصخصة لا يُشرذم الجغرافيا فقط، بل المجتمع أيضاً.
تجزيء - خصخصة - استثمار
تحوّلت الأرض إلى مُجرّد سلعة، وتحوّل الساحل اللبناني بالتدرّج إلى أجزاء صغيرة، خاصّة، حيث يستولي كل مستثمر وكل مقتدر على حصّةٍ من الشاطئ، ويمنع، بموجب مزاجه وطمعه، الوصول الحرّ إلى الملك العام. بعد حين، لن يبقى أي مساحة مفتوحة ومجّانية على الشاطئ، ولن يكون البحر مُتاحاً إلّا لمن يملك ثمن التذكرة. اليوم، 73٪ من الشاطئ اللبناني تعود لجهات خاصة، أمّا المساحة المتبقية، فتنقسم بدورها بين ملكٍ عام يسهل الوصول إليه، أو يصعب الوصول إليه، أو تأكله المجاري.
والخصخصة تنقسم فئتَين:
- متعدّون يريدون فيلا خاصّة تُطل على البحر وتُلامس رمله. هكذا، يخبرون ضيوفهم كيف أنّهم جبّارون، كيف أنّهم فوق القانون، لكن أيضاً فوق الطبيعة.
- متعدّون يُشيّدون مشاريع للربح والاستثمار. ففي زمن الانهيار، يبحث المستثمرون عن أبوابٍ جديدة لجني الأرباح؛ تبدّلت الأسواق في الأعوام الأخيرة، أي أنّ فرص الاستغلال تبدّلت أيضاً، وبات البحث عن ثرواتٍ جديدةٍ لاستغلالها ضرورة لا يعني ذلك أنّ استغلال البيئة جديد في لبنان، فالكسّارات تشهد، ومعامل الترابة تشهد، ونهر الليطاني يشهد… لكن هذه الفورة الأخيرة تتقاطع مع الأسواق التي عوّمها الانهيار، وأبرزها سوق المغتربين الذين يبحثون عن كأس عصيرٍ بارد على هذا الشاطئ أو ذاك.: الثروة البيئية مِثالاً.
الربح والخسارة في ميزان البيئة
ما تفعله هذه المشاريع «المُربحة»، ببساطة، هو أنّها تقلب ثروةً بيئيةً عامة، إلى ثروةٍ مالية خاصّة. معادلة خاسرة بكل المقاييس، تُصبح البيئة بموجبها جزءاً من دورة الاقتصاد الريعي. ليس صحيحاً أنّ هذه المشاريع المتعدّية على الأملاك العامة هي «نبض القطاع السياحي»، بل العكس. هي وسيلة حرف أموال السياحة عن المناطق والبلديات والأهالي، وتحويلها إلى جيوب قلّة من المستثمرين.
يشكّل شاطئ صور النموذج المُعاكس لهذه النظرية. أطوَل وآخر الشواطئ المفتوحة أمام العامّة، يؤمّن لاقتصاد بلدة صور قُرابة 4 ملايين دولار في الموسم، بفضل الحركة التي يخلقها من حوله.
وإن كانت الذريعة الأولى صادرة عن المستثمرين أنفسهم، فإنّ الدولة تروّج لذريعةٍ ثانية حفاظاً على التعدّيات. عام 2017، قرّرت الدولة تغريم التعدّيات على الأملاك العامة البحرية، عوضَ إزالتها، تحت ذريعة حاجة الدولة للمزيد من الإيرادات.
- حُدّدت الغرامة بقيمة 0.5٪ من قيمة متر التعدّي للمقارنة، الرسم على القيمة التأجيرية للأماكن المستعملة للسكن هو 5٪ من قيمة المتر، أي 10 أضعاف الرسم على متر التعدّي. (عدا عن أنّ تخمين هذه القيمة تمّ بشكلٍ مشبوه، وبأقلّ من القيمة الفعلية). بالمحصّلة، لا تُقارن الغرامة بقيمة الأرباح.
- لم تجبِ الدولة أيّآً من هذه الغرامات، وظلّت موازنة الدولة تسجّل أصفاراً ضمن بند الأملاك العامة البحرية لعدّة دورات متتالية.
- فقط بعد انهيار الليرة، تشجّع بعض المستثمرين على سداد هذه الضرائب، لتدنّي قيمتها بالدولار.
بالنتيجة، لا تشكّل هذه الغرامة رادعاً كافياً لمنع المزيد من التعديات، فيما ينعم أصحاب التعدّيات الموجودة بأرباحهم على حساب استغلال البيئة وتشويهها بمفاعيل غير قابلة للعكس، تقضي على أبرز سِمات البلد: بلدٌ ساحلي على المتوسّط.
تواطؤ الدولة عن قصدٍ أو عن غباء
شرّعت الدولة إذاً التعدّيات تحت عنوان التغريم. جعلت المخالفة حقيقةً قانونية. لكنّ هذا ليس الشكل الوحيد لتواطؤ الدولة مع أصحاب المصالح. فتراخيص الأعمال الجديدة تُعطى «عن أبو جنب». الموافقة على قضم نهر الكلب، مثلاً، «مرّت على عجل»، بحسب تعبير وزير الطاقة وليد فياض، «أردنا أن نخدم بسرعة، ولم ندقّق في التفاصيل الكميّة والنوعيّة». ولمّا تدارك فياض الأمر، بات «صعباً» إزالة التعدّي، كي لا يقع المُستثمر بخسارة!
يبقى فياض رحيماً أمام ما اقترفه وزير الأشغال علي حمية الذي وافق على رخصةٍ للمدعو ناظم أحمد لردم جزءٍ من بحر الدامور، ورخصةٍ أخرى للمدعو نور سليم الخوري للغاية ذاتها في الناقورة، تحت ذريعة أنّ «البحر غزا العقار مع الوقت». وافق حمية إذاً على جريمةٍ بيئية مكتملة العناصر، ولم يتراجع عنها إلّا بعد فضحها في الإعلام، وبعد طلب وزير البيئة وقف العمل نظراً للضرر البيئي.
تستحقّ هذه الموافقة التوقّف عندها: ماذا يعني أنّ وزيراً يُصادق على ردم البحر بناءً على ترخيصٍ أُعطي من بلدية الناقورة من دون أي تدقيق؟ أو الموافقة على ردم البحر بناءً على مسحٍ طوبوغرافي، أعدَّه رجلٌ نافذٌ مثل ناظم أحمد؟ هل يُختزل دور الوزير بالتوقيع على الرخص؟
في الحالتَين (وغيرهما)، رخّص حمية أعمالاً على البحر من دون المرور بوزارة البيئة كما تقتضي الأصول، أي من دون إقامة أي اعتبار للأثر البيئي للمشاريع. وعليه، طلب وزير البيئة ناصر ياسين من حمية وقف الأعمال فوراً، ريثما تتمّ دراسة الأثر البيئي، ما دفع حمية إلى سحب الرخص التي كان قد قدّمها بنفسه… بعد فوات الأوان. وذلك من دون أن نذكر الغياب الكلّي لوزارة الداخلية التي يُفترض أن تراقب حسن تطبيق التراخيص.
من الغريب أيضاً أنّ هذه الموافقات الوزارية تُمنح لطلباتٍ تتضارب بشكلٍ صريح مع المقرّرات التي تنظّم الأملاك العامة، البحرية أو النهرية أو غيرها، في لبنان. هنا أمثلة على ذلك:
- القرار 1925 لتحديد الأملاك العمومية يعتبر أنّ ما يغزوه البحر يصبح جزءاً من الأملاك العامة البحرية. وأنّ البحر بطبيعته يتمدّد. فهل لوحِظَ هذا البند قبل الموافقة على رخص ناظم أحمد وسليم الخوري؟
- قانون حماية البيئة 444/ 2002 ومرسوم أصول تقييم الأثر البيئي رقم 8633/2012، يفترضان مراجعة وزارة البيئة وطلب تصنيف المشروع من قبلها وإعداد دراسة بيئية للمشروع من قبل استشاري متخصّص قبل البتّ بطلب الترخيص. هل لوحِظَت هذه البنود قبل الموافقة على رخصة المشروع فوق نهر الكلب؟ أو ورشة الإعلامية راغدة درغام؟ أو معدّة البرامج رولا بهنام؟ أو…
- اتّفاقية مدريد (2008) التي وقّع عليها لبنان وأصبحت نافذة فيه منذ 31 آب 2017 تفرض إنشاء ممرّات لوصول المواطنين إلى الشواطئ كل 3,000 متر. فهل رأيتم هذه الممرّات؟
اليوم، وجّه أهل المناطق وروّاد الشواطئ بوصلة الحكومة، وفرضوا حدّاً أدنى من الحماية لأملاكهم، فتتالت قرارات وقف العمل بالورش المتعدّية، ما يحفّز المزيد من الناس للانخراط بمعركة تحرير شاطئهم المنهوب.