مع اقتراب موعد الانتخابات وإغلاق باب الترشيحات، ورغم ضبابية المشهد السياسي والاقتصادي الداخلي واشتداد حدّة الصراعات الإقليمية والدولية، خرجت علينا حملات وأسماء لمرشّحين ممّا يسمّى «المجتمع المدني» أو «التغييري»، تدّعي أنها المعارضة، أو على الأقل تعتبر أن ترشّحها وخوضها «للمعركة الانتخابية» هو استكمال للمسار الثوري الذي بدأ في 17 تشرين 2019.
للوهلة الأولى، يبدو هذا المشهد الانتخابي واعداً، خاصةً لمحبي الصورة «الحضارية» و«السلمية» للمعارضة، أو للمؤمنين بأن الانتخابات هي «عرس ديمقراطي». لكن، لسنا بحاجة للكثير من التمعّن لاكتشاف أن البلاد في مأزق أكبر بكثير من أوهام التغيير عبر الانتخابات النيابية. فالنظام اللبناني التوافقي بعيد كل البعد عن الديمقراطية التي تسمح بتداول السلطة سلمياً. كما أنّ الواقع الراهن لا يسمح بأي تغيير جدّي عبر مؤسسات الدولة بشكلها الحالي، إذ أن السلطة الفعلية في البلاد موجودة خارج هذه المؤسسات.
في ما يلي، سأحاول أن أجادل المنطق السائد في مقاربة الانتخابات عبر دحض اربع مقولات نسمعها بتكرار على لسان المرشحين، علماً أن موقفي بالأساس مع حركة واسعة للمقاطعة الفعالة (التصويت بورقة بيضاء). مقاطعة كهذه ليست انكفاءً عن العمل السياسي، بل محاولة للتعامل مع واقع الصراعات الاجتماعية والسياسية السائدة اليوم بعيداً عن السذاجة أو الأوهام.
«الانتخابات محطّة مهمّة، يجب أن نخوضها»: الانبطاح لشرعيّة النظام واللعب في ملعبه
يقول لنا بعض المرشّحين إنّ الانتخابات معركة أساسية لا بد لنا أن نخوضها. صحيح أن الانتخابات ممكن أن تشكّل فرصة حقيقية لأي معارضة في نظام ديمقراطي، لكن يشوب هذا المنطق مشكلتان على الأقل في الظرف اللبناني:
- لسنا في نظام انتخابي ديمقراطي كما نتوهّم.
- لا يمكن لانتخابات بأن تكون محطة مهمة في بلد قامت فيه انتفاضة ثورية ولم تنجح بقلب النظام. فالعودة إلى لعبة الانتخابات بعد الثورة التي لم تُسقط النظام هي بمثابة تجاهل كامل لما حدث في أكتوبر 2019، والعودة إلى نفس المنطق الذي كان سائدًا في عام 2018. في الحقيقة، هذه الانتخابات هي استحقاق النظام لإعادة إنتاج نفسه ولاستعادة شرعيته الداخلية والدولية. وبالتالي، إنها انتخابات القضاء على الثورة وما كان يمكن أن يتبلور منها.
نجد أنفسنا اليوم أمام مشهد سريالي، تتحوّل فيه «الثورة» إلى مرشّحين لمقاعد داخل النظام العفن الذي قامت ضده. وتزداد سريالية المشهد عندما نرى كيف وافق هؤلاء المرشحون على لعبة النظام بكل تفاصيلها وشروطها دون أي معارضة أو معركة حقيقية من أجل نظام انتخابي مختلف.
ذاهبون إذن إلى هذه الانتخابات بانبطاح كامل، مدركين أنّنا نقدّم شرعية لهذا النظام، وواعين أنّ حظوظنا ضئيلة جداً في قلب الموازين داخل المجلس، وموافقين على أن نلعب في الملعب الذي اختاره لنا النظام. فلم تعلُ أصوات المعارضة أمام تأجيل الانتخابات البلدية، وهي بالمناسبة انتخابات أهمّ بكثير من النيابة لأيّ معارضة تعي أهمية ربط الاجتماعي بالسياسي بعيداً عن الشعارات الرنّانة لـ«القاعدية» وهموم «الناس».
هكذا نكون ذاهبين إلى هذه الانتخابات للمشاركة في لعبة المعارضة الأدائية (performative)، نعطي فيها شرعية لهذا النظام ونقبل مسبقاً بإعادة إنتاجه.
«ممكن ننتزع بعض المقاعد في مجلس النواب»: وهْمُ التغيير من الداخل
يسود منطق قائل بأنّ التغيير في المزاج السياسي بعد الثورة سينعكس في الانتخابات بمقاعد للمعارضة. طبعاً، لقد تغيّر المزاج العام السياسي بعد الثورة، ولكنه تغير أيضاً بعد الانهيار والانفجار وما تلاهما من هجرة ومآسٍ. ذلك بالإضافة إلى أن التصويت في لبنان ليس مرتبطاً بالآراء السياسية و«المزاج» فحسب، إذ إنّ الأحزاب الطائفية لها شبكات زبائنية وماكينات انتخابية تجعل من منطق الانتخاب أبعد من عملية تقييم لأداء مسؤول من هنا أو هناك.
لذا، نرى المعارضة اليوم تقول إنّها في أفضل الأحوال يمكن أن تحصل على بعض المقاعد التي لا تفوق الـ20 مقعداً في أفضل التقديرات (هذا إذا اعتبرنا الكتائب وغيرها من المعارضة). ويحاجج هؤلاء أن وصول بعض الأصوات المعارضة يمكن أن يحدث تغييراً داخل المجلس. لكن ما لا يقولونه هو أن الأعداد المتوقعة بالفوز (وهي مضخمة برأيي) لا تكفي لتشكيل كتلة معطّلة، وبالتالي لا يمكنها أن تفعل الكثير غير الاستقالة بعد فترة كما حصل بعد 4 آب. إضافةً إلى أن الواقع هو أن المجلس النيابي لا يحتوي على سلطة فعلية، وسبق لرئيسه تسكيره لأكثر من سنة دون أي تعثّر فعلي للعمل السياسي للدولة. بالتالي، هذه السلطة ستسمح، لا بل يناسبها، وجود معارضة غير معطِّلة في البرلمان، وإذا أصبحت هذه القوى معطِّلة (عبر التحالف مع بعض الأحزاب التقليدية كما يقول البعض، لتصبح معارضة ضد حزب الله حصراً)، فسيغلق المجلس وسيكون الصراع السياسي بأماكن أخرى.
لا تقتصر المشاكل على العِقَد البنيوية لهذا النظام. بل تكمن أيضاً في المعارضة نفسها. فمَن هي هذه المعارضة التي لا يوجد آليات لمحاسبتها عبر تنظيمات متينة؟ ومن أين لنا أن نثق بالعديد من المرشحين الذين يترشحون بشكل غير تنظيمي اليوم، أو ضمن تنظيمات حديثة النشأة وغير واضحة المعالم؟ وما هي القاعدة الاجتماعية لهذه الحملات؟ وما هو هذا المنطق المقلوب للعملية الانتخابية الذي يعتقد أن التمثيل الانتخابي يأتي قبل بناء قاعدة سياسية أو تنظيمية، من خلال التركيز على طرح أفراد وليس على برامج وتنظيمات فعلية؟ وأين هي هذه المعارضة من الأزمة الاقتصادية؟ وكيف تتحالف مع الكتائب بعد تجربة انتخابات نقابة المحامين (كي لا نتحدّث عن الماضي الأبعد)؟
هذه، وغيرها من الأسئلة، تجعل من اللعبة الانتخابية معركة خاسرة لأي معارضة جدية بمعارضتها لهذا النظام.
«مش رح نربح أكثرية نيابية، بس منراكم تجربة»: ماذا لو كنّا نحطّم المسار الثوري بدل المراكمة؟
يجري الحديث عن المراكمة في العمل السياسي على لسان كل من ينشط في الشأن العام هذه الأيام. عجيب هذا المنطق القائم على الحراكية، والذي لا يرى في التجارب السياسية إلّا الشق المبالغ بالإيجابية. نعم، الحركات تراكم عندما تنتظم وتخلق أطراً وآليات وشبكات لها. لكن في الحالة اللبنانية، حان الوقت لهذه المعارضات أن تسأل: ماذا ندمّر وماذا نعرقل ونحن نحاول (أو نعتقد) أننا نراكم؟
في الحقيقة، كان لتجربة عام 2015 وما تلاها من انتخابات بلدية في 2016 ونيابية في 2018 أثر سلبي جداً من حيث تفكّك الشبكات والعلاقات بين ناشطين ومناضلين وفاعلين في الحياة السياسية المعارضة. ليس هذا الأمر استثنائياً أو جديداً، لكنّنا لا نعطيه اهتماماً في المنطق التراكمي السائد. فعندما اندلعت الثورة في 2019، كان أحد العوائق التنظيمية في البداية مرتبطاً بتجاوز الخلافات التي نشأت من تلك التجارب السابقة. وهذا ما لا تعترف به المعارضات الجديدة التي لا ترى في عملها غير التراكم، فالتدمير أو العرقلة، أو حتى الخيبات واليأس، لا حساب له.
المقاطعة غير مُجدية: ممكن، لكنّها أجدى من المشاركة في هذه الانتخابات
يتذمّر البعض من طرح مقاطعة الانتخابات على أساس أنه طرح غير مُجدٍ لأنه سيسمح بإعادة إنتاج السلطة. ولكن لا أحد من المدافعين عن خوض الانتخابات يقول لنا كيف سيوقف إعادة إنتاج النظام عبر الانتخابات النيابية. معظم الأحاديث مع مرشّحي المعارضة تنتهي بالاعتراف بعدم الجهوزية أو القدرة على المواجهة، إلا ببعض الاقتراحات الأدائية، مثل طرح بعض مشاريع القوانين، مع المعرفة المسبقة بأنّ أيّ طرح لا يُرضي السلطة لن يمرّ.
مع تشرذم قوى المعارضة وعدم جهوزيتها لخوض أي معركة انتخابية ضد النظام، ومع الاعتراف بالواقع الكارثي، لا يوجد إستراتيجية منطقية سوى المقاطعة. فهي الموقف السليم سياسياً من جهة رفض شرعية النظام، والمفيد تكتيكياً، إذ أن المعارضات ليست متّفقة على برنامج موحّد غير كونها ضدّ هذه السلطة.
لكن عندما تصبح الانتخابات هدفًا بحدّ ذاته، الفنّ للفن، رغم إدراك العديد من المرشّحين عدم القدرة على إحداث أيّ تغيير فعليّ بظلّ هذه الظروف الراهنة، يكون النظام قد فاز في استعادة شرعيّته وإلهائنا بلعبة انتخابات وهمية... كأنّ ثورةً لم تكن.