منذ انطلاقة الثورة، يخضع اللبنانيون لابتزاز غير معلن. فالضغط من خلال الاحتجاجات في الشارع تقابله عوارض تدهور مالي صريح يهدّد الاستقرار الاجتماعي في البلاد. وغالباً ما يجري الربط بين هذا التدهور والثورة نفسها، علماً أنّ أزمة النموذج الاقتصادي اللبناني بدأت بالتفاقم منذ تسجيل أوّل عجز في ميزان المدفوعات سنة 2011 (وهو المؤشّر الذي يختصر صافي التحويلات الماليّة بين لبنان والخارج).
تراكمت منذ ذلك الوقت عوامل الانهيار وأسبابه، لكنّ الأزمة بلغت أوجَها هذا العام مع تسجيل ميزان المدفوعات عجزاً قياسياً مقارنةً بكل السنوات السابقة منذ انتهاء الحرب الأهليّة. وفي كل الحالات، كان اللبنانيّون يشهدون منذ فترة تزايد الفرق بين سعر الصرف الرسمي المعلن من مصرف لبنان، وسعر الصرف الفعلي في الأسواق ولدى الصرّافين، مع امتناع المصارف عن تلبية حاجات عملائها الراغبين في شراء الدولار. وبالتالي، كان الانهيار الذي سيتوّج كل هذه الضغوط الماليّة والنقديّة والتراكمات مسألة وقت، لا أكثر.
لكن، من سيدفع كلفة هذا الانهيار؟
في منطق الابتزاز، ثمّة افتراض أنّ الكلفة النهائيّة للأزمة وتبعاتها ستكون دائماً على حساب الأغلبيّة الساحقة من محدودي الدخل الذين سيعانون من تضخّم غير مسبوق، ومن الخوف من انقطاع الوقود والأدوية والخبز، وليس المستفيدين من النظامَيْن السياسي والمالي في البلاد.
لكن، في الواقع، إذا كان الانهيار مسألة وقت نتيجة تناقضات قائمة أساساً في بنية النموذج الاقتصادي الحالي، فإنّ تبعات انهياره سيحدّدها مسار المعالجات التي سيتم اتّباعها في الفترة المقبلة. وإذا كان المطلوب وضع كلفة هذا الانهيار على الأطراف النافذة التي استفادت طوال السنوات الماضية من هذا النموذج، لا بدّ أن يبدأ هذا المسار بتحديد المطالب بشكل دقيق.
فالمطلوب أوّلاً فتح النقاش العلني والصريح حول ضرورة انطلاق التفاوض على الدين العام وكلفته، خصوصاً وأنّ الإصرار على الالتزام بهذا الدين وبمصالح الدائنين لا يعني- في ظل الانهيار القائم- إلّا مراكمة كلفة الحفاظ على هذا النموذج الاقتصادي دون أفق واضح. والبديل من هذه الخطوة، لن يكون سوى سياسات التقشّف والخصخصة التي تحاول السلطة تمريرها في مواجهة شارع ملتهب.
في السابق، كان الرد الدائم على من يطالب بالتفاوض على الدَّيْن هو التذكير بمخاطر هذه المسألة لجهة هروب الودائع الموجودة في النظام المالي. لكنّ تطبيق أدوات الكابيتال كونترول أصبحت اليوم أمراً واقعاً، ولو دون قرارات رسميّة واضحة. ومن الضروري هنا تنظيم هذه الأدوات وفق قرارات رسميّة من مصرف لبنان، تضمن تساوي الجميع في مسألة تجميد هروب الودائع إلى الخارج. فأدوات «الكابيتال كونترول» حين تأتي بشكل غير رسمي وغير معلن، تفتح الباب أمام حبس سيولة المودعين العاديين في الفروع، بينما لا تُفرَض أي قيود رسميّة على عمليّات التحويل الكبيرة التي يمكن أن يقوم بها أصحاب النفوذ في النظام المالي.
وفي كل الحالات، كان يمكن لتطبيق هذه الإجراءات منذ سنوات أن يحدّ من حجم النزيف الذي جرى في سيولة النظام المالي، ومن كلفة المعالجات التي تمّ اعتمادها لشراء الوقت خلال الفترة الماضية.