تعليق فساد
سامر فرنجية

التبَكْبُك القضائي لمراهقي الجمهوريّة الثانية

23 كانون الثاني 2025

دعاوى وشكاوى واستدعاءات

منذ حوالي الشهر، استلمنا في «ميغافون» عددًا من الاستدعاءات والدعاوى من قبل سياسيين أو أبنائهم، استنكروا ربط أسمائهم بملفات الفساد. رفع النائب السابق محمد الأمين عيتاني دعوى ضدّ «ميغافون» بتهمة القدح والذمّ، بسبب تقرير حول الصفقات المشبوهة التي حازت عليها شركة «إنكريبت» من وزارة الداخلية. ومن ثمّ قدّم إبنه، هشام عيتاني، صاحب شركة «سيرتا»، شكوى أمام المباحث الجنائية على خلفية نشر خبر يتناول تفجير «البايجرز»، وتمّ استدعاء مدير «ميغافون» ورئيس تحريرها إلى التحقيق. وأخيرًا، تمّ استدعاء مدير ميغافون من قِبل مكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة في دعوى مقدّمة ضدّ «ميغافون» من قِبَل مشروع رئيس حكومة لليلة واحدة، النائب فؤاد مخزومي، وذلك اعتراضاً على ذكر ضلوعه في صفقة تجارة سلاح.

قد لا تكون هذه القضايا مهمّة، كما أصحاب هذه الدعاوى والشكاوى. وردّنا القانوني عليها هو ذاته: نرفض المثول أمام أي جهة غير محكمة المطبوعات التي تشكّل المرجع الوحيد للبتّ بالأمور المرتبطة بالصحافة. لكن هناك الكثير لقوله عن هذه الممارسات ومحاولات تسليح القضاء والأمن في وجه الإعلام، وكيفية الردّ عليها في بلد حوّل الفساد إلى نمط حكم.


لعبة الكراسي الموسيقيّة

تأتي هذه الدعاوى والشكاوى من قبل «أكلة الجبنة»، كما وصف الرئيس فؤاد شهاب الطبقة السياسية اللبنانية، في لحظة سياسية معينة، وهي لحظة إعادة تشكيل السلطة الداخلية في ظل التحوّلات الضخمة التي طرأت على البلاد. في ظل مرحلة إعادة توزيع المناصب والحصص القادمة ومع ضيعان عام حيال هوية الحاكم الجديد، يتأهّب سياسيّو لبنان للتكويع ومحاولة استرضاء الوصيّ الجديد عليهم. فتعلو حساسيّتهم حيال النقد والإعلام والتذكير بعلاقاتهم بملفات الفساد، خوفاً من أن يخفّف تذكير كهذا من حظوظهم المستقبلية. فبدأت مرحلة شراء البدلات الجديدة وتبييض صفحات الماضي وحفظ مفردات سياسية جديدة، لإعادة اكتشاف ذات سياسية أكثر تلاؤمًا مع الزمن. هي لحظة ضيعان كادت أن تأتي بفؤاد مخزومي مرشحًا لرئاسة الحكومة بإسم المعارضة، وأن تعيد تدوير نموذج «السياسي الثري»، الذي دخل السياسية بفضل ثروته وتحالفه مع النظام الأمني آنذاك، كشخصية إصلاحية. لحسن الحظ، لم تدم هذه البدعة أكثر من بضع ساعات، ما أثار غيظ «المُصلِح الجديد». 


مراهقو الجمهوريّة الثانية

ليست مستغربةً أفعالٌ كهذه من طبقة سياسية اعتادت انتظار الأوامر من الخارج في سباق لتوزيع المناصب. السياسة في مفهوم هؤلاء هي لعبة وجاهة، يتنافس من خلالها السياسيون داخل نادٍ مغلق لرجال الحكم. فلنتذكّر أصلهم قليلاً: معظمهم من تركة النظام السوري، أو تدربوا على السياسة تحت وصايتها، وفهموا اللعبة السياسية كلعبة انتظار توزيع المقاعد على اللوائح النيابية أو في التشكيلات الوزارية من «فوق». وفي هذه اللعبة، الصورة هي الأهمّ، صورة موجّهة للحاكم لإقناعه باختيارهم.

على مدار السنوات منذ انتهاء الحرب الأهلية، تدرّبت الطبقة السياسية على هذه اللعبة، مدركة أنّ لا مسؤولية سياسية لها في إدارة البلاد. القرار ليس عندها، كما أكّده مشهد انتخاب رئيس الجمهورية. هم كومبارس، عليهم لعب دور «رجال حكم»، لكنّهم من دون أي قرار أو رؤية. بكلام آخر، هم بقوا مراهقين ولم يبلغوا سنّ الرشد السياسي. وكالمراهقين الخائفين على صورتهم، يتبكبكون عند القضاة والأجهزة الأمنية لقمع أي انتقاد، يشترون الإعلام لتلميع صورتهم، يردّدون ملاحم متخيلة عن مسيراتهم، يمطّون مواكبهم لكي يبدوا كالكبار الذي يتخيّلونهم حاكمي العالم، يغارون من بعضهم بعضاً في السباق على المقاعد. حتى بات مجلس النواب يشبه ملعباً في مدرسة لأطفال لم يتخطوا سنّ الغلاظة.

فشلُ الجمهورية الثانية لم يكن في انهيارها المالي أو تآكل مؤسساتها وحسب، بل أيضًا في فشلها في إنتاج طبقة سياسية ناضجة. 


إلّا المطاعم…

لنتذكّر موقفهم من الثورة، التي إن فعلت شيئًا، فهو إعلان إفلاسهم السياسي والأخلاقي. فلم ينزعج سياسيّو لبنان منها ومن شعاراتها. كما لم يُبدِ أيٌّ منهم أيّ أحساس بالمسؤولية حيال الانهيار المالي ومآسيه الاجتماعية. فهذا يتطلب بعضًا من الرشد. لكنّ ما أغضب مراهقي الجمهورية الثانية، وصولًا إلى حالات من الجنون العصبي، كان طردهم من «مطاعمهم» و«شوارعهم». هذا كان عيب الثورة في نظرهم، إنّها قالت لهم: لم تعودوا ملوك ملعبكم الصغير. أن يتمّ اتهامهم بالفساد أو بانفجار المرفأ أو بالسرقة، فهذا مقبول عندهم، لكن لا تحرموهم من ملعبهم الصغير ومواكبهم الكبيرة وصورتهم الساطعة، وإن كانت هذه كلّها ضمن خراب عام. المراهقون يحتاجون إلى عالمهم الخيالي، فمن دونه، ليسوا إلا أفشل طبقة سياسية مرّت على البلد، وكادت بأن تنهيه من الوجود، لولا تدخّل الخارج في آخر لحظة. 


انهيار بلا مسؤول

نتيجة هذا الوضع، بات عندنا حالة من الانفصام المعمّمة، تتعايش فيها قناعة بوقوع الجريمة لكن من دون أي مجرم. فالجميع يعترف بتحوّل الفساد إلى مكوّن بنيويّ للنظام، لكن من دون أي فاسد يُذكر بالإسم. كما يعترف الجميع بالانهيار المالي غير المسبوق، لكن من دون أي محاسبة أو ملاحقة تُذكَر. انفجرت المدينة، لكنّ «صورة» السياسيين أهمّ، فليس مقبولًا مثولهم أمام القضاء، وليبقَ الانفجار من دون سبب. ولماذا استغراب هذا الوضع؟ فالنموذج الأوّلي هو قانون العفو بعد الحرب الأهلية. ندرك جميعنا أنّ الحرب الأهلية هي الشرّ المطلق في نظامنا، لكنّنا نرفض محاسبة أيّ مسؤول، لتبقى الحرب كاحتمال دائم يحوم فوق البلاد. 


كيف نتكلم عن الفساد؟

في عالم موازٍ للحقيقة كهذا، حيث يتعايش الفساد مع غياب الفاسدين، والانهيار مع غياب المسؤولين، والحرب مع غياب المقاتلين، وفي ظل غياب أي معلومات رسمية أو محاسبات قضائية، كيف نفضح ما هو معروف؟ كيف يمكن توثيق ما هو ظاهر للجميع، في ظل غياب أيّ أثر قضائي لجميع الأعمال الاستقصائية، والتي وثّقت عقوداً من الصفقات والفساد؟ فمفارقة النظام اللبناني هي أنّ «حماية» هذه الطبقة السياسية تكمن في عمومية هذا الخطاب: الكلّ فاسد، فلماذا التركيز عليّ؟ خط الدفاع الأساسي الذي نسمعه في كل مرة يُفضح سياسيّ. في وضع كهذا، سنستمرّ بفتح الملفات ليس لأنّنا مقتنعين بأنّ هذا سيؤدي للمحاسبة في ظل غياب إرادة قضائية فعلية، لكن لمنع أي محاولة لبناء وفاق قائم على النسيان والكذب والتلفيق. قد لا يشكّل ذلك العدالة المنتظرة، لكنّه يحافظ على شروط إمكانها في المستقبل.


ليست معركة حريّات، هي معركة تأديب

لا نريد إعادة تجارب العهود الإصلاحية في الماضي، التي استبدلت المحاسبة الفعلية بشعارات فارغة عن الإصلاح وبعض العنتريات الإعلامية. من هنا أهمية الدفاع عن حقّنا بالنقد، ومن هنا، أهمية حماية تحقيق المرفأ، الذي يشكّل معيار العدالة. فعنوان المرحلة القادمة هو العدالة، كقيمة سياسية وأخلاقية وقضائية واقتصادية. لدينا عمل كبير لنقوم به لمواكبة المرحلة السياسيّة الجديدة ولإرساء مبدأ العدالة. لكن لا مانع لدينا من صرف فتات وقتنا لفتح ملفّات السياسيين الذين يرون باستغلال القضاء سلاحًا للدفاع عن صورتهم الهشّة. وهذه ليست معركة حريّات، هي معركة تأديب لمراهقين. فسلاح الطبقة السياسية هو التهبيل، هو تضييع الوقت بألاعيب وتفاهات. وفي وجه ألاعيب الأطفال هذه، لا بدّ من بعض التأديب، ريثما يكبرون.    

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
البرلمان العراقي يعدّل الأحوال الشخصية
أين أطفال المعتقلين السوريّين؟
23-01-2025
تقرير
أين أطفال المعتقلين السوريّين؟
تعليق

التبَكْبُك القضائي لمراهقي الجمهوريّة الثانية

سامر فرنجية
54 جثماناً انتُشلوا من جنوب لبنان في الأيّام العشرة الأخيرة
حدث اليوم - الأربعاء 22 كانون الثاني 2025
22-01-2025
أخبار
حدث اليوم - الأربعاء 22 كانون الثاني 2025
وزارة الماليّة: لماذا يريدها نبيه برّي؟
22-01-2025
تقرير
وزارة الماليّة: لماذا يريدها نبيه برّي؟