نقد طوفان الأقصى
سمير سكيني

«أنهارُ حقدٍ وثأرٌ طويل»

عن الجانب الثأريّ في طوفان الأقصى

28 حزيران 2024

يا أهلي هاتوا الملح،
حتى يبقى حياً هذا الجرح،
حتى يبزغ من ظلم الليل الصبح.

فتحي الشقاقي

قبل أيّام شاهدتُ للمرّة الأولى فيديو نُشر بعد يومين على عملية «طوفان الأقصى». تدور أحداث الفيديو داخل قاعدة «فجّة» العسكرية شرق قطاع غزة واحدة من القواعد العسكرية العديدة المنشورة في غلاف غزّة، والتي هندست ونفّذت بشكلٍ مباشر المذبحة الفلسطينية المتواصلة، السابقة على الطوفان. عدا فكرة «الاحتلال» بشكلٍ مجرّد، فإنّ الجنود داخل هذه القواعد هم مَن حرصوا بالفعل على تطبيق هذه الفكرة، وقلب حياة الغزّاويّين إلى جحيم لـ16 سنةً على الأقل، هي سنوات الحصار.حيث يقف مقاومان، واحدهما قبالة الآخر، في الوقت الذي يواصل فيه رفاقهما دهم القاعدة. الكاميرا مثبّتة على صدر المقاتل الأوّل. الكادر يُظهر جزءاً من المقاوم الثاني: وجهه، جسده المتأبّط بندقية، وإلى جانبه بالأرض جندي إسرائيلي مضرّج بدمه، على مشارف الموت أو الأرجح أنّه مات بالفعل.

المُقاوم المَعنيّ هادئ، إصبعه على الزناد، وهادئ، إلى أن يصيح به رفيقه: «يلا! ودم أخوك؟ طخّه!»,
فقط عند هذه الصرخة، يُفرغ المقاوم رصاصةً بالجندي الإسرائيلي، من مسافة صفر. بلا أي تردّد. بلا أي حرج. ورَفيقه يواصل: «دمّ أخوك، طخّ! طـــــــخ!». حقّاً… ودم أخوك؟ هل ينسى أحدٌ دم أخيه؟


استوقفني هذا الفيديو بشكلٍ خاص، مع هذه الصرخة بشكلٍ خاص، لأنّها تظهر بشكلٍ خاص بُعداً لم يأخذ حيّزه الفعلي (برأيي) بين أبعاد السابع من أكتوبر. أتحدّث عن «الثأر». الثأر بوصفه عاملاً سياسياً مُحدِّداً في إدارة دورات العنف في مجتمعٍ ما، وحتّى في سياق احتلالٍ أجنبي/ مجتمع محلّي.

لا أحاول ردَّ «طوفان الأقصى» إلى مسألةٍ ثأرية. فالتركيز على هذا الجانب لا ينفي الجوانب الأخرى، بل يعزّزها. جوانب أخرى، مثل أنّ الأساس في السابع من أكتوبر هو عمليةٌ عسكرية تحرّرية، بوجه استعمارٍ إحلالي. لكنّي أركّز على هذا الجانب الثأري كونه يحقّق سبعة أهداف:

1. الثأر كنفيٍ لأن تكون 7 أكتوبر نقطة انطلاق

ركّزت الدعاية الإسرائيلية على أنّ «كلّ شيء بدأ في السابع من أكتوبر»، لتنتهي بلوم حماس على الإبادة التي ترتكبها هي بحقّ الفلسطينيين. أجاب البعض بانتقاد حجم الردّ غير المتناسق— إلّا أنّ هذا الجواب لا يرفع اللوم عن عملية المقاومة بقدر ما يبدي انزعاجاً من شكل الردّ الإسرائيلي. وأجاب بعضٌ آخر بضرورة وضع الأمور في سياقها، والتأكيد على أنّ «كل شيء بدأ في العام 1948» مع النكبة الفلسطينية. ومع مشروعية هذا الجواب، إلّا أنّني لا أجد ما يستدعي العودة إلى الوراء كل هذا الحدّ: صرخة «ودم أخوك؟» تكفي. المذابح الإسرائيلية بحقّ الغزاويّين في سنوات الحصار فقط، تستدعي طوفاناً، فماذا عن نكبةٍ كاملة؟
صرخة «دم أخوك» تحمل ضمنياً إشارةً إلى أنّه يوجد دمٌ قد سُفك قبل هذه اللحظة، فلا يمكن أن يكون الحدث الآن هو لحظة الصفر.

2. الثأر كجواب على سؤال العدالة

تحمل عبارة «دم أخوك» أيضاً بشكلٍ ضمنيّ بُعداً قضائياً، بُعداً عَدلياً، بالمعنى الدقيق للكلمة. ما فعله صاحب الصرخة، هو أنّه لعب للحظة دورَ القاضي، محقّقاً ما عجزت المؤسّسات الدولية عن تحقيقه في غزّة: تحويل مفهوم «العدالة» من فكرةٍ مجرّدة إلى تطبيقٍ عملي.

تراوحت المواقف الذاتية من 7 أكتوبر بين نقيضَين: من اعتباره «يوماً عظيماً»، إلى اعتباره «أكبر مذبحة بحقّ اليهود ما بعد الهولوكوست»، وكل ما بينهما. لكن موضوعياً، وبشكلٍ بسيط، السابع من أكتوبر هو جواب على سؤال العدالة. يمكن لمَن يشاء أن يعترض على شكل الجواب، لكنّه يبقى جواباً على سؤال العدالة، تحديداً لحضور هذا البعد الثأري. ننفر عادةً من الثأر، أو نعتبره فعلاً «عنيفاً»، «قَبَلياً»، «متخلّفاً»، لاعتقادنا بأنّ «الحضارة» عموماً قد بلغت مرحلةً تجاوزت عندها مسألة الثأر، مع تشكيل بُنى قضائية تحقّق العدالة، وتنتصر للضحية إن سُفَك دمها، فتُنهيها عن سفك دمٍ جديد درءاً لتغذية دورة العنف أكثر فأكثر. وغالباً ما تُدير هذه البنى القضائية هيئةٌ منتخبة، «مُحايدة»، تحكم بالعدل.

لكن ماذا يحصل في سياقٍ لا وجود فيه لمثل هذه البنى؟ غزّة مثالاً.

فقط مع طمس هذا السؤال بشكلٍ مطلق وصادم، تنطّح العالم لإدانة حماس، وإدانة الفلسطينيين عموماً، وتبرير إبادتهم. لكن حتّى بين مناصري الإبادة، وُجدَ مَن أشار إلى أنّ «السابع من أكتوبر لم يأتِ من خواء». حقّاً، ما المُخرَجات المتوقّعة عند تكديس الناس في سجنٍ مفتوح 20 عاماً، مع جزّ العشب بين الحين والآخر؟

بعضٌ آخر حاول الالتفاف على هذا السؤال، بالشكل التالي: «هل من العدالة أن يُقتل مدنيون؟».

3. الثأر كتفكيك للقناع الأخلاقَوي: «ماذا عن المدنيّين؟»

ما زلتُ أرى أنّ هذا السؤال استُغلّ كابتزاز، لا كحرصٍ فعليّ على «المدنيّين»— خاصّةً من طرفٍ لم يُمانع إبادة 40 ألف مدني في أشهرٍ قليلة. لكن مع ذلك، اللافت في هذا السؤال هو أنّ جوابه عند مَن يسأل، لا عند مَن يُسأل. ليست حماس مَن أقعدت مُستوطنين في غلاف غزّة، ولا هي مَن جعلتهم يخنقون غزّة، ولا جعلتهم أداةً تطبيقية لفكرة «الاحتلال» المجرَّدة. ليست حماس من جعلت التجنيد إلزامياً، ولا هي من سمحت للمدنيين بحمل السلاح علناً. ليست حماس مَن تعمّدت إذاً مَحو الفارق الواضح بين «مدني» و«عسكري» في هذه البقعة. وليست حماس مَن نظّمت حفلاً ساهراً على فوهة البركان. وليست حماس مَن قتلت مدنيّيها بالفعل وعن قصد أثناء العملية. لا تعتمد حماس «إجراءات هنيبعل».
بل أكثر: ليست حماس مَن استخدم عدد الضحايا المدنيين كورقة ضغط في المفاوضات، فيما تواصل إسرائيل فعل ذلك منذ تسعة أشهر، كما صرّحت الخارجية الأميركية بصراحة، أنّه «نظراً لعدد القتلى المرتفع بين المدنيين، من الأفضل أن تسلّم حماس سلاحها».

بعد ما ذُكر، لا أجد أنّ الجواب المتعلّق بـ«المدنيين» موجودٌ عند حماس.
أمّا بعد: حقّاً، ماذا عن المدنيين؟ المدنيين الذين قتلتهم إسرائيل، ليس فقط بعد السابع من أكتوبر، لكن أيضاً قبل السابع من أكتوبر؟ مَن يكفل حقَّهم؟ وفي حالة سقوط البنى العدلية المُشار إليها، يصبح السؤال: مَن يثأر لهم؟ ماذا عنهم، لا كضحايا فحسب— بل كفاعلين اختاروا في لحظةٍ ما، أن يثأروا لأنفسهم بأنفسهم؟

4. الثأر كمعيارٍ أقرب إلى الواقع في تقييم القضايا

معظم النقد الموجَّه لحركة حماس يركّز على إخراجنا من غزّة عدا عن النقد الذي يحيلنا إلى داخل غزّة، ربطاً بنمط حكم حماس، وهو نقد ينطلق (بمعظمه) من إسلاموفوبيا تتلطّى خلف عناوين تقدّمية. أو النقد الذي يصيب بالفعل، إلّا أنه ينتهي باعتبار أن المشكلة تجاه حماس والداخل الفلسطيني كفيلة بعدم الاصطفاف خلفها في لحظةٍ مثل اللحظة الراهنة.الموقف ممّا فعلته حماس، يوم السابع من أكتوبر، لا يمكن أن ينطلق من العلاقات الـ«جيو-استراتيجية» ثم إليها. بل يُفترض أن ينطلق منها، باتّجاه العلاقات الأوسع.

الفلسطيني الذي يجد دبابةً أمام داره، لا يفكّر ما إذا كان استهدافها يصبّ بصالح «تحسين نفوذ إيران في المنطقة»، مثلاً. (ولو أنّ هذا الفعل قد يحمل هذا الأثر في مرحلةٍ لاحقة). هو ببساطة رأى دبابة أمام داره. دبّابة من الأرجح أنّها قتلت أخاه. والبديهي، في هذه الحالة، أن يرميها بصاروخ.

المشكلة عند مَن يحاولون إبداء الحرص على مصلحة الفلسطيني عبر سؤالهم: «ماذا عن حماس؟»، «ماذا عن المحور؟»، المشكلة أنّهم يقومون بالعكس تماماً: يسحبون من الفلسطيني فاعليّته السياسية، كأنّه لا يقاوم بذاته، إلّا بأمرٍ من هنا أو هناك. ينزعون عنه إنسانيّته، عبر حرمانه من حقّه بالثأر. وكأنّ الدم المسفوك لا يستأهل ردّاً من هذا النوع، فينتهون بتحقير الفلسطيني إيّاه الذي حاولوا التضامن معه، فقط لأنّه قرّر أن يثأر. فقط عندها، يترفّعون فجأة عن التضامن معه.

5. الثأر كإعادة تصويب لمفهوم «التضامن»

من المثير التفكير بمفعول الثأر على مجريات الأحداث، وكيف أنّ التضامن مع الفلسطيني، الذي اعتدنا أن نراه تضامناً مع جثّة الفلسطيني حصراً، عليه أن ينبع أيضاً من الضدّ: من الفلسطيني الذي يثأر، والذي يَقتل، والذي يمارس عنفاً. ولا خجل بذلك أو حرج. ولا تردّد ولو لحظة واحدة بتبنّي هذا العنف مهما بدا مُطلَقاً.

ورغم أنّ رقعة التضامن مع الفلسطينيّين قد اتّسعت بعد السابع من أكتوبر، إلّا أنّ هذا التضامن كان «أسهل» قبل السابع من أكتوبر. سهل أن تتضامن مع مَن يُسفَك دمه. هذا تضامنٌ شبه مجّاني. لكن هل نتضامن، *رغم* الدم الذي قرّرت الضحية أن تسفكه؟
طبعاً، بل إنّنا نتضامن معها تحديداً لأنّها اختارت فعل ذلك، لأنّها اختارت إخراج نفسها من خانة الضحية، إلى خانة الفاعل في السياسة ومُحدِّدها.

رأيتُ عدّة مشاهد من الإبادة في غزّة مُرفقة مع التعليق نفسه: «ماذا كنتَ لتفعل لو كنت مكانهم؟». الثأر بهذا المعنى قيمة كَونية (universelle)، تحضّ على التحرّك، وتجمع مَن لا تربطه (بالظاهر) علاقةٌ بغزّة. تردَّد هذا السؤال بشكلٍ خاص في الولايات المتحدة الأميركية، في المظاهرات الطلّابية، حتّى أنّ أغنية «قاعة هند» لماكلمور تُختَم بالسؤال: «ماذا لو كنتَ في غزّة؟ ماذا لو كان هؤلاء أطفالك؟». بهذا المعنى، الثأر قيمة إنسانية عابرة للحدود.

6. الثأر كنهاية لأشكال الحكم الهُلاميّة

الاصطفاف مع عملية «طوفان الأقصى» لا يعني الترفّع عن نقدها. وُجدَ بين مؤيّدي العملية مَن يقول إنّ قيادة حماس لم تحسب جيّداً؛ ومَن يقول إنّ القيادة «نجحت تكتيكياً وأخطأت استراتيجياً»؛ ومَن يقول إنّها بعكس الظاهر، قد عجّلت بتصفية القضية الفلسطينية؛ ومَن يقول إنها قضت على حلّ الدولتين… بالحقيقة، هي لم «تقضِ» على هذا الحلّ، بل كشفت استحالته. ما حصل يوم السابع من أكتوبر وما تلاه، يطيح مرّةً واحدة وأخيرة باستراتيجيات النضال السلمي، كما يطيح مرّةً واحدة وأخيرة بحل الدولة أو حل الدولتين. فمفهوم «الدولة» كمفهومٍ مجرّد، ما عاد يتطابق مع الواقع، ما عاد يصلح للتعبير عن أي شكل من أشكال العيش والحكم والإدارة في هذه البقعة الجغرافية المسمّاة فلسطين التاريخية. ببساطة، تجاوزت دورة العنف حدّاً يمكن عنده لأي «دولة» أن تديره. تالياً، يجب التفكير بأشكالٍ جديدة للحكم، تأخذ في الاعتبار، قبل أي شيء، هذه الدورة، وتحديداً ما تتضمّنه من ثأرٍ فلسطينيٍ لم يُحقَّق بعد أعود إلى مقولة الشهيد مشعل البغدادي: «بيننا وبينهم جبالُ جثث، وأنهار حقد، ودمٌ وعويل، وثأر طويل».كيف ستدور عيشة عائلات وأصدقاء 47,000 فلسطيني، ما بعد الإبادة؟ ما الشكل الأكثر عدلاً لهم؟ دولة؟ دولتان؟ تبدو هذه المصطلحات سخيفة أمام كل هذا الدم.

7.الثأر كعلاقة زمنية لا تنفي الحاضر ولا تعلق فيه

المثير في الثأر أنّه مفهوم أوسع من الزمن: يدور في الحاضر، يدلّل على مظلوميةٍ وقعت بالماضي، وينبِئ بالآتي في المستقبل: يقدّر مرتكب الثأر أنّ فعلَه قد يستتبع عنفاً جديداً، ومع ذلك يقدم عليه، لاعتباره بأنّ هذا هو أفضل الممكن وأحقّ الممكن، نسبةً للظروف المتوفّرة أمامه. هذا هو التصرّف الأقرب إلى العدالة.

بهذا المعنى، يتجاوز الثأرُ الحاضرَ، لكنّ الأهم أنّه، بالوقت نفسه، يُعيدنا إلى هذا الحاضر، إلى هذا الواقع. يُعيدنا إلى «اللحظة» التي تُحاول باقي المُقاربات إخراجَنا منها. لوهلة، ننسى أنّ في غزّة بشراً يُقتلون. كل هذه التحليلات، كل هذه المَحاور، كل هذه المناكفات، كل هذه الأخبار، كل هذه الصوَر، كل هذه الرسوم، كل هذه الدعايات، كل هذا «المشهد» الذي يتعمّد تحويل الواقع إلى مجرّد مشهد… الثأر يكنس كل ذلك ويقول: هنا ناسٌ يُقتَلون، وهنا ناسٌ يُقاومون مقتلتهم بكل السبل الممكنة.

الثأر يكنس كل ما هو مجرّد، ويردّنا إلى ما هو ملموس، إلى ما هو إنساني، شديد الإنسانية.


وأعود إلى صرخة «دم أخوك».
في تلك اللحظة، تحقّق ثأرٌ طال انتظاره. بعد تسعة أشهر على هذه اللحظة، مرّ أمامي فيديو فيه رجلٌ يكفّن شقيقه. يصرخ أمام الحاضرين: والله غير التار، والله غير التار. هذه صرخة تسبق تماماً الصرخة الأولى. هذا الثأر الكامن الذي ينتظر أن يتحقّق. ثم يؤكّد الرجل على ذلك إذ يُكمل: والله غير التار، والله غير الدم.

في مشهدٍ آخر، رجلٌ يجرّ عربة تحمل جثّة طفل ويقول: كل دار فيها تار. ثم يؤكّد: والله، كل دار فيها تار. ثم يؤكّد: اللي صار [للإسرائيليين] مش حرام. لسّا اللي جايي عظيم. اللي جاي أكبر. والله كل دار فيها تار.

هل مَن يلوم هذا الرجل؟

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين الاثنين 1 تموز 2024
الانتخابات الفرنسية: منع سيطرة اليمين المتطرّف على البرلمان ما زال ممكناً
01-07-2024
تقرير
الانتخابات الفرنسية: منع سيطرة اليمين المتطرّف على البرلمان ما زال ممكناً
إقفال معبر رفح نهائياً تحضيراً لبقاء الاحتلال في غزّة
01-07-2024
تقرير
إقفال معبر رفح نهائياً تحضيراً لبقاء الاحتلال في غزّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 1/7/2024 
خضّةٌ في تل أبيب: مَن أطلق سراح مدير مجمّع الشفاء؟
يومٌ لمسيرات الفخر: «لا تحرّر كويري من دون تحرير فلسطين»