مرّت قرابة ثلاثة أسابيع على انفجار مرفأ بيروت. منذ ذلك اليوم، أصبحت أيّامي تتمحور حول ضياع شامل يشلّ طاقتي، ويجعلني، منذ أوائل الصباح، أتنقّل من السرير إلى المطبخ إلى «البلكون»، وأشعر بأنّ الوقت الذي مرّ هو مجرّد دقائق، بينما هو بالفعل ساعات تهدر من يومي وتتطوّر بإحساس بالذنب العميق.
بصفتي طالبة في علم النفس العياديّ، تبدأ أفكاري بتعداد كلّ ما يُعتبر «ردّات فعل طبيعيّة» للصدمة النفسيّة، ومنها: الهلع والخوف والغضب والحزن، أو عدم القدرة على الإحساس بأيّ شعورٍ، والإحساس بخدر أو جمود، وصعوبة النوم، واستعادة ذكريات الحادثة بوتيرة متكرّرة، وتوتّر شديد، وسرعة أو شدّة في الانفعال. من المعروف أنّ هذه العوارض تزول عادةً، وحدها، خلال عدّة أسابيع، وأنّها عبارة عن آثار جانبيّة يفسّرها الباحثون في علم النفس بأنّها محاولات للعقل كي يتفهّم ويستوعب التجربة، بينما هي في الأساس لا تُفهم ولا تُستوعَب. وقد تتطوّر هذه العوارض لدى قسم صغير من المصابين، إلى مرض نفسيّ يُسمى «الاضطراب ما بعد الصدمة»، وهذا المصطلح يصف حالة نفسيّة، يعلق الإنسان فيها وهو يحاول مكافحة الصدمة أو الفرار منها، وكأنّها ما زالت تشكّل له خطرًا فوريًّا.
بالرغم من أنّني أدرك هذه العوارض وقد حفظتها في سنين دراستي، فإنّني في الوقت ذاته لا أراها تساعدني في أن أتفهّم أو أتقبّل أو أسيطر على حالتي النفسيّة. وذلك لأنّي لا أراها تشمل آفاق ردّات فعل مجتمعنا، وبالذات القسم من هذا المجتمع الذي انخرط في الحركة السياسيّة ومهمّة إسقاط النظام السياسيّ الحاليّ وتغييره. بالنسبة لهذه المجموعة، لا تقتصر الصدمة التي يحاول العقل أن يستوعبها، وهي ليست في مدى الاستيعاب، على انفجار مرفأ بيروت (مع أنّه كارثة عملاقة وفعل إجراميّ كبير)، بل هي تفوق حتّى تاريخنا المليء بالانفجارات أو الاستهدافات، أو الصدامات العنفيّة وغير الإنسانيّة من طرف القوى الأمنيّة، وحتّى آثار الحرب الأهليّة التي اعتبرنا أنّنا أنهيناها في ساحات 17 تشرين. صدمتنا أشدّ وأعمق وأكثر تعقيداً من هذه التجارب الفرديّة؛ إنّها محاولة استيعاب موقفنا الحاليّ نتيجة هذه التجارب أجمع، والتي هي مجرّد دليل على أنّنا سجناء نظامٍ قد أقرّ لنا، وبلامبالاة تثير الاشمئزاز، أنّه غير مستعدّ، ولو في أقصى الظروف، أن يدرك إنسانيّتنا.
عندما نحاول أن نفهم حالتنا المجتمعيّة، ومسؤوليّتنا الاجتماعيّة، وحواجزنا السياسية، يزول معنى مصطلح «الاضطراب ما بعد الصدمة» إذ نستنتج حقيقة واقعنا، وهو أنّ صدمتنا لم تنتهِ، بل هي لم تبدأ بعد، وأنّ حالتنا النفسيّة لا يمكننا أن نعتبرها حالة فرديّة، بل هي موصولة مباشرةً بمعركتنا السياسيّة التي تحتاج إلى وعينا وليس إلى اضطرابنا.
ربّما كانت الخطوة الأولى هي محاربة صدمتنا الاجتماعية كمجتمع متكامل وليس كأفراد متفرّقين، وتقبّل عوارضنا الفرديّة (التي هي على الأرجح مؤقّتة) من دون أن نستنتج فورًا أنّها عبارة عن أيّ انهزام سياسيّ أو اجتماعيّ. فالوقت، مع أنّه يبدو ضائعًا، سيمضي. والعقل، ومع أنّه يبدو متعذّرًا التّحكّم فيه، يعالج نفسه. والقلب، عندما يختار أن يثور، يصبح ثائرًا.