سقط شهداء قتلًا وانتحارًا، دخلت البلاد في أسوأ أزمة مالية واقتصادية شهدتها في تاريخها الحديث، خسر الآلاف عملهم وسقط العشرات من الآلاف تحت خط الفقر، تظاهر الملايين وتسكّرت الساحات، ومرّ 53 يومًا على أكبر ثورة شهدها لبنان. والنتيجة: تأجيل جديد للاستشارات، بعدما حسمت دار الإفتاء الخيار «السنّي»، و«مجموعة الدعم الدولية للبنان» الخيار «المالي».
تأجّلت الاستشارات إذاً، ولكنّها لم تعد مهمّة. فشكل الحلّ المطروح اليوم بات معروفًا: حكومة مدعومة ماليًا من الخارج، الورقة الإصلاحية كمدخل للإصلاح، عدم المسّ بتحالف المصارف ومصالحهم. أما هوية رئيس الحكومة أو طبيعة أعضائها، فهذه تفاصيل تحدّدها موازين القوى الداخلية، وقد لا تهمّ أمام الانهيار القادم. فالسلطة انقطعت منذ زمن عن مجرى الأمور بالبلاد، ويمكن لها أن تراوح لمجرّد غرور سياسي أو تتييس صبياني، فليس أركانها من يدفع ثمن الأزمة.
بيد أنّ الأزمة ليست عائقًا أمام السلطة، الأزمة باتت منطق حكمها. لم يعد هناك ما قبل الأزمة أو ما بعدها، ولم تعد هناك إمكانية لتجنّب الأزمة أو تفاديها. الأزمة هي نتيجة سياسات هذه السلطة. هي نموذج للحكم يقوم على توسيع حالات الاستثناء والاستنسابية، ويتّكل على المجهول وعدم الاستقرار، ويحتاج إلى تلاعب بسعر الصرف ومواعيد الاستشارات. الأزمة تؤدّب الاحتجاج، وتقضي على الحقوق المكتسبة وتسمح بإدخال سياسيات تعسّفية تصبح هي الواقع الجديد. السلطة لم تنتظر تشكيل الحكومة للبدء ببرنامجها الإصلاحي، هي بدأت فيه منذ أسابيع، وبدأ يتحوّل إلى واقع اليوم لا عودة عنه. الأزمة هي عنوان الحكومة الجديدة، أيّاً يكن رئيسها.
لم نعد إذاً في وجه سلطة أنتجتها انتخابات نيابية، مهما كانت عوجاء، وتختلف في ما بينها حول كيفية تفادي الأزمة. نحن أمام نخبة سياسية واقتصادية، انقطعت عن شعبها وباتت تحكمه من خلال الأزمة. نحن أمام عصابة تحاول تهريب ما يمكن إنقاذه من الانهيار العام، وتحميل الناس ثمن سياساتهم. ما يحصل في المصارف الآن من نهب ليس استثناء، هو عنوان الخيار الاقتصادي التي اتبعته سلطة الأزمة هذه.
السلطة قطعت مع شعبها، وبالتالي مع الثورة، فهل يمكن للثورة الردّ بالمثل؟
لقد أوضحت مهزلة الاستشارات أنّ ما من حلً لأي أزمة يمكن أن يأتي من السلطة الحالية. وباتت مطالبتها بتشكيل حكومة مطلبًا عبثيًا، هدفه طرح اسم لإسقاطه بالشارع. كما بات واضحًا أنّه إذا تم تشكيل حكومة، فستكون سياستها الاقتصادية كارثية لكونها قائمة على حماية المصارف من تبعيات الأزمة. وأخيرًا، لن تحمينا الحكومة الجديدة من الأزمة، لكونها قائمة عليها لتبرير وجودها. بعد 53 يومًا، وصلنا إلى حائط مسدود مع هذه السلطة.
بدلاً من حالة «المطالبة العدائية»، لا بدّ من إعلانها حالةً من المقاومة في وجه هذه السلطة وحلفائها الاقتصاديين. بدلاً من المطلب، لا بدّ من التهديد: لا حكومة ستحكم بعد اليوم قبل إعادة توزيع أعباء الأزمة. بدلاً من المؤسسات الرسمية، لا بدّ من التركيز على مكامن القوّة في هذا النظام. وبدلاً من الحل، لا بدّ من تنظيم الحياة اليومية في ظل الأزمة.
أما استشاراتهم، فيمكنهم أن يبلوها ويشربوا ميّتها، هم ودار الإفتاء.