شعبٌ غبيٌّ وخانعٌ يستحقّ حكّامه إذ ينتخبهم مراراً وتكراراً، ويستأهِل حياةَ المَهانة إذ يرتضيها ولا ينتفض —هكذا تقول واحدةٌ مِن الحِكَم السياسيّة الأكثر شيوعاً في لبنان.
ولعلّ سِرّ شيوع هذه الحكمة قدرتُها التفسيريّة الهائلة. فما مِن بليّةٍ ابتلى بها هذا البلد إلّا ووجَدَتْ تعليلاً لها في غباء الشعب وخنوعه الفِطريَّين. كيف يحدث أنّ أمراء الحرب ما زالوا يحكموننا في زمن السلم؟ لماذا أذعنّا لهم ولفسادهم ولم نتمرّد عليهم؟ ولماذا لم نشفى بعدُ مِن مرض الطائفيّة؟ إنّ الجواب الوافي لَهُوَ في متناول اليد: شعبٌ غبيٌّ وخانعٌ، إلخ.
لكن مع اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأوّل، قُلِبَت هذه الحكمة رأساً على عقب فاستحال اللبنانيون في غضون أيامٍ قليلةٍ شعباً مجيداً يأبى الذلّ والخضوع، ويَنشُد الحريّة والكرامة. صار يُنْظَرُ إلى الشعب كأنّه بلغ فجأةً سنّ الرشد، فيُقال إنّه كسر الحواجز الطائفيّة والمناطقيّة، وانعتق مِن تبعيَّته العمياء لأسياده.
غير أنّ الشعب المجيد ما لبث أن أبصر النور حتّى كُفِّن ودُفِن. ذلك أنّه فقد شيئاً مِن «حماسته الثورية» فضمرت التظاهرات، ما خيّب ظنّ مُمَجِّديه الذين عادوا، بعد بضعة أشهرٍ، إلى نعته بالغبيّ والخانع. هكذا بات الجواب الوافي إيّاه في متناول اليد مرّة أخرى:لماذا لم تنتصر الانتفاضة؟ لأنّ الشعب كذا وكذا.
وبعد تأليهه لفترةٍ وجيزة، ثمّ تحميله مسؤوليّةَ فشلِ الانتفاضة، غدا هذا الكائنُ السرابيّ المُسمَّى شعباً، مكروهاً أكثر مِن ذي قبل، وصار يُشتَمُ بسببٍ وبلا سبب. فإنْ احتشد الناس أمام محال الصيرفة لشراء 200 دولار كي يبيعوها لاحقاً لتحقيق ربحٍ قدره 200 ألف ليرة، أضحوا مثالاً عن الشعب الحقير الذي يعشق مهانتَه ويُساهم، علاوة على ذلك، في تسريع انهيار سعر صرف عملته الوطنيّة. أمّا الطوابير أمام الأفران، فأصبحت أبْلغ صورةٍ عن شعب لا يتوانى عن بيع كرامته مقابل ربطة خبز.
لكن مَن هو هذا الذي يَشتم الشعبَ صباحاً ومساءً؟ إنّه المواطن الصالح؛ ومثله مثل الشعب، هو كائنٌ سرابيّ. فالمواطن الصالح ليس شخصاً مِن لحمٍ ودم، وإنّما قالبٌ نمطيّ يطفو في السماء، يستطيع مَن يشاء أن يُناجيه ساعة يشاء، فيستجيب القالبُ حينئذٍ ويَسْقُط على المُناجي ويكسوه كرداءٍ لمدّةٍ قد تطول أو تقصر.
ولاستدعاءِ هذه الروح الطيّبة الطافية في السماء، لا حاجة لأيّ سحرٍ أو تعاويذ؛ يكفي أن تَشْتُمَ الشعبَ أو تُحَقِّرَه لكي تصطفيَ نفسَك بنفسِك، منفصلاً عن قطيع البهائم البشريّة التي لا ترى أبعدَ مِن مصالحها الضيِّقة والأنانيّة، فيما أنتَ بِتَّ تُبْصِر المصلحةَ العامّة المحضة بعينها.
ما مِن شعبٍ غبيٍّ من دون مواطنٍ صالحٍ يُمعِن النظر في الحشود المخبولة مُشمئزّاً وساخطاً. والعكسُ صحيحٌ أيضاً، إذ ما مِن مواطنٍ صالح إلّا ويتخيَّل أمامه، حانقاً ومُتقزِّزاً، بحراً يعجّ بمخلوقاتٍ نصف آدميّة ونصف حيوانيّة.
ليس الشعورُ بالغيظ والقرف غايةً في حدّ ذاتها، بل وسيلة تتيح للمواطن الصالح اقتناصَ بعضٍ مِن اللذّة النرجسيّة. فما وراء البحر العكر الذي تتخبَّط فيه مخلوقاتٌ ممسوخةٌ تَنهش لحمَ بعضها البعض، هناك في البعيد، حيث تلتقي المياهُ والسماءُ، يُبصِر المواطنُ الصالحُ صورتَه نقيّةً ناصعةً، فتنبهر عيناه فيما تُدغدِغُ بدنَه لذّةٌ هو في أمسّ الحاجة إليها. وعندما تنتهي لحظةُ التأمّلِ الصوفية، يعود المواطن الصالح إلى تصريف شؤون حياته اليومية، فيذوب في قطيع البشر الهائم على وجهه. وفي الآن عينه، ينفصل كائنٌ آخر عن القطيع، فيشرع يصبّ غضبَه على الشعب، وهكذا دواليك.