الحرب لم تردع المافيات، بل قدّمت لهم مجالات جديدة للاستمرار بنهبهم. ففي ظل حرب تتصاعد كل يوم، تستمر المافيات بالبحث عن طرق جديدة لاستغلال الموارد وضرب مقومات الحياة.
الأرز المسرطن برعاية عماد الخطيب
24 طنًا من الأرز المسرطن، تسرّبت وبيعت في الأسواق اللبنانيّة على مرّ السنة الماضيّة. تبدأ القصّة باستيراد الكميّة من قبل رجل الأعمال المعروف عماد الخطيب، وتعهّده للجمارك اللبنانيّة بعدم بيعها قبل صدور نتيجة التحاليل المخبريّة التي يفترض أن تكشف مدى صلاحيّاتها للاستهلاك البشري. وعند صدور النتيجة، تبيّن عدم مطابقة الأرزّ المستورد للمواصفات، لاحتوائه على مواد مسرطنة، وهو ما كان يفرض الامتناع عن بيعه. غير أنّ المفاجأة كانت حين تبيّن أنّ الأرز المستورد قد بيع في السوق، بخلاف التعهّد الموقّع من عماد الخطيب.
بهذا الشكل، يستكمل عماد الخطيب سجلّه الطويل المليء بفضائح الفساد. إذ يرتبط إسم الخطيب بسلسلة طويلة من الدعاوى والتحقيقات التي لم يصدر القضاء حكمه النهائي فيها بعد: من ملف صيانة مبنى بلديّة بيروت، إلى صفقة تشجير العاصمة، وصولًا إلى سرقة الأتربة والأشجار المعمّرة من حديقة المفتي حسن خالد. وفي جميع هذه القضايا، ظلّت التحقيقات والدعاوى أسيرة المراوحة، جرّاء الدعم السياسي الذي تلقّاه الخطيب. فالخطيب، كما هو معلوم، لطالما مثّل نقطة تقاطع ما بين الرئيسين نبيه برّي وسعد الحريري، ممّا وضعه في صدارة قائمة «متعهّدي الجمهوريّة» المعروفين.
حتّى هذه اللحظة، لم يدفع الخطيب ثمن هذه الخطيئة الجديدة، باستثناء تسديده غرامة هزيلة بقيمة 40 ألف دولار أميركي، لقاء مخالفته نص التعهّد الذي قضى بعدم بيع الأرز قبل صدور نتيجة التحليل.
مشروع السطو على الأملاك العامّة
فضيحة الأرز ليست الصفقة الوحيدة في هذا الأسبوع. فيوم الثلاثاء الماضي، كانت لجنة الإدارة والعدل على موعد مع اجتماع لمناقشة مشروع قانون إنشاء المؤسسة المستقلّة لإدارة أصول الدولة. يمثّل الاجتماع الخطوة الأولى باتجاه تنفيذ المشروع الذي طرحته جمعيّة المصارف منذ العام 2020: تحويل كتلة من الالتزامات المترتّبة عليها إلى ديون عامّة تُسدَّد من خلال استثمار أصول الدولة اللبنانيّة ومرافقها. وإذا حققت الجمعيّة هذا الحلم التاريخي، فستكون قد نجحت في تجريد القطاع العام من جميع الأصول المدرّة للعوائد، مقابل تملّص المصارف من تحمّل نصيبها من خسائر الانهيار. أفضى الاجتماع إلى تشكيل لجنة فرعيّة لصياغة نص مشروع قانون جديد، بدمج المشروعين المقدّمين من القوّات اللبنانيّة وحركة أمل. وعلى هذا الأساس، بات المشروع على سكّة التنفيذ، في ظل الحاضنة السياسيّة والتبنّي الذي يحظى به من الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة الأساسيّة.
كُتب الكثير عن النتائج المتوقّعة من هذا المشروع في المرحلة الماضية. لكن الأكيد هو أنّ مشروعاً من هذا النوع سيؤدّي أولًا إلى الإطاحة بإمكانيّة لعب الدولة أي دور اقتصادي أو اجتماعي، كما سيطيح بحقوق المودعين على المدى البعيد. إذ من غير المتوقّع أن تتمكّن الدولة- ولو عبر استثمار أصولها- من تسديد الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي، والتي يوازي حجمها 3.6 مرّات حجم الاقتصاد المحلّي بأسره. أمّا الأهمّ، فهو أنّ المشروع هذا سيضرب قدرة الدولة على إعادة جدولة الديون المترتبة لمصلحة حملة سندات اليوروبوند، الذين يعلمون أن الدولة لن تسدد ديونهم في المستقبل بعد تجريدها من الأصول المربحة.
لا إعادة هيكلة للمصارف
يأتي طرح مشروع السطو على الأصول العامّة كبديل عن مشروع إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي جرت تصفيته داخل مجلس الوزراء خلال الأسابيع الماضية. آخر اجتماعات الحكومة المخصّصة لدراسة هذا المشروع، أفضت إلى سحبه من التداول، بعد أن شنّت جمعيّة المصارف واللوبي الذي يدور في فلكها هجمة شرسة ضد مشروع القانون. وجاءت هذه الهجمة تحت عناوين مثل «قدسيّة الودائع» وضرورة تحمّل الدولة «مسؤوليّتها» في إعادتها.
بعيداً عن هذه الشعارات المخصّصة للاستهلاك الإعلامي، كان تحفّظ جمعيّة المصارف على مشروع القانون ينطلق من مكان آخر: رفض شطب رساميل وأسهم أصحاب المصارف، ورفضها إلزام أصحابها بضخ رساميل جديدة للحفاظ على ملكيّة مصارفهم، وتحفّظها على فكرة تمييز الودائع غير المشروعة. كما تحفّظت الجمعيّة على مبدأ تسديد الودائع المضمونة بالدولار النقدي، وطالبت بأن تكون شريكة في اللجنة التي تشرف على عمليّة إعادة الهيكلة. وجميع هذه التحفّظات، عبّرت عنها الجمعيّة بشكل مكتوب، في رسالة قدّمتها للقوى السياسيّة.
في ظل الحرب القائمة، لم تكفّ المافيا عن تقديم بديلها لمعالجة الأزمة المصرفيّة في مجلس النوّاب، بعد سحب المشروع من مجلس الوزراء.
المساعدات الاجتماعيّة بدل تصحيح الأجور
اضطرّ مجلس الوزراء للتعامل مع أزمة أجور موظفي القطاع العام، بعدما شلّ إضرابُهم مرافق الدولة بشكل كامل. غير أنّ المعالجة التي ذهب باتجاهها مجلس الوزراء قامت على منح الموظفين والمتقاعدين مساعدات اجتماعيّة إضافيّة، من خارج أصل الراتب الذي يستفيد منه هؤلاء. أمّا هدف هذا التحايل، فهو التملّص من احتساب هذه الزيادة لاحقاً عند تحديد قيمة تعويضات نهاية الخدمة للموظفين. وبهذا الشكل، جاءت المساعدات كبديل عن التصحيح الشامل للأجور، الذي كان يفترض أن تقوم به الدولة بعد التدهور الذي شهدته قيمة الليرة اللبنانيّة.
تتحجّج الحكومة في العادة بعدم كفاية مواردها الماليّة، لإجراء تصحيح شامل للأجور يأخذ في الاعتبار معدلات التضخّم التي تراكمت خلال السنوات الماضية. وإذا كانت الحكومة محقّة لجهة عدم كفاية الموارد، فالمعالجة المطلوبة كانت إجراء تصحيح ضريبي يعيد التوازن إلى الماليّة العامّة، بدل تحميل الموظفين كلفة تردّي الواردات العامّة بهذا الشكل. ومن المعروف أن تراجع قيمة الأجور، وامتناع الموظفين عن العمل في العديد من الدوائر الرسميّة، مثّل بدوره سببًا إضافيًا من أسباب تراجع قيمة الواردات الحكوميّة.
لمصلحة مَن يعملون؟
في ظل الأحداث التي تجري في الجنوب، تغاضت الحكومة والمجلس النيابي عن السعي لتخصيص أي موارد ماليّة تُعنى بأعمال الإغاثة أو دعم المتضرّرين من العدوان الإسرائيلي، بحجّة عدم توفّر الأموال لذلك. غير أنّ المجلس النيابي لم يجد حرجًا، وخلال الحرب نفسها، في بدء العمل على مشروع يهدف في خلاصته إلى تجريد الدولة من معظم مواردها الماليّة، لإنقاذ المصارف وتعويمها.
الخلاصة الأساسيّة التي يمكن أن تقدّمها جميع هذه الأحداث، هي أنّ الأموال والموارد الماليّة موجودة حين يرتبط الأمر بمصالح النخبة الماليّة او السياسيّة، لكنها غائبة عند المطالبة بتصحيح الأجور أو إغاثة أهالي الجنوب. أمّا الأهم، فهو أنّ المافيا اللبنانيّة، حتّى خلال الحرب، ما زالت تعمل بنشاط لتحقيق كل ما يخدم مصالحها.