ما أن انكشفت المجازر الطائفيّة في الساحل السوري، حتّى سارع الرئيس السوري أحمد الشرع لإنجاز الخطوات المتبقّية أمام قيام الدولة السوريّة الجديدة تحت قيادته. في أسبوع واحد، وقّع اتفاقاً مع الكُرد، توصّل لتفاهم أوّليّ مع دروز السويداء، وصادق على الإعلان الدستوريّ الجديد الذي يمنحه صلاحيّات هائلة. كأنّ المجزرة بحقّ العلويّين شكّلت المرحلة الأخيرة قبل تكريس الشرع نفسه حاكماً بأمره في سوريا ما بعد الأسد.
يوحي تسلسُل الأحداث هذا، بأنّ مجازر الساحل لم تكن حدثاً عابراً أو «تجاوزات» قام بها أفرادٌ سيُحالون إلى لجنة تحقيق، بل كانت- كما قال الشرع نفسه- أحداثاً «متوقّعة»، حجر أساس لتوطيد سلطةٍ انتقلت في أيّام قليلة من المجزرة إلى الإعلان الدستوري.
قسد: الاتفاق المفاجئ
سارع الشرع لعقد اتفاق مع «قسد»، حليفة المجتمع الدولي، غداة المجزرة بحقّ العلويين. استُبدلت سريعاً عناوين إدانات مجازر الساحل بعناوين الترحيب العربي والدولي بالاتفاق. حتّى أنَّ ردود الفعل الغربيّة جاءت لصالح الشرع: حمّل الاتحاد الأوروبي فلول نظام الأسد مسؤولية الاعتداءات وتصاعُد العنف في الساحل، معتبراً أنَّ الإدارة السوريّة تحرّكت بسرعة لاحتواء الأوضاع، ومرحّباً بتعهّد إدارة الشرع بمحاسبة منفّذي المجزرة، من دون الإشارة إلى تورّط وزارة الدفاع بهذه الانتهاكات. بساعاتٍ قليلة، حوّل الشرع مشاهد الحداد والقهر إلى مشاهد احتفال باستعادة السيطرة على أراضي «قسد».
بموجب الاتفاق، تستعدّ الزعامة الكرديّة لدمج مؤسساتها المدنيّة والعسكريّة ضمن مؤسسات الدولة، بما في ذلك حقول النفط والغاز والمعابر الحدوديّة. كما يضمن الاتفاق حقوق الكرد بالمواطنة والتمثيل والمشاركة في العمليّة السياسّة. وبسبب غموض بعض التفاصيل، خاصةً تلك المتعلّقة بصيغة الاندماج بالجيش السوري، منح الشرع نفسه حتّى نهاية العام لإتمام الاتفاق مع قسد على الأرض.
السويداء: التفاهم الناقص
بعد إنجاز الاتفاق مع الكرد، توجّه الشرع جنوباً نحو السويداء. أبرمت إدارة الشرع تفاهماً أمنياً وإدارياً مع الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري، لكن من دون التوصّل إلى اتفاقٍ واضح. وافق الهجري على تفعيل دور وزارة الدفاع وجهاز الأمن العام في السويداء، ولكن بمشاركة أبناء المحافظة حصراً، أي أنَّ الدمج الأوليّ بقي شكلياً إلى حدًّ ما.
رغم التفاهم، صعّد الهجري موقفه ضدّ إدارة الشرع التي اعتبرها «حكومة متطرفة بكل معنى الكلمة ومطلوبة للعدالة الدولية». زادت نقمة الهجري على الشرع بعد مجزرة الساحل، ورأى أنَّ الطائفة الدرزيّة بمرحلة «كن أو لا تكون». لكنَّ الشرع يعوّل على تحالفه مع أكبر فصيلٍ في السويداء، حركة رجال الكرامة، بقيادة ليث البلعوس. يرى البلعوس نفسه شريكاً في تحرير سوريا من نظام الأسد، وكان قد قاد تمرّدات صغيرة بوجه نظام الأسد خلال آخر عامين قبل سقوطه. يتجنّب البلعوس المواجهة المباشرة مع الهجري، لكنّه مستعدٌ للاندماج، فهو الذي أدخل أرتال الأمن العام إلى المدينة، رغم رفض الهجري لذلك. يبدو أنَّ الشرع سيستفيد من حالة الانقسام هذه في السويداء ليبرم اتفاقاً مع الوجهاء الدروز، شبيهاً بالاتفاق مع عبدي، خاصّةً وسط تنامي الأطماع الإسرائيلية وتطبيع امتدادها في الجنوب السوري.
الإعلان الدستوري
في الأسبوع نفسه، صادق الشرع على الإعلان الدستوري الجديد الذي منح الإدارة الانتقالية شرعيّة الحكم، ومنح الشرع صلاحيات واسعة. حدّد الإعلان مدّة الفترة الانتقالية بخمس سنوات، لكنّه منح الشرع كلّ ما يريده لفرض سطوته على سوريا خلال هذه السنوات الخمس.
فعلى المستوى التشريعي، يعيّن الرئيس، وفق الإعلان الدستوري، ثلث أعضاء مجلس الشعب بشكل مباشر. أمّا الثلثان الآخران، فتختارهما لجنةٌ عليا يعيّنها الشرع نفسه. الشرع أيضاً هو رئيس السلطة التنفيذيّة، ولا وجود لرئيس حكومة، وهو من يعيّن وحده البعثات الدبلوماسية. أمّا على المستوى القضائي، فالشرع أيضاً يعيّن كلّ أعضاء المحكمة الدستورية العليا. وغنيّ عن القول إنّ الشرع أيضاً هو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلّحة، ومن حقّه إعلان حالة الطوارئ، ومن حقّه وحده اقتراح تعديل الإعلان الدستوري، وإصدار عفو خاص.
بالمقابل، لم يفصّل الإعلان أي ضمانات أساسيّة لإشراك جميع المكوّنات السوريّة بالحكم، إذ اكتفى بعباراتٍ فضفاضة حول حماية الحقوق ومنع التمييز على أساس الجنس والعرق والدين. وليس مستغرباً أن تكون «قسد» أوّل المتحفِّظين على الإعلان الدستوري الذي شبّهته بحقبة حكم حزب البعث، إذ يضمّ بنوداً تشبه فترة الأسد، خاصةً لجهة الصلاحيات الواسعة الممنوحة لرئيس الجمهورية.
بعد ترويع أبناء الساحل السوري وقتلهم، جاء الإعلان الدستوري ليثبّت استفراد الشرع وفصائل «مؤتمر النصر» بالحكم، وقد تورّط بعضها بمجازر الساحل.
رأى الشرع في المجزرة بدايةً ملائمة لعهده الجديد: مشاهد مروّعة ستبقى في أذهان من يفكّر في معارضته، خصوصاً من الأقليات السوريّة. لجنة تحقيق تحفظ هيبة الدولة شكلياً، وقد تحاسب بعض الأفراد، لتغسل بدَيّ السلطة من دماء العَلَويّين. إعلان دستوريّ جديد يتيح لمَن «حرّر» سوريا أن يحكمها منفرداً.
ليست المرّة الأولى التي تُؤَسَّس فيها دولٌ في منطقتنا على مجازر، وليست المرّة الأولى التي يوطِّد فيها قادةٌ سلطتَهم بالدماء. لكنّ سوريا الخارجة من جحيم آل الأسد، تستحقّ أن تنجو من مزيد من الألم.