لم يكن التعرّض لي بالضرب من قبل شبّيحة التيار الوطني الحرّ ليرمي بثقله على كياني الخاص لولا شعوري بهشاشة الحياة في هذا البلد. ما أن قلتُ لمنصور فاضل، نائب رئيس التيار: إنت من ضمن المنظومة الحاكمة، حتى دعاني لمغادرة الطاولة خلال ثلاث ثوانٍ. غادرتُ الطاولة، لكنّه أصرّ على ضربي هو وشبّيحته بعدما رفعتُ صوتي وقلتُ له إنت فاشي وعنصري. أحسست وأنا أقول له ذلك بشحنة غضب. غضب من تقديس الزعيم، من العنصرية على اللاجئين والطائفية التي تضع الناس دائماً في وجه بعضها بعضاً. أحسستُ بالثأر لهؤلاء الناس الذين يعانون الخوف والقهر. لم أكن أعلم أنّه بمجرّد النطق بتلك الكلمتين، سأتحوّل إلى «مقاوم» أشبه بمقاومي الفاشية في إسبانيا كما كنت أقرأ في كتاب «تحية لكتالونيا» لجورج أورويل قبل دقائق من المواجهة.
كلمتان اختصرتا هذا التيار الفاشي الذي ينمو على أنقاض وجع الناس وبؤسهم. أُجبِرتُ على مغادرة المكان لكنّ كرامتي أبت الخضوع الكلّي، فقرّرت الانتقال لتكملة احتساء القهوة وقراءة كتابي حفاظاً على ما تبقّى من كرامة مغشوشة وضبابية. أحسستُ أنّ وهم الكرامة أفضل من نضوبها الكلّي. شعرتُ أنّ المهانة القائمة أفضل من تحويل كياني إلى شبح، لكن لم أسلّم. من جديد هجموا وأكملوا على ما تبقّى من كرامة مغشوشة من خلال الضرب والسباب والشتم.
هم المأزومون ليس سياسياً فحسب، بل أخلاقياً أيضاً. نحن هوامش صلبة يحاولون مسحها، هم الذين ترعبهم كلمة «المنظومة» لأنّهم شركاء بها، ونحن الجريئون في توصيفهم والتمرّد عليهم. يحاولون حتى حرماننا من غضبنا، كتم صراخنا، تقطير كلماتنا، لكنّنا مستمرّون في مواجهة المنظومة بكلّ تفرعاتها الهمجية، الفاشية منها والفاسدة. نحن سنبقى في مواجهة مبشّري الخوف والوهن. وهم سيبقون متمسّكين ببلطجيّتهم وتشبيحهم. غضبنا إنساني وجودي، وغضبهم هروب إلى الامام نحو مزيد من التأزُّم الأخلاقي.
لم يكن توجّهي إلى القضاء والادّعاء على منصور فاضل وشبّيحته إلا فعلاً روتينياً، مملّاً. ألم يقُل نبيه برّي يوماً: الضعيف يذهب إلى القضاء؟ نعم، ربّما أنا ضعيف ومسكين، لكنّ وهم قوّتكم هو هراء. أنتم مسخ أقوياء تتجرّأون على النيل منّا من خلال استغلالكم السلطة وسيطرتكم المطلقة على خوف الناس. لا أريد أن أستعمل زندي ولا حنجرتي ولا حتى حواسي. أريد أن أتقبّل الهزيمة من خلال تمسّكي بصمتي. آثرت الصمت، تقبّلت اللكمات، واستمعت لشتمهم بهدوء، ليس خوفاً منهم، بل تمسُّكاً بما أؤمن به. آثرت أن أبقى صلباً متماسكاً أمام هول وفظاعة تشبيحهم.
رسالتي إلى شبّيحتهم: أنتم مثلي ضحايا هذا النظام الاستغلالي المنفعي. رسالتي الأخرى إلى مسؤولي هذا التيار، ومن بينهم منصور فاضل، هستيريّتكم تعبير فاضح عن أزمتكم. أمّا رسالتي الثالثة إلى الناس: فلنكن أقوياء في المواجهة، ولنقاتل معاً من أجل حرية التعبير والرأي. وتبقى استعادة صورة اليافطة التي كانت معلّقةً على أبواب مدريد في الحرب ضد الفاشية مطبوعةً في ذهني. أينما كنتم: لن تمرّوا، لن تمرّوا.