لا بدّ لمُتابعِ ما يُكتَب عن الأدب في الصحافة الثقافيّة اللبنانيّة أنّ يُقِرَّ، عاجلًا أم آجلًا، بهذه الحقيقة الأوليّة البسيطة: الغالبية الساحقة من مقالات النقد الأدبي تنتمي إلى نوعٍ كتابيّ غرائبي لا يَفتَرِض وجود مخاطَبٍ أو مُتلقٍّ. فنشرها لا يهدف إلى إذاعة مضمونها على قُرّاء. ذلك أنّها كلمات وعبارات تؤدّي وظيفتَها بصرف النظر عن مضمونها الفعلي.
وهذا لا يعني بالضرورة أنّ كتّاب هذه المقالات يدركون وهم يُدبِّجونها أنّهم لا يتوجّهون بمحتواها إلى أحد؛ فلا شكّ في أنّ بعضهم يعتقد أنّه يكتب لقرّاء. لكنّ اعتقادَ الناقد بأنّه يُخاطِب قارئًا لا يُغيِّر واقعَ أنّ نَصّه لا يُخاطِب – على وجه العموم – أحدًا. فالحال أنّ مَن يَكتب هذا النوع مِن المقالات في الصحافة اللبنانية، إنّما يصبح في أغلب الأحيان أسيرَ لُعبةٍ لها قواعد غير مُعلنة ولا مفرّ له من الامتثال لها، حتّى لو لم يعِ ذلك.
يَفترِضُ وصفُ هذه اللّعبة تحديدَ أنماط النقد الأدبي السائدة في الصحافة اللبنانيّة (سوف نقتصر في ما يلي على مراجعات الروايات):
هناك أوّلًا المقال الوصفيّ الذي يكتفي بعرضٍ مُفصَّلٍ لأحداث الرواية بلا أيّ سعيٍ للتقييم أو التحليل، لا مِن ناحية المضمون، ولا من ناحية الأسلوب الكتابي والتقنيات الروائيّة.
صحيح أنّ مثل هذه المقالات شائعة– إلى حدٍّ ما– في الصحافة الثقافيّة الغربيّة، لكنّها تأتي مُقتضَبةً، فتؤدّي وظيفتَها المُتمثِّلة بإطلاع القارئ على أحدث المنشورات. وهذا فضلًا عن أنّها لا تطغى، في تلك الصحافة، على غيرها من أنماط الكتابة عن الأدب الروائي.
أما في صحافتنا، فتُشكِّل هذه المقالات النمطَ الأكثر شيوعًا من المراجعات، ولا يَلتزِم كُتّابُها – إلّا في ما ندر – بوظيفتها الإخبارية المحض، والتي تقتضي إيجازًا في العرض، وخفّةً وسلاسةً في الصياغة والأسلوب. لا بل على العكس تمامًا، تَراهم يسهبون في سردٍ مُعقّد ورتيب لحبكةِ الرواية وأحداثها الرئيسة والثانوية، ذاكرين بالأسماء، أحيانًا، حتّى الشخصيات الأكثر هامشيّة، فيُخيَّل إليك أنّهم ينجزون فرضًا مدرسيًّا مُضنيًا ولا يسعون، تاليًّا، سوى للانتهاء منه كيفما اتّفق.
باختصار: الكاتبُ ينشد لقمةَ العيش فيما المُحرِّر يبحث عمّا يسدّ به فراغات الصفحة الثقافيّة؛ أمّا القارئ، فلا محلّ له من الإعراب في هذا التبادل النفعي بين طرفَيْن لا ثالث لهما. لكن من يكون القارئ وما هي حاله إذا كان الكُتّاب على هذه الحال؟
هناك ثانيًا المقال التقريظيّ الذي يكيل مديحًا منقطع النظير للرواية ومؤلِّفها. والقارئ الذي لا يَأْلَف هذا النمطَ من النقد، لا مناص له من الاعتقاد أنّ الروايةَ المُتناوَلةَ لهي تحفةٌ ستُغيِّر وجهَ الأدبِ اللبناني، لا بل العربي وحتّى العالمي، وأنّ المقبلين من الأجيال لن ينفكّوا عن قراءتها، دارسين إيّاها ومُستلهِمين منها.
لكنْ تكفي قراءةُ عشرة من هذه المراجعات للتيقّن من أنّ هذا النوع الكتابي ليس إلّا ضربًا من ضروب اللياقات الاجتماعية السائدة في الأوساط الثقافية اللبنانية. فالنصوص هذه تُكتَبُ وتُنشَر من باب المُجاملة حصرًا. ذلك أنّها مجرّد هَذْرٍ مُفخَّمٍ ولغوٍ أجوفَ رنّانٍ، ورَصْفِ كلمات وجُمَلٍ لا تعني شيئًا، يخطُّها الناقدُ مُستحضرًا في ذهنه قارئًا واحدًا هو مؤلِّف الرواية التي يُمجِّدها المقال. فالمؤلِّف غالبًا ما يكون مِن أصدقاء الناقد أو مِن معارفه؛ لكن حتّى إن لم يُحسَب في عداد الأصدقاء أو المعارف، فلا ضير مِن إسداء معروفٍ له، علّه يُبادل الناقِدَ بالمثل.
هناك ثالثًا المقال «الموضوعي» الذي يعتَمِدُ نظريات النقد الأدبي الأكاديمي ومصطلحاته اعتمادًا سطحيًّا واستعراضيًّا يبعث على الملل.
ينقسم هذا النمط من النصوص إلى صنفَيْن، أحدهما لا تستأهِلُ مَعانيه التوقُّفَ. فمراجعات هذا الصنف عصيّة على الفهم حتّى لكُتَّابها، ومردّ ذلك أنّهم يستخدمون النظريات والمصطلحات الأكاديمية استخدامًا ببغائيًّا محضًا. أمّا الصنف الثاني، فيتمثَّل في المراجعات التي يبدو أنّ كتّابها يُجيدون– إلى حدٍّ ما– استعمال تلك المصطلحات والنظريات؛ إلّا أنّ دوافعَ استعمالِها، وأسبابَ شيوعِها في الصحافة، يكتنفها شيءٌ من الغموض. فهل النقد الأكاديمي مقاربةٌ تستحقّها كلُّ رواية حديثةِ الصدور؟ ألا تنبغي غربلةُ هذه الإصدارات أوّلًا، عبر تقييمها وإبداء الرأي فيها؟ أليست هذه هي الوظيفةُ الأساسُ للنقد الأدبي في الصحافة؟
لذا، لعلّه ليس مِن الإجحاف القول إنّ اللجوءَ المُتكرِّر إلى النقد الأكاديمي إنّما هو التِحافٌ بـ«الموضوعيّة» للتهرّب مِن تقييم الروايات المُتناوَلة وإبداءِ الرأي الصريح فيها. وهكذا يتبيَّن أنّ محتوى هذا النمط من النصوص ليس إلّا ستارًا يُسدِله الناقد على أفكاره وآرائه الحقيقيّة. فلا غرابة، إذًا، في أنْ يُصيبَ الضجرُ مَن يحاول قراءةَ مثل هذه الكتابات.
إذا كان النقد الأدبي على هذه الدرجة من الرداءة، فالسؤال البديهي هو: لماذا يبقى هذا المُنتَجُ الفاسدُ أو المغشوش قيد التداول في سوق الصحافة الثقافيّة اللبنانيّة؟ بيد أنّ مثل هذا السؤال مَبنيٌّ على افتراضٍ خاطِئ وهو ضرورة وجود قارئ للنقد. لكن ما أن نُخرِج القارئ من المُعادلة حتّى يتَّضِح لنا أنّ مُراجعةَ الكُتِب ليست إلّا عُملة من العُملات المُتداوَلة في الوسط الثقافي اللبناني بما هو شبكة تبادل مصالح وخدمات.
لا قيمة لتلك العملة إلّا داخل هذه الشبكة الضيّقة والمُغلقة على نفسها. وهي في ذلك تُشبه عملة «المونوبولي»، التي لا تصلح للتداول سوى في إطار اللعبة وقواعدها؛ أمّا في العالم الخارجي، حيث يعيش معظم البشر، فيستحيل شراءُ أيّ شيء بها.
لكن ما هي هذه اللعبة التي ينهمك بها أهلُ ذاك الوسط الثقافي المُتقَوقِع على نفسه؟ ولماذا يتبادلون في ما بينهم «نقدًا أدبيًّا» للروايات ودواوين الشعر وسواها من الكتب التي يُؤَلِّفونها؟ فما يبعث على الدهشة هو إدراك هؤلاء اللاعبين أنّ لا قيمة فعليّة لتلك العملة حتّى في الحيِّز الثقافي الذي يسكنونه. فالحال أنّ لا أحد منهم تقريبًا يحمل المراجعات الأدبيّة على محمل الجد والاعتبار، إذ يعلمون تمامًا أنّها إمّا حشوٌ فارغٌ– وصفيٌّ أو أكاديمي– وإمّا مديحٌ بروتوكوليّ لا معنى لأيّة كلمة من كلماته. فما قيمة تقريظِ روائيٍّ إذا كان الجميع، بما في ذلك الروائي نفسه، مُتيقِّنًا مِن أنّ التقريظَ لهو محض مجاملة؟ بعبارة أخرى: إنّ النقد الأدبيّ بما هو ضرب مِن تبادل الخدمات والمصالح ليس نفعيّاً بما يكفي لتعليل استمرار تداوله.
ربّما ليس مِن غايةٍ للُعبةِ النقد الأدبي سوى استمرار اللَّعِب. وذلك كي يتوهّم اللاعبون أنّ ثمّة شيئًا يحصل في عالمهم الضيّق والمنقطع عن الخارج، علّهم لا يَعونَ أنّ اللّعبة انعدمت قيمتُها وانتفى معناها منذ سنوات مديدة، فباتت مجرّد تمرينٍ في اجترار الخواء. وهم في ذلك مثل كُثرٍ مِن موظّفي الدوائر الرسمية اللبنانية، الذين ينبغي عليهم التظاهر بأداء وظيفةٍ، فيما الواقع أنّ لا وظيفة لهم. غير أنّ أولئك الموظفين يعلمون أنّ وظيفتهم الحقيقيّة هي التمثيل، بينما يجهلُ النقّادُ- على الأرجح- أنّهم يزاولون مهنةً مماثلة.
لِنتخيَّلْ أنّ مئة شخصٍ اجتمعوا لإقامة طقس ديني، وأنّ كلَّ فردٍ منهم فقد إيمانه منذ زمن طويل، فيؤدّي الطقسَ آليًّا بلا اكتراث. ها هم إذًا يتمتمون جميعهم عبارات بالكاد يفقهون معانيها، ويؤدّون حركات تبدو لهم في منتهى العبثيّة. لكنّ ذلك لا يحول دون أداء الطقس والاعتقادِ بأهميّته وجدواه.
هذه حال النقد الأدبي في صحافتنا.