أردتُ أن أبدأ المقال بهذه الجملة:
باتت صالات المسارح في بيروت تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة، وحين نصل في العدّ إلى رابع مسرح نتساءل إن أقفِلت أبوابه مؤقتًا أو إن انضمّ إلى لائحة الأماكن الأليفة التي اختفت من المشهد المعماري.
لم أستطع ذلك. فما أن رأيتها أحرفًا أمامي توقّفت عن الكتابة. شعرت بالإحراج. فالتفكير بأماكن العرض ومصيرها امتياز بحدّ ذاته، هذا يعني أن لديّ المساحة الفكريّة والعاطفيّة والاقتصادية الكافية كي أقوم بعمليّة ذهنيّة كهذه.
ما بالي أفكّر بالممارسة المسرحيّة وأنا أعيش تحت وطأة أزمةٍ وظيفتها تجريدي من أيّ فعلٍ عقلاني، فتصبح يوميّاتي سلسلة من ردّات فعلٍ غرائزيّة كفيلة بإبقائي قيدَ الحياة؟ ما بالي؟ هل فقدتُ كلّ تعاطف مع محيطي؟ هل نسيتُ أن إيقاع حياتنا مضبوط على ساعات تقنين الكهرباء والمولّد؟ على أيّام طويلة في طوابير محطات الوقود؟ على مفاوضات سعر الإيجار في كلّ أوّل شهر؟ على تغيّر سعر الصرف من الصباح حتّى المساء؟ على وداع من نحبّ في مطار بيروت؟ على أصوات العاملات الأجنبيات تحت سفاراتهنّ؟ على أسماء الذين يموتون كلّ يوم لأنهم لم يستطيعوا تأمين دواء؟ على حكايات الأطفال الذين أُخرِجوا من مدارسهم؟ على سفالة خطابات مجلس وزرائنا الإنقاذي؟ على عدد الأيّام التي مرّت على انفجار المرفأ وحكّامنا ما زالوا دون عقاب يرشّحون أنفسهم لانتخابات يفصّلون قانونها على قياسهم؟
هل نسيتُ كلّ هذه الهزيمة التي نتوارثها منذ أجيال وقرّرت بكلّ ثقة كتابة قطعة عن المسرح؟
أظنّ أنّي نسيت. وأنّي امرأة ساذجة.
لذلك أوّد الاعتذار على سذاجتي.
أعتذر أنّي أعرّف عن نفسي كفنّانة مسرحية، أعتذر من كلّ الذين يسألوني: ليه المسرح مهنة؟
أعتذر لأنّي وجدت في المسرح روح جماعة لم أجدها في أيّ تجمّع حزبي أو ساحة نضاليّة.
أعتذر لأنّ فعلي السياسي اليوم يحدث في صالة تمرين مغلقة مع ممثلات وممثلين، نناقش ونعيد ونكرّر لحظة مسرحية واحدة لساعات وساعات. فعل مقاومة يستحيل أن يسلبني إيّاه أحد أو أن يجرّده من معناه.
أعتذر لأنّ متعتي الأكبر هي في لحظات الصمت في المسرح حين تكون الصالة مليئة بالجمهور تترقّب كلّ حركة من حركات الممثلين على الخشبة.
أعتذر لأنّي أحبّ هذا الجمهور الذي يجلس في الظلام كيّ يسمع حكاية. لأنّي مدمنة على هذا الخوف الذي ينتاب جسدي عندما تُفتح الأبواب. لأنّي أنتظر ابتسامة أو كلمة من ناطور المسرح ونحن نوضّب أمتعتنا للرحيل في نهاية العروض.
أعتذر لأن أغلى ما لديّ هو الدفتر الذي أكتب عليه ملاحظاتي خلال كلّ فترة التمارين وفي صباح كلّ عرض.
أعتذر لأنّني يمكن أن أمضي ليلة كاملة بلا نوم كي أجد حلاً إخراجيًا للانتقال من مشهد إلى آخر.
أعتذر لأنّي أمضي ساعات عمل طويلة مع شريكي مصمّم الإضاءة لتشكيل مشهديّة ضوئية والمدينة قابعة في الظلام.
أعتذر لأنّني أحيانًا أغلق كلّ شبابيك شقتي الواقعة على تقاطع العدلية كي لا أسمع أصوات التظاهرات والمولدات وسيّارات الإسعاف والشرطة وأكمل كتابة نصّ ما.
أعتذر لأنّي وضعت أصوات العدلية والتظاهرات والمولدات وسيّارات الإسعاف والشرطة في نفس خانة الترداد الصوتي وجرّدتها من أيّ معنى سياسي.
أعتذر من كلّ الزميلات والزملاء المهاجرين الذين لا يتوقّفون عن إسداء النصائح بالرحيل لأنّه مستحيل بهيك جوّ تخلقوا أيّ عمل فنّي.
أعتذر من الصحيفة التي اضطرت للقيام بتحقيق طويل فيها حول المؤسّسات الداعمة لمشاريعنا الفنّية المشكوك بأمر تمويلها، فقد أعطتنا مساحة وحبراً أكثر ممّا نستحقّ.
أعتذر من كل موظّفي دائرة الرقابة في الأمن العام الذين يضطرون لقراءة نصوصنا غير المكتملة، أعتذر من كلّ لحظات الملل التي نسبّبها لهم حين يأتون مرغمين إلى المسرح لمشاهدة عروضنا.
أعتذر لأنّه بعد كلّ المصائب التي ألمّت بنا، عاد الفنّ اللبناني على خريطة السوق العالميّة وبات اقتصادي متعلّقًا بالخارج، فمصائب قومٍ عند قومٍ فوائد.
أعتذر لأنّي سأعود إلى جملتي الأولى:
باتت صالات المسارح في بيروت تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، وحين نصل في العدّ إلى رابع مسرح نتساءل إن أقفِلت أبوابه مؤقتًا أو إن انضم إلى لائحة الأماكن الأليفة التي اختفت من المشهد المعماري.
ولكن في كلّ ليلة عرض في هذه المسارح، يجتمع جمهور من كافّة أطياف المدينة حول خشبة مضاءة يخترقها بأجسادهم ممثلات وممثلون، ومع جمهورهم يصبحون بطلات وأبطالاً يرفضون موتًا حتميًا ليجعلوا من هذا المسرح مساحة لممارسة حريّة محتملة. لذا فالعمل المسرحي اليوم غير ضروري– إنّه جوهري.