كانت أمي قد انتهت من حياكة حرام صغير لي عندما بدأتُ بالبكاء. حان وقت الحليب. ولدتُ منذ أربع سنوات في لبنان على وقع الحرائق والمظاهرات وتسكير الطرقات. تزوّج أهلي قبل ذلك بسنة لأنّ أبي قرّر أنّه جمع ما يكفي في البنك وأنّه قد حان وقت الزواج. أمّا أمّي، فكانت لا تزال في منتصف عشريناتها، ولكنّهما أحبّا بعضهما بالفعل.
تزوّجا وانهارت البلاد بعد حمل أمي بساعات. ولدتُ مع مخاض بيروت في آبها، وعايشتُ في سنتَيّ الأولى والثانية كآبة أمّي وعجز أبي عن الوفاء بوعوده نحوي. تغيّر عليّ الحليب ولكن لم يتغيّر الأكل حسبما أذكر. لا أدري، هذا كان منذ زمنٍ طويل عندما كنت «بأوّل طلعتي»، كما يقولون.
اشتدّ القصف كثيراً أمس على بيروت، و لكن بكاء أمّي اليوم مختلف عن بكائها البارحة. غطّتني بالحرام الجديد، وضعتني أمامها، وفتحت تليفونها تشاهد وتبكي. أرسلَت لها خالتي فيديو لأمٍّ تحضن ابنها العائد من الجبهة، كأنّه كان مَيتاً فعاش. أعادت مشاهدة الفيديو مرّات عدّة حتى حفظت مطلعه: «يا ابني، يا حبيبي، بدّي اركع ع إجريك يا تقبرني».
بكت أمّي وبكيتُ لبكائها. دخل أبي الصالون بخطوات كبيرة وآثار الغبار والدموع على وجهه.
- قومي. أنا نازل ع صور.
- أيّ صور؟ هلّق؟ مش ع أساس بعد ما فينا؟
- ولك شو ما فينا؟ ليكي كيف عم نبكي. قدّيش النا مش حاسّين هيك؟ قومي نضبّ الشنط.
- ضبّيتهن مبارح.
غمرها أبي وانهمرت دموعها على معصمه حتّى بلغت كوعه. التفت لناحيتي ونزع عني الحرام.
- يلّا قوم راجعين ع بيتنا.
قفزت عن الكنبة وركضت نحو غرفة النوم. سحبت كيساً من المطبخ لأجمع كلّ ألعابي فيه. نادت أمّي الجيران الجدد لتوديعهم. نزحنا بسرعة ونغادر أسرع. حملني أبي على يمناه وطرق باب جارنا الجديد.
- صباحو جار
- أهلا محمد
- جايي قلّك انّه نحنا فالّين ومش باقيين هون متل ما كنت عم تخبّر الك شهر. يلّا باي جار.
وقف جارنا كمال مذهولاً. ليس من وقاحة أبي، إنّما من واقع أنّنا لن نبقى هنا. كانت نظريّته لا تحتمل الخطأ: «لجوء، استقرار، ولاية الفقيه». طلع غلطان.
- ع فكرة خيي كمال، أنا اسمي حسّان.
ركبنا السيارة مع حقائبنا وتركنا الفرشات والإعاشات لعائلات أخرى صابرة أكثر منا. تهيّأ لي أنّ حماسنا سيوصلنا أسرع من غيرنا، ولكنّني أخطأت الحساب. وصلنا إلى الطريق العام وانضممنا إلى جموع السيّارات الأخرى العائدة. استدارت امي نحوي: انسى آخر 4 سنين، هلّق بلّشت عيشتك.