يوميات
سلسلة
الحرب على لبنان
عمر ليزا

أرى نفسي في مرآة المصعد كل يوم

ورقة، قلم، طائرة (1)

27 تشرين الأول 2024
«أرى نفسي في مرآة المصعد كل يوم. كبرتُ عشرات السنين في أسابيع. لقد أحكموا الحصار على بيروت. أأنّهم يتبعونني؟»

كتب فادي هذه الجملة على دفتره ودخل الحمام للمرّة الثالثة اليوم. «عنّا رولو تواليت؟».
طبعاً عنّا. لقد تمونّا في الحرب ما يكفي لآلاف زيارات الحمّام– أكان بداعي الطبيعة أو بداعي الهلع. لدينا ما يكفي. ناولته أربعة رولويات (العرض المحدود الذي لا يموت)، وجلست في زاويتي من جديد. سئمنا القنوات العربية كما الأجنبية وسئمنا متابعة الحرب. أصبحت عبئاً على فادي.
مش قادر أكتب يا زلمي. كسمّ إسرائيل.

لم أتوقّع في يوم من الأيّام أن أسمع فادي يبرّر كسله، وأن أوافق. كان موهوباً بإيجاد الأسباب لمشاكله من دون البحث عن حلول. الآن يقول إسرائيل؛ وغداً ماذا؟

- «أحكموا الحصار» يا فادي؟
- شو؟
- ما شي ما شي. طلاع ومنحكي.

لم يكن لزيارة حمّام أن تثنينا عن مواصلة حديثنا عادةً، ولكنّ سؤالي كان يتطلّب الحضور. خرج  فادي وهو ينفض يديه. «هيدا السيفون والله عاد اشتغل تمام». أحسست بضرورة الزيادة على ملاحظته: «ايه، تمام».

- «أحكموا الحصار» يا فادي؟ إنت بتعرف شو الحصار؟ ثم توجّه إلى المطبخ وهو يتمتم: لاء هو شعور أكتر من حقيقة.

أردت أن أجيب، ولكنّه أسكتني. لم تحاصر إسرائيل بيروت بعد، رغم مزاعمها، ولا حتّى توغّلت برّاً، ولكن شعورنا بالعجز لا يمكن أن يُنكَر. ربّما أراد فادي أن يكتب عن عجزه، ولكنّه عاجز عن الكتابة.

عاد إلى مكتبه وجلس يحدّق بدفتره الخالي. شطب الجملة المكتوبة: «أرى نفسي في مرآة المصعد كل يوم. كبرتُ عشرات السنين في أسابيع. لقد أحكموا الحصار على بيروت. أأنّهم يتبعونني؟»، أشعل سيجارته الأخيرة وتنهّد تنهيدة ملأت الغرفة دخاناً. غالباً ما كنت أردّد أمامه: ربّما آن لنا أن نقتنع أنّ هذه هي حال البلاد الطبيعيّة وكفانا قلقاً، ولكنّه ما كان يستجيب. سمعناها في تسجيل لزياد الرحباني في صغرنا وأردت تحريك شيء ما في ذاكرة فادي. عبث. أردت كسر صوت الطيران بموضوعٍ آخر. «أنا أحبّ الحياة» أتذكر هذا الشعار؟ مَن لا يحبّها؟ أتذكر يوم كنّا ولدين نرجو أهلنا السماح للنزول إلى ساحة الشهداء؟ لم نكن نعلم من هو رفيق الحريري ولا كنّا نعلم ما هي الوصاية ومَن السوري مَن اللبناني. باصات معبّأة غادرت القرية وبقينا مرغمين في البيت. أتذكر الخطابات يومها؟ كم حلمنا بالنزول إلى بيروت. حلمنا بالعيش في بيروت. وها نحن هنا. كم كنّا موهومين.

- وين ما رحنا موهومين صديقي، كرَّرها فادي وهو يشرب من إبريق الزجاج. عم نشتري غالونات بلاستيك، نعبّيهن بابريق قزاز، بتقلّي مش موهومين؟

لم تعد تجدي معه الذكريات. حاضر الحرب أقوى من أن تمنعه الذاكرة.
بعد أن ترك الجريدة أصبح فادي يرتاب من كلّ شيء. وتفاقم ارتيابه مع تفاقم الحرب واقترابها. صوت الطيران اليومي وحده كفيل بأن يشعرك بأنّك مراقب، فماذا لو كنت ترتاب أساساً؟

يقلّب فادي بين المحطات مجدّداً. محاولات توغّل، استغلال دماء الشهداء، تحريض، تحليل…
أراه يحاول الكتابة ويدفع بالدفتر جانباً عند كلّ نبأ عاجل. لا أذكر أنّه أكل معي في الأسبوعين الأخيرين. ولا حتّى تحدّثنا كعادتنا. أعارني كتاباً الأسبوع الماضي، وعن غير عادة، لم يتّفق معي على موعد إعادته.

- راحت علينا صديقي
- طوّل بالك ما رح يصرلنا شي هون

قلتها و ندمت. خجلت من قولي وأقرباء فادي ما زالوا تحت القصف. أقربائي وعائلتي نجوا لمجرّد وجودهم في منطقة أخرى. ربما أُدرك الآن ما يقلق فادي. إنّها الصدفة والحظ. لطالما تمنّينا أن يحالفنا الحظ أو أن نصادف من الناس من يحبّنا، ولكن لم نحسب أبداً أن تعاكسنا ظنوننا.

- لم تتوقّع يا صديقي؟ ما متت؟ ما شفت مين مات؟

سحب فادي دفتره وأخذ يكتب كما لم أرَه من قبل.

الحرب غربال. لم أدرك مدى هشاشة صداقتنا قبل القصف. لم يبالِ زياد بالقصف على الجنوب إلّا عندما سمعني أطمئنّ على أقربائي الأسبوع الماضي. الآن وبعد القصف على بيروت، عاد زياد إلى حضن أبو زياد. الحرب غربال. أذكر كيف كان يجالسنا أبو زياد ليخبرنا عن ملاحمه في الحرب وكيف تصدّى لـ«الغريب»، وعندما أصبح الغريب في العام 2006 هو إسرائيل، التزم الصمت. أذكره متابعاً خطابات السيد حسن يوميّاً وقتذاك، مرتاباً من وضع البلد مطمَئنّاً لوضعه الأمني. «هون لا قصف ولا من يحزنون» وهذا لم يعنِ لي إلّا شيئاً واحداً. «هونيك» في قصف وفي من يحزنون. استشهد خالي وزوجته يومها، ولم يخبروني إلّا بعد أسبوعين. نقلني أهلي إلى المدرسة الرسميّة بعدها، بينما أكمل زياد والشباب صفوفهم عند الراهبات.
لا أستغرب الآن أن يكون لدى زياد بعض من رواسب أبو زياد. لكن ما أستغربه هو سذاجتي.
أكان يتطلّب الأمر حرباً كي أفهم زياد؟

سلسلة

الحرب على لبنان

«ورقة، قلم، طائرة»، سلسلة يعدّها عمر ليزا، بحثاً عن شكلٍ مغاير لبعض الأخبار المتداولة في ظلّ الحرب.

بالحرب الحشري ربحان | فكشن
انشالله بتتهنّوا | يوميات
رينو | يوميات
الحدود | فكشن
الدني بتهزّ، ما بتوقاع | فكشن
الريّس كميل | فكشن
عدنا؟ | فكشن

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاحتلال يجرف بساتين الليمون في الناقورة
سينما متروبوليس تعود
الجيش اللبناني تسلّم 3 مواقع عسكرية لمنظّمات فلسطينيّة دعمها الأسد
«ريشة وطن»، جداريات سوريا الجديدة 
21-12-2024
تقرير
«ريشة وطن»، جداريات سوريا الجديدة 
قتلى في حادث دهس لسوق ميلادي في ألمانيا
هكذا حرّر السوريّون أنفسهم من نظام الأسد
21-12-2024
تقرير
هكذا حرّر السوريّون أنفسهم من نظام الأسد