12 ربطة خبز، 5 كيلو موز صومالي، وخمس «ورقات»— هكذا كان سعر الرشوة على الحدود الشمالية في آخر زيارة سياحية لنا لحمص في التسعينات. أبلغونا هذه المرّة أن حدود المصنع مفتوحة، والخبز والموز غير ضروريَّين. انقسمنا إلى مجموعتين، فاطمة وفرح والأولاد في السيّارة، أنا وأحمد والفرش والثياب في البيك-أب. بعدما أمّنّا على عائلتينا مع أحد الأقارب، ربّط أحمد الأغراض وساعدته على فكّ غطاء الصندوق كي لا نُستهدَف. اتّصلَت بي فاطمة بعد قرابة نصف ساعة على انطلاقها:
- نحنا هلّق قطعنا الحدود.
- عذّبوكن؟
- مش فاضيين المعبر ملان.
- يلّا عال نحن وراكن بشي نصّ ساعة.
طمأنتُ أحمد وناولته عبوة الماء.
- معي تمر بدّك؟
- تمر يا زلمي؟ لأ
- اصطفل
أكملنا تجاوز السيارات البطيئة على مهل.
- ما بتحسّ الشوكولا تقليد التمر؟
- والبروستد تقليد الفلافل؟
- ايه هيك شي.
- وحياة الله انت بشو بالك؟
نظر أحمد إلى السماء وتوجّه إلى الطيران الإسرائيلي ساخراً منّي.
- عم تسمعوه؟
وكأنّهم سمعوه. بمجرّد أن نطق أحمد بهذه الكلمات، سقطت قذيفتان أمامنا بمئة متر. لمحتُ كرة النار وسيارتَين في الهواء قبل أن ينفجر بنا زجاج البيك-أب.
- شو صار؟
استدار أحمد صوبي وشظايا الزجاج المطحون تهرّ من شعره. نظرتُ في المرآة الخلفيّة متوقعاً غارة ثانية لم تحصل. لم أرَ سوى الناس يخرجون من سياراتهم مذعورين. أكثر من مئة سيارة على الحدود، يحاصرنا الطيران الإسرائيلي ولا يأبه. خرجت من السيارة تاركاً أحمد يستعيد أنفاسه. توجّهت صوب الحفرة والنار، وكلّما اقتربت كلّما علا الصراخ واختلط بالطنين في أذني. حاولت مساعدة مَن حولي ولكنّني لم أستطع استيعاب ما يحصل. حفرة بعمق خمسة أمتار فرّغت الطريق من السيارات والزفت والتراب. اقترب منّي رجل خمسينيّ لامع الشعر وقال: هيك قتلوا الحريري.
ردّت عليه حجّة سبعينيّة: ليك هيدا بشو باله.
خجل الخمسيني وأشعل سيجارة. وصل أحمد إلى الحفرة والدم الناشف على جبهته.
- مات حدا؟
نسينا للحظة أنّ القصف يرافقه الموت لأنّه لم يطَلنا بعد. نظرنا من حولنا نبحث عن السيارات المشتعلة فرأيناها على جهتَي التلّة الحدودية. صفارات الإسعاف لن تدوي حتّى فكّ السير وهذا كان شبه مستحيل. طيب. كيف سنصل إلى الشام؟ الطريق مقطوعة. قاطع الخمسيني صمتنا.
- ليك ملّا جورة، مسبح يا معلّم.
لم أتمالك أعصابي. لم يرق لي الرجل من الأساس. رمقته بنظرة قرف، وبصوتٍ حازم قلت:
- مبسوط بحالك؟ مسبح يا معلّم؟
تفاجأ وأجابني: شو؟ مذبحة مذبحة.
كمشني أحمد بيدي وسحبني نحو البيك-أب لتفادي الإحراج. أكملنا المشي إلى نهاية الزحمة لنخبر السيارات بالرجوع. حاولنا قدر الإمكان ولكن كان الجميع قد خرج من السيارات، ولن نخلي مئة سيارة أنا وأحمد وحدنا. لن نبادر. الأسبوع الماضي حاول ابن عمّي مساعدة جيرانه بإفراغ الشقّة، فاتّهمه السائق بالسرقة وضربه شباب الحيّ. حاولوا ربطه ولكن أبو أنيس نزل وفضّ المشكل وشكره على المساعدة في الكراتين. لن أبادر.
- افتحوا الطريق يا شباب! بدنا نرجع عكس السير.
صرخت بأعلى صوتي ولكن لم يسمعني أحد. صعدت على غطاء سيارة قريبة لأنظر من حولي، وإذ بي أرى العشرات من الناس يصعدون و ينادون مثلي.
- افتحوا الطريق يا شباب!
نزلت عن الغطاء محاولاً استيعاب الفوضى. كيف سنعبر إلى سوريا؟ فرح وفاطمة والأولاد سبقونا من دون عفش أو ملابس. البيك-أب يحمل ما تبقّى من البيت والثياب. أحاول الاتّصال بها من دون جدوى.
- ما في إرسال، جرّبت قبلك. قال أحمد وهو يتنهّد. بدأت بعض السّيارات بالرجوع عكس السير وأحسست بضرورة الرجوع إلى البيك أب. لربّما «بادر» أحد بالفعل؟
تمتمت في نفسي «ليك بشو بالي». سمعني أحمد وسحب مفتاح صندوق البيك-أب من جيبه وفتح الباب الحديدي. سحب غالونَي مياه ووضعهما أرضاً.
- في ناس ورا غايبة عن الوعي، الحقني.
حملت واحداً منهما ولحقت به من دون إغلاق باب البيك-أب. طزّ. مين باله؟ هرول أحمد أمامي بعدما رأى تجمّعاً حول أحدهم وقد أغمي عليه. اشتدّ الطيران فوقنا وأحسسنا بالموت يقترب من جديد. وصلت إلى التجمّع وكان أحمد يُهدئ المغمى عليه.
- ما في شي روق، تنفّس، شراب ميّ.
بعد أن شرب الماء عاد اللون إلى وجهه فتبسّم أحمد: هه شفت ما أحلاك؟ خلص ضربوا شو معقول بعد يصير؟
لم يكمل أحمد جملته حتى ضربوا مجدّداً الطريق التي بدأت تفرغ من خلفنا. وقف الجميع بصمت بعد هذه الغارة. حفرة أمامنا وحفرة خلفنا. مسبح يا معلّم. ركض الجميع نحو سيّاراتهم يحاولون الإخلاء ولكن إلى أين؟ أين يذهب من حوصِرت بلدته وبيته وعائلته وسيّارته؟ ردّدت الحجّة السبعينيّة وهي تهيم بين السيارات المتراصّة: هيدا الكان بعد ناقصنا، نتحاصر ع الحدود يا عبد الودود.
علق عبد الودود بين غربستان وشرقستان في فيلم «الحدود»، أضاع جوازه وبقي سجين المعابر. جواز الحجّة في جيبها. ما ذنبها؟ ما ذنبي؟ ما ذنب الجميع؟
كمشني أحمد من كتفي وجرّني نحو البيك أب.
- شو باك رح تفرط؟ بدنا نوصل اليوم.
رجعنا نحو الحفرة الأول وردمنا بأيدينا قدر ما استطعنا. تجمهرنا حولها نحدّق كمن يحدّق في قبره. نزل بعض الناس وبدأوا ينقلون أمتعتهم من السيارات إلى الحفرة، ثم تسلّقاً نحو حافّتها الأخرى. لم تكفِ الأنقاض الموجودة إلّا لردم ناحية واحدة من الحفرة. سحب أحمد الكراسي الصغيرة من البيك-أب وجلسنا في الظلّ ننتظر مَن ينتشلنا.
- بركي تاخدلها أكتر من ساعة.