تحليل الحرب على لبنان
سامر فرنجية

لم يعد هناك شيء يدعى «وقف إطلاق نار»

23 تشرين الأول 2024

مسيّرات و«حرب على الإرهاب»

هناك رمزية قاتلة في ما سمّي «الفيديو الأخير» ليحيى السنوار. مقاتل منهك، في بيت مدمّر، لم يبقَ له سلاح إلّا قطعة خشب، ربّما من أثاث ذاك المنزل، يرميها على مسيّرة تلاحقه بين الغرف، قبل أن ترسل المسيّرة نفسُها الأمر لدبابة خارج المنزل لكي تهدّه على رأس من فيه. لم نعد في زمن «أطفال الحجارة» في وجه الدبابات، الفارق بات أوسع، أكبر، وكأنّ الحرب باتت بين زمنين مختلفين. 

عندما نواجه ظاهرة جديدة تكون ردّة الفعل الأوليّة والطبيعية إرجاعها إلى أمثلة نعرفها من الماضي لكي نحاول فهمها كتكرار لما جرى. وهذا ما حصل مع العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان. فحاولنا فهم ما يجري قياسًا بالحروب الإسرائيلية السابقة على لبنان، 1978، 1982، 2006، مع ترسانة المفاهيم والكلمات التي أنتجتها هذه الحروب، من قرارات دوليّة أو «اتفاق هدنة» أو قرار وقف إطلاق النار أو بسط سيادة الجيش على جنوب الليطاني.

لكن يبدو، وبعد أكثر من شهر على إطلاق العدوان، أنّ كل هذه المفاهيم أو الحلول أو التفسيرات خارجة عن سياق الحرب الجديدة، وكأنّها مفاهيم من زمن ولّى. نحن أمام حرب من نوع جديد، قد لا تصلح حلول الماضي لضبطها أو الكلمات المعتادة لفهمها. فكما كتب فادي بردويل في مقالته «حرب ما بين الذاكرة والخيال»، ما شهدناه في الأسابيع والأشهر الأخيرة ليس مجرّد تغيير لقواعد الاشتباك، بل إعادة تشكيل جذري للأرضيّة التي يجري الاشتباك عليها

تغيّرت طبيعة الحرب أو أرضية الاشتباك، وهذا بسبب تحوّلَيْن أساسيَّيْن. الأول هو التفوّق التقني الإسرائيلي الذي حوّل طبيعة المواجهات العسكرية، كما غيّر مفهوم السيطرة على الأرض والميدان. أمّا الثاني، فهو الترسانة المفهومية والقانونية لـ«الحرب على الإرهاب»، والتي شرّعت عنفًا غير محدود على ما وصفته بـ«الإرهابي»، بعدما أخرجته من القيود القانونية التي كانت تحيط بالحروب سابقًا. وهذه الحروب، كما خلص بردويل، لا تنتظم ضمن القواعد التي نعرفها عن الحروب:

احتمال الحرب المفتوحة يُلازم الحروب الاستئصالية كظلّها. «الحرب على الإرهاب»، ليست حرباً على دولة محدّدة، أو حتى فصيل إرهابي معيّن، بل حرب متواصلة على شعور ما (الإرهاب) ناتج عن أفعال تهدف إلى ترويع المدنيين. لا ينطبق عليها إذاً مفهوم وقف إطلاق النار التقليدي بين طرفين. وهي بذلك تشبه الحرب على المخدرات بأنها دائمة ومتواصلة (forever wars)، وإن اختلفت وتيرتها بين فترة وأخرى.


لبنان مسرحًا لحرب دائمة

المشهد مخيف. سيارة رباعية الدفع تحترق على جانب الأوتوستراد. رجل وامرأة يحاولان الهرب، يحاولان الابتعاد عن السيارة التي تحترق، يستهدفهم صاروخ آخر من مسيّرة، يركضان أكثر بحثًا عن مكان آمن من هذه المسيّرة الخفية، صاروخ ثالث، يستشهدان. زحمة سير لخمس ساعات، السير يعود إلى طبيعته من بعد الحادثة. انتهت المهمّة. 

إذا قبلنا بفرضية أنّ طبيعة الحرب التي نشهدها اليوم تختلف عن الحروب التي عرفناها في الماضي، فنهايتها ستكون أيضًا مختلفة عما اعتدنا عليه بالماضي. وانطلاقًا من طبيعة هذه الحرب كحرب مفتوحة ومتواصلة، ما تريده إسرائيل هو ما تقوم به إسرائيل حاليًا، أي تحويل لبنان إلى مسرح لحرب دائمة، قد تستكين في بعض الأحيان قبل أن تشتعل جراء استهداف أو ضربة، كما حدث مع ليلة قصف «القرض الحسن»، تحت سيطرة كاملة على المجال الجوي واختراق استخباراتي ممنهج. فما نشهده اليوم من حرب ليس تمهيدًا لمرحلة تفاوض مستقبلية قد تنهيها، بل الخطوة الأولى لتحويل لبنان إلى هذا المسرح الدائم لـ«الحرب على الإرهاب» غير مضبوطة بأي قانون أو قرار دولي. 

وهذا ليس مجرّد تحليل، بل ورد في التسريبات عن المطالب الإسرائيلية التي تريد الحصول على موافقة رسمية لجيشها كي يضرب أي هدف يعتبره خطرًا عليه، بالإضافةً إلى حرية العمل في المجال الجوي اللبناني. هذه المطالب تأتي إضافةً إلى القرار 1701 الذي يبدو أنّه يتحوّل كي تصبح المنطقة جنوب الليطاني منطقةً منزوعة السلاح وتحت سيطرة أمنية مختلفة عمّا نعرفه اليوم، ناهيك بمطالبة إسرائيل بسيطرة ما على المعابر الحدودية. كما تضاف هذه المطالب على الخرق البنيوي لقطاع الاتصالات ومراقبة إسرائيل للأجواء، وهو ما حصلت عليه أصلًا منذ سنوات. كل هذه المطالب، إن تحققت أو لم تتحقّق، تدخل تحت عنوان «لبنان كساحة دائمة للحرب»، أي أنّ أمن إسرائيل، حسب هذا المنظور، بات يتطلب تحويل لبنان إلى ساحة كهذه، تحت سيطرة الجيش والاستخبارات الإسرائيلية، خارج أي وساطة دوليّة أو اتفاق مع لاعب خارجي، أكان الدولة اللبنانية أو حزب الله أو إيران. ما تريده إسرائيل هو ما يحصل الآن، لا أكثر ولا أقلّ


لا وقف لإطلاق النار

رجال ترتدي ربطات عنق، تقوم بزيارات مكوكية، تتكلّم عن قرارات دوليّة ووقف إطلاق نار وآليات تطبيق. لكنّهم يدركون أن لا دور لهم، أن كلامهم هو فقط للاستهلاك الصحفي، ولا علاقة له بالحرب الدائرة ومسيّراتها. لا يدركون هذا وحسب، بل إنّ المفاوض الأساسي استقال من منصبه ليذهب إلى عمله الجديد بالقطاع الخاص. كانت زيارته «وداعية» قبل ترك الحرب لوحدها لتدبّر أمورها. 

ما تريده إسرائيل هو ما يحصل الآن، لا أكثر ولا أقل، أي أنّ التفاوض ليس على مستقبل لم تحقّقه الحرب بعد، بل على تثبيت ما حقّقته حتى الآن «رسميًا»، أي تحويل لبنان إلى مسرح لحرب دائمة. وهذا ليس نابعًا من «شرّ» الطرف الآخر أو أطماعه وحسب، بل ممّا تسمح به «التقنيّة» من أهداف عسكرية كانت مستحيلة في الماضي. وما تسمح به التقنية هو الاستغناء عن مشاركة الطرف الآخر في الاتفاق. 

فليس هناك من طرف مقابل للتفاوض معه من وجهة نظر الإسرائيليين. حزب الله هو «الإرهاب» الذي اتُّخِذ القرار بالقضاء عليه. أمّا الدولة اللبنانية، فليس لديها أي مصداقية في إبرام أي اتفاق أو تأمين تطبيقه. والعلاقة الكارثية بين إسرائيل والمنظمات الدوليّة لا تجعل من قراراتها ضامناً أو رادعاً لإسرائيل. وليس من دلالة لغياب «الطرف المقابل» أكثر من غياب أي مطلب مضادّ، غير وقف إطلاق النار. فالموقف اللبناني بات أقرب إلى موقف «إنساني» يطلب ممّن قرّر أن يدمّره ألّا يدمّره.

في وجه التقنيّة، يبدو الكلام فارغًا، وكأنّه ينتمي إلى زمن ولّى. وما صمت الإسرائيليين عن أهدافهم إلّا دليلًا عن انتهاء صلاحية الكلام، ومعه انتهاء صلاحية سلسلة من المفاهيم التي نظّمت الحروب بين البلدين، من القرارات الدولية والحدود والسيادة والردع وقواعد الاشتباك. التقنيّة حقّقت أهدافها، أي تحويل لبنان إلى «ساحة دائمة للحرب»، والتفاوض هو على مدى شرعنة هذا الواقع. التفاوض ليس على وقف إطلاق النار، بل على مدى شرعية هذا الإطلاق. والرادع الوحيد تقني، مرتبط «بكلفة» إدارة الحرب على الإسرائيليين. 


تهالك الداخل

رجال أمن يحوّطون مبنى، يريدون طرد النازحين منه، وقد لجأ هؤلاء إليه جراء حرب ليسوا مسؤولين عنها. حولهم، شاشات تلفزة تحرّض وتصعّد وتخوّن. مقاوم يطلّ من الخزانة، منقذ يطلق مؤتمره لإنقاذ البلاد، مفاوض يطالب بدولة، رئيس حكومة يشعر بالذنب لتقصيره. مبنى على الطيونة ينهار بعد استهدافه. عودٌ على بدء.

ربّما كان أول «شهيد» لعدوان التقنيّة هو النظام السياسي اللبناني الذي ظهر خارج الزمن، وكأنّه تجمّع لفعاليات في مهرجان صيفي، يتكلّمون عن قرارات دوليّة أو هدنة، وكأنّ هناك من يفاوض معهم أو بحاجة للتفاوض معهم. 

بأقلّ من شهر، بدا حزب الله متهالكاً، تحوّلت صورته من هذا المارد العقلاني والتقنيّ، على عكس باقي حركات المقاومة في المنطقة، إلى حزب أشبه بالفصائل الفلسطينية بعد انهيار منظمة التحرير، أي قوى سياسية تنتمي إلى زمن انتهى. بدا حزب الله وكأنّه ينتمي إلى مرحلة ولّت، مرحلة المحاور والردع، مرحلة قواعد الاشتباك والمعادلات الدموية، مرحلة الدولة ضمن الدولة. لم يسقط حزب الله جراء الميدان وحسب، بل سقط لانتهاء صلاحية مقاومته في زمن التقنيّة. 

لكنّ حزب الله ليس وحده مَن خرج من الزمن. خصومه أيضًا باتوا خارجه، وهم يتخيّلون أنّ للداخل السياسي دورًا في المرحلة القادمة، من انتخاب رئيس إلى بناء مؤسسات للدولة. فما زالوا في مرحلة «الابتزاز السيادي»، يتخيّلون أنّ هناك مَن هو بحاجة إليهم لضمان هدنة أو اتفاق أو استقرار. لم ينتبهوا إلى أنّ لا سيادة ممكنة في هذا السيناريو، إن وضعنا جانبًا السيادة الفولكلورية المجسّدة بعلم وباسبور ومواسم ضرب «الغريب». فمن اخترق قطاع الاتصالات وسيطر على الأجواء الجويّة لا يحتاج إلى «مؤسسات دولة» أو جيش أو حتى عملاء. 

كان سؤال السياسة في لبنان يترنّح تحت ضغط «معضلة حزب الله»، وذلك قبل أن تأتي الأزمة الاقتصادية وتغيّر أرضية هذه الأسئلة. أمّا الآن، فربّما يعتقد البعض أنّ الحرب قد تحلّ «معضلة حزب الله»، إن ضغطنا بعد أكثر على الحزب المنهك عسكريًا، لكنّ هذا الموقف ينمّ إمّا عن رغبة بالانتقام وإمّا عن كسل فكري، وإمّا عن الإثنين معاً. لكن إن وضعنا هذا الموقف جانبًا، سنلاحظ أنّه ما من ضربة قاضية، بل تحوُّل لهذه المعضلة، يفرض مواجة أسئلة السيادة والحرب الأهلية وإمكانية السياسة بينهما.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
فكشن

الدني بتهزّ، ما بتوقاع

عمر ليزا
37 شهيداً في عدوان يوم الثلاثاء 5 تشرين الثاني 2024
بري: المفاوضات في ملعب إسرائيل
9 غارات تستهدف الضاحية الجنوبية
تخوّف من تفخيخ جيش الاحتلال مستشفى ميس الجبل الحكومي