بحسب توصيات منظّمتَيْ هيومن رايتس واتش ومنظمة العفو الدولية (أمنستي)، تمرّ مصر بأسوأ حقباتها الحقوقية. فقد أظهرت التقارير الحقوقية أنّ الحكومات المتتالية، تحت رئاسة السيسي، لم تترك ركنًا في حقوق الإنسان إلّا وانتهكته، بدءًا بحقوق المواطنين المصريين وانتهاءً بالطرد القسري للاجئين المعترف بهم من قبل القانون الدولي ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن غاية القوانين في مصر، هل هي لحماية المواطنين أم لحماية الطبقة الحاكمة؟
ومن هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان قانون مكافحة الإرهاب بمصر، الذي صدر في آب عام 2015. كانت الحجّة لإصداره انتشار الجماعات الإرهابية المسلحة وحاجة النظام المصري لقمع المشاركين في أعمالها. إلا أنّ هذا القانون استُخدِم لأغراض أخرى، كمحاسبة كلّ مَن تجرّأ على معارضة الحكومة أو النظام، وأحيانًا حتى مَن لم يتجرّأ لكن أخذته الصدفة السيئة للمكان الخطأ في الوقت الخطأ.
من قانون الطوارئ إلى قانون مكافحة الإرهاب
نجد بذور قانون مكافحة الإرهاب في قانون الطوارئ الذي خرج إلى النور في عام 1958. كان من المفترض العمل به حصرًا في حالات الحروب والأوبئة والكوارث العامة أو الاضطرابات الداخلية. نصّت مواده على منح رئيس الجمهورية صلاحيات غير محدودة في حكم البلاد بالطريقة المناسبة وبلا أي قيود. يعطي القانون صلاحيةً لرئيس الجمهورية بفرض قيود غير محدودة على الأفراد، بدءًا من حظر التجوال والقبض على كل من يشتبه الأمن فيه بدون تهمة، وصولًا إلى الاعتداء على الملكيات الخاصة دون إذن تفتيش أو تصريح بالاستيلاء عليها.
استخدم القانون فعليًا لأول مرة خلال حرب 1967. لكن تمّ تمديده عدة مرات على مدار أكثر من 40 سنة بدون توفر سبب من الأسباب المذكورة. ولمدة ثلاثين عامًا، شكّل هذا القانون المرتكز القانوني لنظام حسني مبارك والمبرر القانوني للإعتداء على الحقوق والحريات العامة والقيام باعتقالات قسرية وفي الكثير من الأحيان التعذيب حتى الموت في السجون. واستمر العمل به إلى أن تم إلغاؤه في عهد السيسي.
لكن بعد مرور أكثر من عشر سنوات على التخلّص من صورة النظام السابق، ما زال شبح قانون الطوارئ يطاردنا في ذكرياتنا وذكريات ثلاثة أجيال (على الأقل) من قبلنا. لكنّه لا يقبع في الذكريات وحسب، بل عاد في شكل قانون مكافحة الإرهاب، الذي يعطي الصلاحيات نفسها التي كان يقدمها القانون السابق، ولكن على الأشخاص الذين تثبت عليهم تهمة الانضمام إلى أو تأسيس جماعة إرهابية.
من هو الإرهابي؟
ما سمح بتوسيع نطاق عمل قانون مكافحة الإرهاب هو التعريف الفضفاض للإرهاب الذي اتبعه النظام المصري. هكذا أصبح آلاف المواطنين ومئات الطلاب والشباب في مصر «إرهابيين» بسبب التعريف الفضفاض لجريمة الإرهاب. فبحسب تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، صدر وقت إعلان القانون عام 2015:
يتجاوز هذا القانون بشكل كبير تعريف الإرهاب الذي اعتمده مجلس الأمن بالإجماع في 2004 والذي أقرّه المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بمكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان في وقت لاحق. وينص ذلك التعريف على أن الإرهاب عمل يُرتكب بقصد القتل وإحداث إصابات بدنية خطيرة، أو أخذ رهائن بهدف تخويف أو ترويع السكان أو إرغام حكومة أو منظمة دولية على شيء ما.
كما يتعارض قانون مكافحة الإرهاب الجديد في مصر مع مبدأ أساسي في القانون الدولي لحقوق الإنسان ينص على أن تُصاغ القوانين بشكل دقيق وتُفهم على أنها ضمانة ضدّ الاستخدام التعسفي، وتُعرّف الناس على الأعمال التي تعتبر جرائم.
على الرغم من انتهاء الإرهاب المسلح في مصر، بحسب تصريحات رئيس الجمهورية، استمر العمل بقانون مكافحة الإرهاب. لكن في حقيقة الأمر، الغالبية العظمى من المتهمين ليسوا إرهابيين مسلحين أو حتى عزّل، بل هم سجناء رأي أو أناس بسطاء تمّ اعتقالهم لأسباب مختلفة ووضعت اسماؤهم على قضايا الإرهاب. ففي ولاية سيناء على سبيل المثال، بحسب تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، تضمنت العمليات العسكرية للجيش تعاونًا مع حلفائه في سيناء، وهي ميليشيات تجنِّد الأطفال الذين قُتِل بعضُهم أو جُرحوا في تلك العمليات. يتغاضى الجيش عن تجنيد الأطفال وفقدانهم هنا، لكن في حالة اكتشاف وجود صلة لنساء وفتيات بأعضاء «يُشتبَه» في صلتهم بتنظيم الدولة الإسلامية، يسمح آنذاك بتعذيبهنّ وإخفائهنّ قسريًا.
أفاد تقرير آخر للمنظمة نفسها في عام 2023 عن استخدام قانون مكافحة الإرهاب في احتجاز نساء بعد أن هربن من منظمة داعش الإرهابية، وطلبنَ المساعدة من السلطات. وذكر التقرير على لسان المدير التنفيذي لـ«مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان»:
تُسيء السلطات المصرية معاملة العديد من النساء والأطفال في شمال سيناء لانتزاع معلومات عن أقاربهم المشتبه بانتمائهم إلى الجماعة التابعة لداعش أو الضغط عليهم لتسليم أنفسهم. ينبغي للسلطات الإفراج فوراً عن جميع النساء والفتيات المحتجزات لمجرد قرابتهن أو ارتباطهن برجال مشتبه فيهم، والتحقيق في تعرضهن للتعذيب وسوء المعاملة
وفي العام الحالي، تمّ الاعتداء على منزل رسام الكاريكاتير أشرف عمر واقتياده إلى أحد مراكز الأمن الوطني. ظهر بعد يومين في نيابة أمن الدولة العليا بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار وبيانات كاذبة وإساءة استخدام مواقع التواصل الإجتماعي. وذكرت زوجة أشرف عمر أنه تمّ سرقة مبالغ كبيرة وأجهزة إلكترونية من منزلهما، ليصل إلى علمها بعد ذلك أن زوجها قد تعرّض للتعذيب من قبل قوات الأمن. وفي واقعة أخرى، تمّ إختطاف مؤسس «الحركة المدنية» يحيى حسين عبد الهادي، وظهر بعدها بالتهم ذاتها، بحسب المحامي خالد علي.
تهم الإرهاب وممارسات الحكومة
ينصّ قانون مكافحة الإرهاب على عدد من التهم التي باتت تنطبق على ممارسات الحكومة. مثلًا:
...إلحاق الضرر بالبيئة أو بالموارد الطبيعية أو بالآثار أو بالأموال أو بالمباني أو بالأملاك العامة أو الخاصة أو احتلالها أو الاستيلاء عليها أو منع أو عرقلة السلطات العامة أو الجهات أو الهيئات القضائية أو مصالح الحكومة أو الوحدات المحلية أو دور العبادة أو المستشفيات أو مؤسسات ومعاهد العلم أو البعثات الدبلوماسية والقنصلية أو المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية في مصر من القيام بعملها أو ممارستها لكل أو بعض أوجه نشاطها أو مقاومتها أو تعطيل تطبيق أي من أحكام الدستور أو القوانين أو اللوائح.
بعد أكثر من عشر سنوات على بداية حكم السيسي، أدّت قراراته وقرارات حكوماته إلى الإضرار بالاقتصاد الوطني والمخزون الأمني للموارد المختلفة ومخزون الطاقة والبيئة والموارد الطبيعية والآثار. أما استثماراتها، فتؤثر بشكل مباشر على قيمة أموال وأصول الدولة والأملاك العامة والخاصة. أمّا بالنسبة لاستقلال السلطات القضائية ومبدأ فصل السلطات، فأصبحت من القصص الأسطورية بفضل التعديلات الدستورية طبقًا لدستور 2019.
وهنا مثلٌ آخر:
يُقصد بالعمل الإرهابي كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع في الداخل أو الخارج بغرض الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع أو مصالحه أو أمنه للخطر أو إيذاء الأفراد أو إلقاء الرعب بينهم أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو حقوقهم العامة أو الخاصة أو أمنهم للخطر أو غيرها من الحريات والحقوق التي كفلها الدستور والقانون أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو الأمن القومي.
تستخدم قوات الأمن الوطني القوة والعنف والتهديد والترويع في الداخل، وتمتدّ أذرعها إلى الخارج، بهدف إيذاء الأفراد وإلقاء الرعب في ما بينهم عن طريق تعريض حياتهم وحرياتهم وحقوقهم العامة والخاصة وأمنهم للخطر، بهدف قمع وتقييد الحريات والحقوق التي كفلها الدستور والقانون.
بالنسبة للحكومة والرئيس، أصبح الإرهاب عذرًا سائغًا في كل الخطابات لكل أنواع الفشل الإداري والتشريعي والتنفيذي. في الواقع، هو غير موجود على أرض الواقع لأن من كان من الممكن اتهامه بالإرهاب انتهى منذ عدة سنوات. أمّا من يمكن محاسبته على ارتكابه أفعالاً إرهابية بحسب القانون، فهي الحكومات المتتالية برئاسة السيسي.